دراسة الكتاب المقدس


سفر التثنية
سفر توصيات موسى الوداعية لبني إسرائيل
- 12 -

(تابع) الأصحاح الرابع:
الناموس والدينونة (تث 4: 25-31)

على قدر ما كان المستقبل باهراً، والشعب مُقبلٌ على امتلاك نصيبه الذي وعده به الله منذ خروجه من أرض مصر، والرجاء يملأ قلوبهم بالفرح لاقتراب دخولهم إلى أرض الموعد التي ظلوا يتطلَّعون إلى الوصول إليها على مدى أربعين سنة من الترحال؛ على قدر ما كان تحذير موسى لهم شديداً للغاية لئلا يُغضِبوا الله الذي عاهدهم بأن يُعطيهم هذه الأرض لكي يكونوا له شعباً مُكرَّساً ويكون هو لهم إلهاً، وذلك بقوله لهم:

+ «احترزوا من أن تنسوا عهد الرب إلهكم الذي قطعه معكم، وتصنعوا لأنفسكم تمثالاً منحوتاً، صورة كل ما نهاك عنه الرب إلهك، لأن الرب إلهك هو نارٌ آكلة إلهٌ غيور» (تث 4: 24،23).

لقد كان على بني إسرائيل أن يحترزوا لأنفسهم من العقاب الذي لابد أن يقع عليهم إذا هم استهانوا بالعهد الذي قطعه الرب معهم، فإن كان الرب قد غضب على موسى كليمه لأجل كلمات قليلة فرطت منه فمنعته من دخول أرض الموعد، فعليهم أن يعرفوا عواقب تركهم للرب وعدم احتفاظهم بالولاء الكامل لإلههم: «لأن الرب إلهك هو نارٌ آكلة إله غيور».

وكلمة ”غيور“ في الأصل العبري تفيد الغيرة من أجل البر، وهذه الغيرة نابعة من قداسة الله، وقد وردت بعد ذلك مرتين في (تث 5: 9؛ 6: 15). كما أنها مؤسَّسة على محبته الشديدة لشعبه الذي اقترن به بعهد مقدس، كما يقترن العريس بعروسه، إذ يقول الرب عن هذه العلاقة: «إن قسم الرب هو شعبه، يعقوب حبل نصيبه، وجده في أرضٍ قفر وفي خلاء مستوحش خَرِب، أحاط به ولاحظه وصانه كحدقة عينه» (تث 32: 10،9). لذلك فالرب يغار على شعبه ولا يرضى إلاَّ بأن يُبادله حبّاً بحب، ويحبه من كل القلب ومن كل النفس ومن كل القدرة (6: 15).

من أجل ذلك، فقد كان أخشى ما يخشاه موسى أنَّ الشعب، في غمرة استمتاعه بالأرض الجيدة وخبراتها وبمُضيِّ الزمن؛ ينسى ارتباطه بالعهد الإلهي. لذلك يُخاطبه قائلاً:

+ «إذا ولدتم أولاداً وأولادَ أولادٍ، وأطلتم الزمان في الأرض وفسدتم وصنعتم تمثالاً منحوتاً، صورةَ شيءٍ ما، وفعلتم الشر في عيني الرب إلهكم لإغاظته؛ أُشهِد عليكم اليوم السماء والأرض، أنكم تبيدون سريعاً عن الأرض التي أنتم عابرون الأُردن إليها لتمتلكوها. لا تُطيلون الأيام عليها بل تَهلِكون لا محالة. ويُبدِّدكم الرب في الشعوب، فتبقون عدداً قليلاً بين الأُمم التي يسوقكم الرب إليها. وتصنعون هناك آلهةً صنعة أيدي الناس من خشب وحجر مِمَّا لا يُبصِر ولا يسمع ولا يأكل ولا يشمُّ» (تث 4: 25-28).

لقد أشهد موسى السماءَ والأرضَ عليهم، على أساس أن أي عمل يُعمل فإنما يتم تحت السماء وعلى الأرض، فكأنه يستدعيها لكي تشهد عليهم يوم دينونتهم.

