+ «بحسب وعده ننتظر سموات جديدة وأرضاً جديدة يسكن فيها البر.» (2بط 3: 13)
هدفنا من هذا المقال هو أن نفكر ونتطلَّع دائماً إلى الملكوت الذي دُعينا إليه حتى نبلغ إليه كما قال الآباء مثل الأب إشعياء: ”اذكر على الدوام ملكوت السموات وما أُعدَّ فيها للقديسين لكيما يقودك شوقك إليها“(1). كما قال أيضاً أحد الشيوخ: ”ليكن اهتمامك في ملكوت السموات وأنت سريعاً تخلص وترثها.“(2) جاء في العهد الجديد أن العالم الحاضر سيزول: «يوم الرب، الذي فيه تزول السموات بضجيج، وتنحلّ العناصر محترقة، وتحترق الأرض والمصنوعات التي فيها. فبما أن هذه كلها تنحل، أي أُناس يجب أن تكونوا أنتم في سيرة مقدسة وتقوى؟ منتظرين وطالبين سرعة مجيء يوم الرب، الذي به تنحلّ السموات ملتهبةً والعناصر محترقة تذوب. ولكننا بحسب وعده ننتظر سموات جديدة وأرضاً جديدة يسكن فيها البر» (2بط 3: 10-13)، لأن «هيئة هذا العالم تزول» (1كو 7: 31)، و«العالم يمضي وشهوته» (1يو 2: 17)، وسيصبح كل شيء جديداً: «قال الجالس على العرش: ها أنا أصنع كل شيء جديداً» (رؤ 21: 5)، لأنه «إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة. الأشياء العتيقة قد مضت، هوذا الكل قد صار جديداً.» (2كو 5: 17) كما يقول الرسول بولس: «لأن انتظار الخليقة يتوقع استعلان أبناء الله، إذ أُخضِعَت الخليقة للبُطل، ليس طوعاً بل من أجل الذي أخضعها على الرجاء، لأن الخليقة نفسها أيضاً ستُعتَق من عبودية الفساد إلى حرية مجد أولاد الله» (رو 8: 19-21). فالخليقة ستُعتَق من الفساد وتتطهَّر وتتجلَّى وتتمجَّد. السماء الجديدة والأرض الجديدة: «رأيتُ سماءً جديدة وأرضاً جديدةً، لأن السماء الأولى والأرض الأولى مضتا» (رؤ 21: 1). بعد أن تنتهي حروبنا الروحية وتكون الزانية قد أُدينت والتنين قد هُزم والوحش الأول والثاني قد أُلقيا في بحيرة النار، والموت والجحيم لا يوجدا فيما بعد حيث إن الخطية لن يكون لها وجود، وتكون القيامة والدينونة قد أُكملتا، حينئذ يُسمَع صوت من العرش قائلاً: «ها أنا أصنع كل شيء جديداً» (رؤ 21: 5). هذه الرؤية نجد فيها صورة رائعة لحالة جديدة من النقاوة والنعيم تنتظر المفديين. وهكذا تتحقَّق نبوة إشعياء النبي: «لأني هأنذا خالقٌ سموات جديدة وأرضاً جديدة، فلا تُذكر الأولى ولا تخطر على بال، بل افرحوا وابتهجوا إلى الأبد في ما أنا خالقٌ، لأني هأنذا خالقٌ أورشليم بهجةً وشعبها فرحاً. فأبتهج بأورشليم وأفرح بشعبي ولا يُسمَع بعد فيها صوت بكاء ولا صوت صراخ» (إش 65: 17-19). وأيضاً: «لأنه كما أن السموات الجديدة والأرض الجديدة التي أنا صانع تثبت أمامي، يقول الرب، هكذا يثبت نسلكم واسمكم» (إش 66: 22). هذه النبوات دليل واضح على تطلُّع الأتقياء في العهد القديم إلى حياة جديدة أفضل من حياة الظلمة والفساد التي كانوا يُعانون منها. ولذلك قال الرب يسوع: «أما أنا فقد أتيتُ لتكون لهم حياة، وليكون لهم أفضل.» (يو 10: 10) وسيكون للكنيسة الممجَّدة عالم من الحياة الجديدة. وتعبير «سماء جديدة وأرض جديدة» يوحي بوجود مقام للأبرار يجدون فيه ميراثهم الذي كانوا يتطلَّعون إليه، أو بيئة روحانية جديدة تتوافق مع حالتهم التي تغيَّرت: «هوذا سرٌّ أقوله لكم: لا نرقد كلنا ولكننا كلنا نتغيَّر، في لحظة في طرفة عين عند البوق الأخير، فإنه سيُبوَّق، فيُقام الأموات عديمي فساد ونحن نتغيَّر» (1كو 15: 51و52). فالسماء والأرض الجديدتان