دير القديس العظيم أنبا مقار
الصفحة الرئيسية  مجلة مرقس الشهرية - محتويات العدد

من الكتابات المسكونية الأرثوذكسية

طريق التوبة (1)

 -2-

+ «توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السموات» (مت 3: 2).
 

التوبة والاعتراف

+ ما هي التوبة؟

إن هذه الكلمة عادةً ما تستدعي معاني الشعور بالندم على الخطايا، والشعور بأن الإنسان واقع تحت الدينونة، وهي تثير فينا الإحساس بالألم، بل والرعب نتيجة تذكُّرنا للآلام التي تَسبَّبنا فيها للقريب ولأنفسنا. ومثل هذه الرؤية هي بالطبع ناقصة، فإذا كان الألم والخوف هما بالفعل من العوامل الرئيسية في التوبة، إلاَّ أنهما لا يُعبِّران عن كمالها أو حتى يُمثِّلان الجانب الأكثر أهمية فيها.

إن الاعتراف كـ ”سرٍّ“ روحي في كنيستنا يتضح جليّاً من العظة القصيرة التي يُلقيها الكاهن على التائب قبل الاعتراف (حسب التقليد الروسي)، إذ يُخاطب الكاهن المعترف قائلاً:

[ها هو المسيح، يا ابني، حاضرٌ الآن بطريقة غير منظورة لكي يستقبل اعترافك، فلا تخجل ولا تَخَف، ولا تُخفي أي شيء. وبدون كتمان أي أمر أعلن كل ما فعلته، لكي تنال غفران ربنا يسوع المسيح، فنحن أمام أيقونته (في الطقس الروسي يتم الاعتراف أمام أيقونة المسيح أو أمام الإنجيل المقدس)، وأنا لستُ إلاَّ شاهداً على كل ما تقوله. فإذا أخفيتَ شيئاً ما، فسوف تحمل خطية مزدوجة. انتبه، إذن، فإذا كنتَ قد أتيتَ للطبيب، فلا تتركه دون أن تنال الشفاء].

ويُعلِّق القديس تيخون من زادونسك قائلاً:

[حينما يُعطي الكاهن إرشادات بخصوص سر التوبة، يجب أن يُحدِّث المعترف قائلاً: يا ابني، أنت تعترف لله الذي لا يُسَرُّ بأيَّة خطية، وأنا خادمه غير مستحق لأن أكون شاهداً على توبتك، فلا تُخفي شيئاً، ولا تكن خجِلاً أو خائفاً، فلا يوجد هنا إلاَّ نحن الثلاثة: أنت وأنا والله الذي أخطأتَ أمامه، والذي يعرف كل خطاياك ويعرف كيف اقترفتها.

فالله في كل مكان وكل ما قلتَه أو فكَّرتَ فيه أو فعلتَه من شرور هو يعرفه. هو هنا، هو هنا معنا الآن، ينتظر أن يستمع منك كلمات التوبة والاعتراف. أنت أيضاً تعرف خطاياك، فلا تخجل من الكلام عن كل ما اقترفته، وأنا الموجود هنا خاطئ مثلك، فلا تخجل من أن تعترف بخطاياك في حضرتي](2).

ومن ذلك نلاحِظ أن سرَّ الاعتراف نأتي فيه إلى المسيح القاضي لكي يُبَرِّئنا من حُكْم الإدانة، نأتي إليه لكي يُعيد إلينا ما هَدَمَته الخطية فينا. إننا نبحث في الاعتراف، ليس عن الغفران الكنسي، وإنما نبحث عن الشفاء لجراحنا الروحية.

في الاعتراف، نحن نضع - أمام المسيح - ليس خطايا معيَّنة بغرض نوال الغفران عنها، وإنما نضع أمامه حقيقة الخطية التي فيها. في الاعتراف، نحن نكشف للمسيح الجرح الذي أحدثته الخطية في طبيعتنا وهذا الجرح الذي يبدو وكأنه قد امتدَّ إلى ضمائرنا بحيث لا تستطيع أقوى الكلمات أن تُعبِّر عنه، هذا الجرح هو ما أطلب الشفاء منه. لذلك، فإن سرَّ التوبة والاعتراف هو سرُّ الشفاء.

إذن، الاعتراف ليس سرّاً تمارِس الكنيسة من خلاله سلطتها وسلطان الكهنوت كما يظن كثير من الكهنة، ولكنه عمل مُفرح، عمل للنعمة نُدرك من خلاله أنَّ الله هو ”رجاء مَن ليس له رجاء“ (من ليتورجية القديس باسيليوس).

ما هو دور أطراف سر التوبة الثلاثة:

والسؤال الآن: ما هو دور كل طرف من أطراف سر الاعتراف الثلاثة: التائب، الكاهن، الله؟ مَن منهم له الدور الرئيسي في هذا السر؟

إن الكثير منا يميل إلى تركيز سرِّ الاعتراف كله على الكاهن، على نصائحه وعلى تشجيعه للمعترف. وإذا لم يُحْسِن الكاهن الكلام مع المعترف، يتجه المعترف إلى ذاته ويلومها على عدم أمانتها، ويتجه صوب مشاعره راغباً في استثارتها لكي تنتحب على خطاياه وتفصح عنها حتى تريحه من ثقلها.