والواقع أنه قد نفذ المحظور، ووقع هذا العقاب الصارم على بني إسرائيل عدة مرات خلال تاريخهم الطويل، وتم سبيهم إلى أرض غريبة، وتشتَّتوا بين الشعوب مراراً كثيرة بسبب تركهم إلههم. إلاَّ أن موسى - رغم كل هذه التحذيرات الشديدة وتنبُّؤاته بابتعادهم من الرب إلههم وإغاظتهم له بشرورهم، ووقوعهم تحت طائلة عقابه وتشتيتهم بين الشعوب - فإنه يفتح لهم باب الرجاء بناء على ثقة موسى القوية في طبيعة الله التي تفيض بالحنان والرحمة. فإنه لا يمكن أن ينسى عهده وميثاقه مع قديسيه الذين أحبوه وحفظوا وصاياه، بشرط أن يرجع الأبناء إلى الرب ويلتمسوه بكل قلوبهم. لذلك فإنه يضيف قائلاً:

+ «ثم إن طلبت من هناك الرب إلهك، تجده إذا التمسته بكل قلبك وبكل نفسك، عندما ضُيِّق عليك وأصابتك كل هذه الأمور في آخر الأيام ترجع إلى الرب إلهك وتسمع لقوله. لأن الرب إلهك إله رحيم لا يتركك ولا يُهلكك ولا ينسى عهد آبائك الذي أقسم لهم عليه» (تث 4: 29-31).

فالله لا يمكن أن ينكر نفسه، بل إنه يظل أميناً على عهده مع قديسيه، وهكذا فإنه يؤدِّبهم لكي يعرفوا سقطتهم، حتى متى تابوا يعود ويرحمهم. وهذا ما رأيناه في مَثَل الابن الضال الذي ضيَّق الرب عليه في الغربة حتى رجع إلى نفسه.

وقد سبق الرب وأنذرهم قبلاً على لسان موسى، في ختام شرائعه التي أعطاها لهم في سفر اللاويين، بعد أن عدَّد لهم البركات والنِّعَم التي يُكافئهم بها إذا أطاعوا وصاياه، ثم بيَّن لهم عواقب عدم طاعتهم والعقوبات واللعنات التي تحيق بهم وتحل عليهم إذا هم عصوا وتمردوا، ثم خاطبهم بعد ذلك قائلاً: «لكن إن أقرُّوا بذنوبهم وذنوب آبائهم في خيانتهم التي خانوني بها وسلوكهم معي الذي سلكوا بالخلاف... متى كانوا في أرض أعدائهم ما أبَيْتُهُم ولا كرهتهم حتى أُبيدهم وأنكث ميثاقي معهم، لأني أنا الرب إلههم، بل أَذكُر لهم الميثاق مع الأوَّلين... أنا الرب» (لا 26: 40-45).

هنا يؤكِّد الرب لهم أنه إذا عاقبهم وشتَّتهم في بلادٍ غريبة بسبب عصيانهم وصاياه، فليس ذلك لكونه رفضهم أو كرهتهم نفسه حتى يبيدهم وينكث ميثاقه معهم، وإنما لكي يعودوا إليه ويرجعوا فيقبلهم: «ارجعوا إليَّ أرجع إليكم، قال رب الجنود» (مل 3: 7)، «ارجعوا إلى الرب إلهكم، لأنه رؤوف رحيم بطيء الغضب وكثير الرأفة ويندم على الشر» (يؤ 2: 13).

وهذا ما يقوله الرب لكل إنسان خاطئ يترك طريق الله ويسلك في طريق الشر والخطية وينسى عهده مع مَن أحبه وفداه بدمه. فالله لا يُسرُّ بموت الخاطئ، بل بأن يرجع وتحيا نفسه: «لأن هذا حسن ومقبول لدى مخلِّصنا الله الذي يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يُقبلون» (1تي 2: 4،3). فما أعظم محبة الله للإنسان التي عبَّر عنها قائلاً: «لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل مَن يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية» (يو 3: 16).