تناسبان وجود المدينة المقدسة فيهما. ويُصوِّر سفر الرؤيا النعيم الأبدي للمفديين في السماء (لاحِظ الآيات الكثيرة في إش 60 المشابهة لوصف السماء الجديدة). مدينة أورشليم الجديدة، كعروس مزيَّنة لرجلها: «رأيتُ المدينة المقدسة أورشليم الجديدة نازلةً من السماء من عند الله مهيَّأة كعروس مزيَّنة لرجلها... هَلُمَّ فأُريك العروس امرأة الخروف (”الحَمَل“ حسب اليوناني). وذهب بي بالروح إلى جبل عالٍ، وأراني المدينة العظيمة أورشليم المقدسة نازلةً من السماء من عند الله، لها مجد الله.» (رؤ 21: 2و9-11) هذه هي المدينة «التي لها الأساسات التي صانعها وبارئُها الله» (عب 11: 10). وهي الكنيسة المكتملة «مُهيَّأة كعروس مزيَّنة لرجلها»، أي جسد المسيح، وهي المسكن الأبدي للأبرار. وقد تنبأ إشعياء النبي أيضاً عن أورشليم المجدَّدة والممجَّدة فقال: «قومي استنيري لأنه قد جاء نوركِ ومجد الرب أشرق عليكِ، لأنه ها هي الظلمة تُغطي الأرض والظلام الدامس الأمم، أما عليكِ فيُشرق الرب ومجده عليكِ يُرَى. فتسير الأمم في نوركِ والملوك في ضياء إشراقكِ... تُسَمِّينَ أسواركِ خلاصاً وأبوابكِ تسبيحاً. لا تكون لكِ بعدُ الشمس نوراً في النهار ولا القمر يُنير لكِ مضيئاً، بل الرب يكون لكِ نوراً أبدياً وإلهك زينتكِ... وشعبكِ كلهم أبرار» (إش 60: 1-21). كما تنبَّأ عنها أيضاً حزقيال النبي بأوصاف عديدة في الأصحاحات 40-48. ويقول القديس سيزاريوس الذي من ”أرلز“: [توجد مدينتان، أيها الإخوة الأعزَّاء، الأولى هي مدينة هذا العالم، والثانية مدينة الفردوس. والمسيحي الصالح إنما هو في مدينة العالم راحلٌ على الدوام، ولكنه معروفٌ كمواطن في مدينة الفردوس. المدينة الأولى مليئة بالتعب، والثانية مريحة... وإذا عاش الإنسان بالخطية في المدينة الأولى، لا يمكنه أن يصل إلى الثانية... ملكنا هناك هو المسيح، والملائكة هم مواطنون شركاء لنا، وأهلنا هم الآباء البطاركة والأنبياء والرسل والشهداء... إنهم جميعاً ينتظروننا بأيادي حبهم الممتدة إلينا.](3) ويصف القديس أوغسطينوس تلك المدينة بأنها هي كنيسة المسيح بقوله: [تجميع القديسين في تلك المدينة لا يعني تجميعهم في مكانٍ واحد... لأن هذه المدينة هي بالطبع كنيسة المسيح المنتشرة في العالم كله. وحيثما توجد كنيسته، يوجد معسكر القديسين ومدينة الله المحبوبة.](4) وقد دُعيت هذه المدينة ”أورشليم الجديدة“، لأنه حينما رآها القديس يوحنا كانت أورشليم الأرضية قد خُرِّبت مع الهيكل المقدس، وانكسرت لذلك قلوب الشعب المختار، ولذلك فقد سُرَّ الرائي بأن يُشير لهم إلى أورشليم جديدة فاق كل ما فيها على كل ما كان ثميناً في سابقتها، وتكون مقدسة حقاً وتدوم إلى الأبد. فمهما كان في أورشليم القديمة من مجد الرب، فإن الجديدة سيكون فيها الرب ذاته في مجده! وإن كانت القديمة مستَعبَدة مع بنيها إلاَّ أن الجديدة حُرَّة: «أورشليم الحاضرة، فإنها مُستَعبَدة مع بنيها؛ وأما أورشليم العُليا، التي هي أُمنا جميعاً، فهي حُرَّة» (غل 4: 25و26). والمدينة العظيمة تقابل الزانية العظيمة التي أراه إيـَّاها في 17: 1، والتي تمثل الخطاة غير التائبين. فالذين ظلوا أمناء حتى الموت (رؤ 2: 10) وُصفت طهارتهم وأمانتهم بـ ”امرأة الحَمَل“. في وسط تلك المدينة يوجد عرش الحَمَل، وتُرتَّل فيها ترنيمة الحمل، وسفر الحياة المسجَّل فيه أسماء المفديين لا يفكُّ ختومه إلاَّ الحَمَل، وكل