دور المعترف:

ولهذا، فإن المعترف يرى أن يوم الاعتراف يوم حزن، يوم يبعث على الرثاء، يوم لفضح الذات. يرى في الاعتراف أنه ضروري ولكن غير مُحبَّب للنفس. لذلك فهو يريد الانتهاء منه (أي من ممارسة الاعتراف) في أسرع وقت!!

فَلِمَ كل هذا التخبُّط؟

الإجابة هي: إننا نركِّز كل الموضوع، إما على الكاهن الذي نعترف عليه، وإما على أنفسنا، وليس على الله مانح الغفران. إذ أن الوضع السليم في ممارسة سرِّ الاعتراف هو أننا نأتي إلى الله طالبين شفاء. ففي الاعتراف يحضر المسيح بصورة غير مرئية لكي يستقبل ويقبل اعترافنا ويمنحنا الشفاء، أما الكاهن فليس إلاَّ البوَّاب الذي يُدخِل التائب إلى حضرة الله. لذلك ففي اللحظة التي نرى فيها الاعتراف كعمل يعتمد على المسيح وليس علينا، فإن التوبة ستصبح عملاً إيجابياً أكثر فأكثر، وسوف تحمل لنا خبرة الحب الشافي من قِبَل الله؛ حيث إننا لا نرى فقط الابن الضال وهو راجعٌ مثقل إلى البيت، ولكننا سوف نرى بالأحرى الأب الذي لمح ابنه العائد فركض فَرِحاً لاستقباله (راجع لو 15).

والاعتراف مثل باقي الأسرار هو عملٌ إلهي/بشري تلتقي فيه نعمة الله مع إرادتنا الحُرَّة، هو عمل يقوم به الله معنا وفينا. ولذلك يقول القديس يوحنا ذهبي الفم:

[لنخضع لدواء التوبة الناجع، ونقبل من الله نعمته الشافية، لأنه ليس نحن الذين نعرض التوبة عليه، ولكنه هو الذي يمنحنا إيَّاها].

دور الكاهن:

ونأتي الآن إلى دور الكاهن في الاعتراف، فهو بلا شك دور مؤثِّر، ولاسيما إذا كان الكاهن مؤمناً مختبراً، قد حَبَاه الله عطية الأُبوَّة الروحية. فدور الكاهن لا يتوقف على مجرد إعطاء النصائح أو قراءة التحليل بطريقة آلية، وإنما يتمثل دوره في مساعدة المعترف على التحرُّر من ثقل خطاياه سواء بالتشجيع وبث روح الفرح في المعترف أو بوضع بعض الواجبات الروحية عليه.

وقد يُلاحِظ البعض أنه على مرِّ التاريخ كانت بعض العقوبات الكنسية قاسية بعض الشيء، إلاَّ أن العقوبات والقوانين الكنسية لم تكن عامة في كل الأحوال، بل كانت تعتمد على الأب الروحي، فهو الذي يضع القانون على ابنه حفاظاً عليه وعلى الكنيسة. فالقانون الواحد لا يصلح للكل، ولكن الأب الروحي - بما حباه الله من تمييز - يتعامل مع كل فرد ككيان مستقل له ظروفه وله إمكانياته الخاصة، وبالتالي له تدبيره الخاص الذي يساعده على النمو الروحي. حتى في عصرنا هذا، وفي أوروبا مثلاً، يضع الأب الروحي على ابنه أن يعمل عملاً تطوُّعيّاً لمدة معينة (ولتكن لمدة عام مثلاً) في أحد الملاجئ أو أحد مراكز خدمة المُعاقين، وهكذا...

إذن، فالأب الروحي الذي له علاقة بشخص المسيح يكون قادراً على الأخذ بيد ابنه على الطريق السليم، حتى أن ما يضعه على أولاده من واجبات روحية لا يكون لها من هدف إلاَّ إدخال الابن إلى عمق شركة المحبة الإلهية.

وبذلك، لا تعود التوبة بأية حال عقاباً، أو حتى كفَّارة عن الخطايا، فالخلاص هبة مجانية من قِبَل نعمة الله، ونحن لا نستطيع أن نُكفِّر عن خطايانا، ولكن المسيح - الوسيط الوحيد - هو الكفَّارة الذي يُكفِّر عن جميع آثامنا. فإذا لم نَنَلْ غفرانه المجاني، فلن ننال أبداً الغفران، إذ مهما فعلنا لا يمكن أن نصير ”مستحقين“ للغفران.

ولذلك، فالتوبة هي طريق الشفاء، وإذا شبَّهنا الاعتراف الصادق بالعملية الجراحية، فإن عمل التوبة هو الطعام الذي يردُّ للخاطئ صحته في فترة نقاهته. فالتوبة هي عمل إيجابي يصل المؤمن بالله.