عودة إلى معاملات الله معهم على مدى التاريخ (تث 4: 32-40):

عاد موسى مرة أخرى يُذكِّر الشعب بمعاملات الله الخاصة جداً معهم على مدى التاريخ، فاسمعه يقول لهم لكي يشحذ هممهم ويُشدِّد إيمانهم وتمسُّكهم بإلههم المُحب:

+ «فاسأل عن الأيام الأولى التي كانت قبلك من اليوم الذي خلق الله فيه الإنسان على الأرض ومن أقصاء السماء إلى أقصائها، هل جرى مثل هذا الأمر العظيم أو هل سُمِع نظيره؟ هل سمع شعبٌ صوتَ الله يتكلَّم من وسط النار كما سَمِعتَ أنت وعاش؟ أو هل شرع الله أن يأتي ويأخذ لنفسه شعباً من وسط شعبٍ بتجارب وآيات وعجائب وحرب ويدٍ شديدة وذراع رفيعة ومخاوف عظيمة مثل كل ما فعل لكم الرب إلهكم في مصر أمام أعينكم؟ إنك قد أُرِيتَ لتعلم أن الرب هو الإله. ليس آخر سواه. من السماء أسمعك صوته ليُنذرك، وعلى الأرض أراك ناره العظيمة وسمعت كلامه من وسط النار. ولأجل أنه أحب آباءك واختار نسلهم من بعدهم، أخرجك بحضرته بقوته العظيمة من مصر، لكي يطرد من أمامك شعوباً أكبر وأعظم منك، ويأتي بك ويُعطيك أرضهم نصيباً كما في هذا اليوم» (تث 4: 32-38).

تُعتبر هذه الفقرة من الحديث الأول لموسى أخطر وأقوى ما نطق به موسى مُخاطباً شعبه من خبرات الماضي. فهي قمة في التصوير لمحبة الله الفائقة لشعبه التي لم يسبق لها مثيل في التاريخ ولم تتكرر قط، وكان كمالها في تجسُّد ابن الله الكلمة وحياته في وسط البشر ثم موته وقيامته المجيدة وحلول الروح القدس على التلاميذ. وهي أيضاً قمة في التعبير الذي يُشبه الشعر في صيغة نثر. فقد طفق موسى يسأل الشعب عمَّا إذا كان قد حدث منذ بدء الخليقة أن حظيت أُمة أخرى مثل ما حَظِيَ به بنو إسرائيل من استعلان سافر لإلههم، وسماعهم لصوت الله يتكلَّم معهم من وسط النار وظلُّوا أحياء!

وهل سُمِعَ قط أن الله يتنازل ليأخذ لنفسه شعباً ويقوده بنفسه وينقذه من يد حاكم أرضي متسلِّط، مستخدماً من أجله قدرته الإلهية بعجائب ومعجزات وآيات كثيرة ومخاوف عظيمة مثلما فعل مع بني إسرائيل؟!

لقد فعل الله هكذا بهم لكي يُريهم أنه هو الرب وليس آخر سواه في السماء وعلى الأرض «الذي سلطانه سلطان أبدي، وملكوته إلى دور فدور» (دا 4: 34). فهو وحده الذي ينبغي له السجود والعبادة والتقديس. وهو الذي أحب آباءهم الذين أخلصوا له، فقطع معهم عهداً، واختار نسلهم من بعدهم، وأخرجهم من مصر بيدٍ قوية وذراع رفيعة. وهوذا هو مزمع أن يطرد من أمامهم شعوباً وأُمماً أكبر وأعظم منهم، ويُعطي لهم أرض تلك الشعوب ميراثاً ونصيباً لهم.

ثم أضاف موسى قائلاً لهم:

+ «فاعلم اليوم وَردِّد في قلبك أنَّ الرب هو الإله في السماء من فوق وعلى الأرض من أسفل، ليس سواه. واحفظ فرائضه ووصاياه التي أنا أُوصيك بها اليوم لكي يُحسَن إليك وإلى أولادك من بعدك ولكي تُطيل أيامك على الأرض التي الرب إلهك يُعطيك إلى الأبد» (تث 4: 40،39).