هذا المجد يكون مؤسَّساً على ذبيحة الحَمَل الكفَّارية. وقد سبق التمهيد لهذه الرؤية بالقول: «وسمعتُ كصوت جمع كثير، وكصوت مياه كثيرة، وكصوت رعود شديدة قائلةً: هلليلويا، فإنه قد مَلَكَ الرب الإله القادر على كل شيء. لنفرح ونتهلَّل ونعطه المجد، لأن عُرس الخروف قد جاء وامرأته هيَّأت نفسها، وأُعطِيَت أن تلبس بزًّا (كتاناً) نقياً بهياً، لأن البزَّ هو تبرُّرات القديسين (أو أعمال القديسين البارة - حسب الترجمة الحرفية).» (رؤ 19: 6-8) وقد قارَن الرسول بولس بين الرعب على جبل سيناء في القديم وبهاء أورشليم السماوية قائلاً: «لأنكم لم تأتوا إلى جبل ملموس مضطرم بالنار، وإلى ضباب وظلام وزوبعة وهُتاف بوق وصوت كلمات، استعفى الذين سمعوه من أن تُزاد لهم كلمة... وكان المنظر هكذا مخيفاً... بل قد أتيتم إلى جبل صهيون، وإلى مدينة الله الحي أورشليم السماوية، وإلى الله ديان الجميع، وإلى أرواح أبرار مُكمَّلين، وإلى وسيط العهد الجديد يسوع... الذي صوته زعزع الأرض حينئذ، وأما الآن فقد وعد قائلاً إني مرةً أيضاً أُزلزل لا الأرض فقط، بل السماء أيضاً. فقوله مرةً أيضاً، يدلُّ على تغيير الأشياء المتزعزعة كمصنوعة لكي تبقى التي لا تتزعزع. لذلك ونحن قابلون ملكوتاً لا يتزعزع، ليكن عندنا شُكرٌ به نخدم الله خدمةً مرضيةً بخشوع وتقوى» (عب 12: 18-28). كما أنه علم أن المفديين سيعيشون هناك في حرية الروح وقال: «أما أورشليم العُليا، التي هي أُمنا جميعاً، فهي حُرَّة... فاثبتوا إذاً في الحرية التي قد حررنا المسيح بها، ولا ترتبكوا أيضاً بنير عبودية.» (غل 4: 26؛ 5: 1) ونلاحِظ تعبير: «نازلة من السماء»، فهو يدلُّ على أنها رؤية مُسبقة لِمَا سيحدث بعد نهاية العالم. وما هي المدينة المقدسة إلاَّ كنيسة الله التي صارت حينئذ ممجَّدة ومعدَّة لحياة الشركة الكاملة مع فاديها. وهكذا يتحقَّق وعد الرب القائل: «مَن يغلب فسأجعله عموداً في هيكل إلهي... وأكتب عليه اسم إلهي، واسم مدينة إلهي، أورشليم الجديدة النازلة من السماء من عند إلهي.» (رؤ 3: 12) وكون المدينة مزيَّنة كعروس، ربما تكون هذه الصورة عكس صورة الزانية العظيمة التي قال إنها: «هي المدينة العظيمة التي لها مُلْكٌ على ملوك الأرض» (رؤ 17: 1-18). ولكنه سبق أن أعلن مجيء عُرس الحَمَل مع امرأته: «لنفرح ونتهلَّل ونعطه المجد، لأن عُرس الخروف قد جاء وامرأته هيَّأت نفسها.» (رؤ 19: 7) ويرى القديس أغسطينوس أن الهدف من استعلان المدينة السماوية هو أن يتشبَّه بها بنو البشر، فيقول: ”يكفي أن نعلم بوجود مدينة الله لكي توحي للبشر بالرغبة في تنظيم حياتهم على الأرض في مجتمع يأخذ صورة وشبه ومثال المدينة السماوية.“(5) ويقول أيضاً: [قال داود النبي: «أُحدِّث بكل تسابيحك في أبواب ابنة صهيون، مبتهجاً بخلاصك« (مز 9: 14). هذه هي مدينة الله المجيدة التي تعرف وتعبد الإله الواحد. وقد أعلن الملائكة القديسون عن هذه المدينة وهم يدعوننا إلى مشاركة جماعتهم، إذ يرغبون أن نكون مواطنين معهم.](6) (يتبع)
(1) مخطوطة س 4 بدير أنبا مقار - ص 45، مخطوطة 181 نسكيات بدير السريان. (2) مخطوطة س 4 بدير أنبا مقار - ص 156. (3) Corpus Christianorum, Series Latina, 104,617. (4) The City of God, The Fathers of the Church, Book 20, ch. 11. (5) The City of God, The Fathers of the Church, Vol. 8, p. LXXX. (6) The City of God, Book 10, ch. 25. |