وهناك علاقة متبادلة بين الأب الروحي وأولاده الروحيين. فكما أن الأبناء الروحيين يحتاجون إلى مساعدة أبيهم، كذلك الأب أيضاً يحتاج إلى أبنائه، حيث يقف معهم كخاطئ - أمام الله - يطلب الغفران (كما في صلاة الكاهن القبطي سواء في صلاة التحليل أو قبل المعمودية وسماع اعتراف المُعمَّد). كذلك فالكاهن الذي يأخذ الاعترافات عليه أيضاً أن يعترف أي يكون له أب اعتراف. ففي اعترافه حَمْل لصليب الكهنوت، أي لنيره الذي يلفُّ عنقه، لأن الكاهن الذي يأخذ الكهنوت كنير من المسيح وليس كتاج على رأسه، هو الكاهن الذي يستطيع أن يأخذ بيد أبنائه ويصعد بهم على الصليب ليحظوا سويّاً بأفراح القيامة.

ودور الكاهن كشاهد ورفيق للتائب يتضح حتى في طريقة ممارسة سر الاعتراف، فلا يصحُّ أن يكون الكاهن جالساً أثناء جثو المعترف على ركبتيه، لأنه شاهدٌ وليس حَكَماً أو قاضياً. وفي أثناء الصلاة التي تُقال قبل الاعتراف يكون التائب واقفاً في مواجهة أيقونة المسيح أو أمام الإنجيل، ويكون الكاهن حينئذ واقفاً إلى جانبه. وفي أثناء جلسة الاعتراف نفسها، يمكن للكاهن وللمعترف أن يكونا جالسَيْن (تقليد يوناني)، أو واقفَيْن (تقليد روسي)؛ وفي الحالتين نجد أن الكاهن يكون له نفس هيئة التائب كنوع من مشاركة التائب. وإذا كانا جالسَيْن، وحدث أن انفعل المعترف وجثا على ركبتيه، فيجب على الكاهن أن يقف وينحني عليه برأسه حتى يستمع إلى اعترافاته.

أما في أثناء قراءة صلاة التحليل في نهاية جلسة الاعتراف، فإن التائب يحني رأسه، ليس أمام الكاهن، وإنما أمام أيقونة المسيح أو الإنجيل اللذين يرمزان إلى الحضور غير المرئي لشخص المسيح، فهو الوحيد الذي له القدرة على حلِّ المعترف من رباطات الخطية. أما بخصوص صلاة التحليل نفسها فهي توضِّح - دون أدنى تورية - أن المسيح وليس الكاهن هو الذي يمنح الغفران.

+ فالخطية - كما يوضِّح مَثَل الابن الضال - هي نفي واغتراب وسقوط من الأسرة، أما التوبة فهي العودة إلى الأسرة، العودة من الوحدة إلى الشركة.

فهذه هي خبرتنا عن ”تغيير الذهن“، عن التوبة التي تُخْرِج لنا من ملء الألم والحزن (بسبب الخطية) فرحاً روحياً غامراً (بسبب الغفران). بالتوبة تنكشف لنا القوة الكامنة في المسيحي والتي تتفجَّر في وقت الضيق لتُخرِج صاحبها إلى فرح القيامة، وذلك لأننا:

+ «حاملين في الجسد كل حين إماتة الرب يسوع، لكي تُظْهَر حياة يسوع أيضاً في جسدنا... بمجد وهوان، بصيت رديء وصيت حسن، كمُضِلِّين ونحن صادقون، كمجهولين ونحن معروفون، كمائتين وها نحن نحيا، كمؤدَّبين ونحن غير مقتولين. كحزانى ونحن دائماً فرحون، كفقراء ونحن نُغني كثيرين، كأنْ لا شيء لنا ونحن نملك كل شيء» (2كو 4: 10؛ 6: 8-10).

لذلك، فالتوبة هي صفة مُلازِمة لتلميذ المسيح، إذ بها يتذكَّر كل ما للمسيح مشتركاً معه في ميلاده وصلبه وقيامته.

 

 

([1]) ترجمة بتصرُّف عن فصل من كتاب: "Le Royaume Intérieur"، للأسقف كاليستوس وير Kallistos Ware التابع لبطريركية القسطنطينية المسكونية. وهذا الجزء ورد في مجلة: "Le Chemin" nº 33 - تحت عنوان: "La Voie du repentir".

(2) في الطقس القبطي صلاة قديمة مماثلة يقولها الكاهن أمام جرن المعمودية حينما كان المُعمَّد بالغ السن ويأتي ليعترف بخطاياه أمام الكاهن قبل معموديته. وفي هذه الصلاة ينسحق الكاهن جداً أمام الله باعتباره هو أيضاً خاطئاً. (ارجع إلى صلوات سرِّ المعمودية حيث توجد هذه الصلاة).