والآن، مقابل كل إحسانات الله وأعماله العجيبة وحبه الفائق وقدرته العظيمة التي أعلنها لشعبه «بماذا أُكافئ الرب عن كل ما أعطانيه... لك أذبح ذبيحة التسبيح وباسم الرب أدعو» (مز 116: 17،12 - سبعينية). هذا ما يقوله المرتِّل في المزامير، وهذا هو ما يُطالب به موسى شعبه قائلاً: «ردِّد في قلبك»، ولا تكف عن التسبيح والحمد للرب إله السماء والأرض، واعترف له من كل قلبك أنه هو الرب الإله وليس آخر سواه، واعترف لاسمه على رحمته وحقِّه.

وليدفعك إيمانك وحبك له وترديدك لاسمه في قلبك، أن تحفظ فرائضه وتعمل بوصاياه، لأنه لا يمكن أن نحب الله دون أن نحفظ وصاياه، كما قال الرب يسوع لتلاميذه: «إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي» (يو 14: 15).

وهذا هو وعد الله لهم إن هم حفظوا وصاياه أن يُحسِن إليهم وإلى أولادهم من بعدهم، ويحفظهم ثابتين في الأرض التي أعطاها لهم؛ أما نحن الذين نحب الرب يسوع ونحفظ وصاياه فما أعظم الجزاء الذي يَعِدنا به في هذا الدهر وفي الدهر الآتي: «الذي عنده وصاياي ويحفظها فهو الذي يحبني، والذي يحبني يحبه أبي وأنا أحبه وأُظهِر له ذاتي... إن أحبني أحد يحفظ كلامي ويحبه أبي وإليه نأتي وعنده نصنع منزلاً... إن ثبتُّم فيَّ وثبت كلامي فيكم، تطلبون ما تريدون فيكون لكم... إن حفظتم وصاياي تثبتون في محبتي» (يو 14: 23،21؛ 15: 10،7).

ختام الحديث الأول: إفراز ثلاث مدن للملجأ (تث 4: 41-43):

+ «حينئذ أفرز موسى ثلاث مدن في عبر الأُردن نحو شروق الشمس، لكي يهرب إليها القاتل الذي يقتل صاحبه بغير علم وهو غير مُبغض له منذ أمس وما قبله، يهرب إلى إحدى تلك المدن فيحيا: باصِر في البرية في أرض السهل للرأوبينيين، وراموت في جلعاد للجاديِّين، وجولان في باشان للمنسِّيِّين» (تث 4: 41-43).

كان الرب قد أوصى موسى أن يُعيِّن للشعب ست مدن للملجأ: ثلاث منها شرقي الأردن، وثلاث غربيه؛ لكي يهرب إليها القاتل الذي لم يتعمَّد قتل صاحبه، ولم يكن مُبغضاً له. وقد جاء ذِكر ذلك من قبل في (عد 35: 9-34).

وبناءً على ذلك، فقد عيَّن موسى ثلاث مدن شرقي الأردن، ذُكِرَت هنا في ختام الخطاب الأول؛ وعيَّن يشوع الثلاث مدن الأخرى غربي الأردن بعد دخولهم أرض الموعد (يش 20: 8). وكان القاتل الهارب يظل لاجئاً في إحدى هذه المدن إلى أن يُحاكَم أمام القضاء، ومتى ثبتت براءته يبقى في مدينة الملجأ إلى موت رئيس الكهنة فيعود إلى بلده.

وكانت ”باصر“ في أرض سبط رأوبين للرأوبينيين، وقد تكون هي الآن قرية ”أم العمد“ التي تقع شرقي مدينة حشبون بنحو خمسة أميال.

و”راموت جلعاد“ في أرض سبط جاد في مرتفعات جلعاد، وقد تكون هي الآن ”تل راميث“، وكانت للهاربين من سبط جاد.

أما ”جولان“ فكانت من نصيب نصف سبط منسَّى، وتقع في هضبة الجولان. وقد تُسميت الهضبة باسمها، وهي للهاربين من سبط منسَّى.

وكانت مدن الملجأ تشير إلى المسيح الكاهن الأعظم الذي بموته أعادنا إلى بيتنا الأبدي ورفع عنا حُكْم الموت، فنحن الذين كُنَّا ”أمواتاً بالذنوب والخطايا“ التي سلكنا فيها قبلاً «أحيانا مع المسيح... بالنعمة أنتم مُخلَّصون» (أف 2: 1-5).

(يتبع)

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis