|
|
|
ونُكمِل سيرة آبائنا القدِّيسين:
الأسقف القديس أنبا صرابامون
أسقف المنوفية والبحيرة:
+ وُلد مـن عائلة قبطية عريقة في المسيحية بإحدى بلاد مديرية (محافظة) الشرقية. ونشأ مُتعبِّداً بسيطاً جداً وقدِّيساً طاهراً، وكان اسمه ”صليب“.
+ ولمَّا ترعـرع وكـبر، حضر إلى القاهرة وأقام بها، واحترف مهنـة بيع الزيت. وكـان يطوف ببضاعته الشوارع والحارات مُنادياً على زيته. واستمر يُمارِس هذه المهنة مدَّة طويلة.
+ ولمَّا كان يطوف - وهو على حماره يبيع الزيت - تربَّصت به بعض النسوة وَوَضَعْنَ في طريقه شاباً صغيراً قَتَلْنَه، مُدَّعيات عليه أنـه هو القاتـل. فاجتمعت الناس وساقوه إلى دار الحُكْم. فلمـا سُئل، أنكر وبكى، وصلَّى بحُرقـة وقـال للمقتول بـإيمانٍ عظيم: ”يُقيمك الـرب يسـوع لتُخبرهم عمَّـن قتلك؟“. فقـام الغلام، بإذن الله الرحوم، وأخبر عن الحقيقة، فأفرجوا عنه.
+ ولمَّا خرج من هذه التجربة، ورأى أنَّ العالم محفوفٌ بالمكاره والشرور، آثـر الاعتزال عن الدنيا والالتحاق بأحد الأديرة ليُكمِل أيام حياته في هدوء وقداسة.
دخوله دير القديس أنطونيوس ورهبنته فيه:
اختار ”صليب“ ديـر القديس أنبا أنطونيوس ملجأً له، ثم انخرط في سلك الرهبنة. وكان بارّاً متقشِّفاً للغاية، يُمارِس عيشة القداسة والطهارة، مُداوماً على التأمُّل في الروحيات مؤدِّياً الصلوات في أوقاتها، حتى ذاعت قداسته وانتشر صيته.
اختياره للأسقفية:
ولمَّا خـلا كرسي المنوفية بانتقال أسقفه إلى الحياة الأبدية، وقع الاختيار على الراهب صليب الأنطوني ليكـون أسقفاً على كرسي المنوفيـة. فأحضروه مـن الديـر بغير إرادتـه إلى القلاية البطريركية بالأزبكية.
+ وقام قداسة البابا بسيامته أسقفاً على كرسي المنوفية باسم ”الأنبا صرابامون“. وكـان يُلقَّب بـ ”أبو طرحة“، لأنـه كـان يضع الشال على رأسه ويُغطِّي به عينيه أثناء سيره في الطريق.
قداسة ونُسك الأنبا صرابامون:
وقـد اشتهر الأنبا صرابامون بعيشته التقشُّفية ونُسكه وبساطته المُتناهية. فقـد كـان لا يعبأ بزخارف الحياة ولا بَهْرَجة العالم. وكان يُحارِب شهوة النفس ويُقهرها، حتى فاز بنعمة الطهارة، فكان يقضي ليله قائماً يُصلِّي صلوات السواعي. وبعد إتمام صلواته، كان يفترش الأرض ويسند رأسه على ”مَرْكوبه“ (أي النَّعْل الذي يلبسه في قدميه)، أُسوة بالعُبَّاد الزاهدين والنُّسَّاك والرهبان والآباء المتوحِّدين. وكـان طعامه من ”الدشيشة“ موضوعاً في إناء من خشب.
+ وكـان يُمارِس عمل الإحسان في الخفاء. وقد حدث مرَّة أنه كان في إحدى الليالي يسير مُتنكِّراً في بعض أزقَّة القاهرة حاملاً على كتفه سلَّة ثقيلة الحِمْل. فصادفه وهـو بهذه الحالة رجـلٌ مـن خَدَم الدار البطريركية يُدعَى ”حنا النجَّار“، فاستغرب زيَّه الذي يلبسه، وتلثُّمه، إذ رآه يكاد لا يظهر من وجهه غير عينيه وهو يَلْهث تعباً من حمله، فارتـاب من أَمْره، وظنَّه لصّاً. فجدَّ في المسير وراءه حتى أدركه. فرآه يقف بباب أحد البيوت، وكان يقرع بابه. فلما انفتح الباب، سلَّم السلَّة لصاحب البيت دون أن ينطق بكلمة، ثم عاد من حيث أتى. وعندئذ تقدَّم إليه ”حنا“ وأَمسَكَه، فلما تبيَّن له وجهه، عَلِمَ أنه الأنبا صرابامون أسقف المنوفية. وعَلِمَ منه، عندئذ، أنه يأتي بالدقيق والقمح ويحمله بنفسه إلى الأُسَر التي لا تمدُّ يدها للسؤال، حياءً، عاملاً بذلك حسب قول المسيح له المجد: «وأمَّا أنت فمتى صنعتَ صدقة، فلا تُعرِّف شمالك ما تفعل يمينك» (مت 6: 3).
+ واتَّفق مرَّة أنه كان لدى الأنبا صرابامون ستمائة ريال، فرأى أن يشتري بها داراً للأوقاف، وكان قد وضعها في كيس وسلَّم الكيس لتلميذه ”برغوت“ ليحفظه إلى أن تتم المساومة. وحدث أن زار هذا الخادم أحدَ أقاربه وعَلِمَ هذا بأَمْر الكيس، فدفعـه الطمع إلى سرقته مـن تلميذ الأسقف. فلمـا افتقد التلميذ النقود ولم يجدهـا، ذهب إلى الأسقف بـاكياً، فخفَّف الأسقف مـن حُزنه، وقال له: ”ثِقْ يا بُنيَّ بالله، فهو قادر أن يَرُدَّ إلينا المال“. وفي هـذه الأثناء، كـان السارق قـد شَعَرَ بتأنيب ضميره، فلم يستطع أن يصرف منه قرشاً واحـداً، فـانطرح أمـام الأسقف طـالباً الصَّفْح والعفـو، فسامحـه الأنبا صرابـامون. ثم بيَّن لـه الأسقف شـرَّ السرقـة، ووَخَم العواقـب، ونصحه بالسير بالاستقامـة في الحياة، وقـال له: ”إذا وقعتَ في ضيق، فتعالَ إليَّ“. ثم تحـنَّن عليه، ومنحـه بعض الدريهمات. فتأثَّر الشاب مـن هذه المعاملة، وبكى. ثم عاش بقية أيام حياته أميناً، مُجِدّاً في عمله باقي أيام حياته، واكتسب بالتوبة والندامة خلاص نفسه.
+ وكان دائماً يستغيث طوال حياتـه بالقديسة العـذراء أُم النور، التي كـانت مُعينة لـه في ضيقاته، وتُجيب نداءه في طلباته وصلواته.
إخراج الأرواح النجسة والشياطين:
وكانت شهرة هذا القديس قد ذاعت في البلاد، وهي قدرتـه على إخـراج الشياطين بتـلاوة المزمور ”34“، وبرشِّ الماء المُصلَّى عليه على وجوه المُصابين، مع النُّطق باسم ”يسوع المسيح“. وهكذا شُفِيَ على يديـه كـلُّ مَنْ التجأ إليه من المُصابين بالأرواح النجسة.
+ وحدث مرَّة أن مريضاً بروح نجس، أتى به أهله إلى البابا بطرس الجاولي ليُصلِّي عليه، فطَلَبَ أن ينتظروا بالمريض حتى يستدعي له الأنبا صرابـامون ليُصلِّي عليه. فقال له الأنبا أبرآم أسقف القدس: ”منك أيها البابا نأخذ نحن الأساقفة الحِلَّ بالمواهب. فتقدَّم، يـا سيدي، بالصـلاة على المـريض، ولا تنتظر مجيء الأسقف“. فأجابه البابا بكل تواضع زائد: ”اعْلَمْ، يا أخي، أنَّ لكلِّ واحـدٍ منَّا موهبة“. فلم يقتنع الأسقف بإجابـة البطريـرك واضطره في آخر الأَمر أن يقول له: ”أنت أسقف مثله، فقُمْ وصلِّ أنت“. فقام أسقف القدس إجابة لدعوة البابا وصلَّى على المريض، دون جدوى. لأن الروح الشريـر الساكـن في المريض كـان يستهزئ بالأسقف، وكـان يُذكِّره بتقصيره في إتمام واجباتـه، حتى اضطـر الأسقف إلى الاعـتراف أمـام الأب البطريرك بهذا التقصير.
ولما حضر الأنبا صرابـامون، دعاه البابـا للصلاة على المريض، فاعتذر، ورجـا مـن البطريـرك التقدُّم للصلاة على المريض. وبعد الإلحاح عليه بشـدَّة، قَبِلَ القيام بتأديـة الصلاة مُشترِطـاً أن يمسك في يـده صليب البابـا البطريـرك. ثم صلَّى الأنبا صرابـامون راشماً المريض بصليب البابا، فشُفِيَ وخرج منه الروح النجس.
+ ولقـد ذَكَـرَ ”تـاريخ البطاركة“ للأنبا صرابامون في سرد سيرة البابا بطرس السابع قيامه بإخراج الروح النجس من السيدة ”زهرى هانم“ كريمة والي البلاد محمد علي باشا. وأراد الوالي أن يُكافئ الأنبا صرابامون على صنيعه العجيب، فأَبَى أن يقبل منه شيئاً واعتذر قائلاً: ”إنه ليس من شئون وظيفتي أن أربح من وراء مواهـب الروح القدس مـا لا يُحـوجني إليه. فلِباسي، كما تـرى، فراجيـة صـوف أحمر، وطعامي الخـبز وطبيـخ العدس. فعِوَض ذلك، أسأل مولاي الأمير أن تشملوا أبناء أُمتي القبطية بعطفكم السامي وتُعيدوا إلى الخدمـة أبناءهـا المطرودين من عملهم“.
فـأجاب الوالي طَلَب الأسقف، مُلِحّاً عليه في قبول العطية الممنوحة له. فـأخذ منهـا الأسقف قليلاً، وفَرَّقـه أثناء مـروره على العساكر. ومن ذلك الوقت، وبسبب هذا الحادث العجيب، صار للبابـا بطرس السابع والأنبا صرابـامون منزلة سامية في عيون الأُمراء والحُكَّام، كما أُعيد إلى الخدمة الكثيرون مـن المطرودين مـن أعمالهم، كما أُسْنِدَت الوظائف الكثيرة لأبناء القبط.
+ وقيل إنَّ الشيطان لمَّا رأى أنَّ قوَّة الأنبا صرابـامون قَهَرَتْـه وانتصرت عليه بمعونـة الله - جلَّ اسمه - صار يُحاربه بروح الافتخار والإعجاب بالذات، نتيجة معجزاته وقدرته التي منحها له الله؛ فكان يُصوِّر للأسقف أنه أصبح أفضلَ من غيره قداسةً، حتى أنه سُمِعَ مرَّة أنه يقـول: ”بقى، يـا صليب (اسمه العلماني قبـل الرهبنة)، عندك مواهب الشفاء يا صليب. أفأنت أيها الحقير تُخرِج الشياطين وتتغلَّب عليها بقدرة الله، وتشفي المرضى يا صليب؟!“. ولكن ما كان يؤثِّر بكلامه هذا في نفس الأسقف؛ بل كان يزداد في الصلاة والاستعانـة بقـوَّة الله على قهـر الشيطان، حتى اضطر الشيطان بعد فشله فيما كـان يرمي إليه أن يُجاوب على نفسه مقهوراً قائلاً: ”إنها قوَّة الله التي معك، يا صليب، التي تُقهر بها سُلطان الشياطين. هـذه قوَّة الصلاة، يا صليب!“(1).
+ ورُويَ أنه لمَّا تنيَّح أسقف أسيوط أنبا مكاريوس في مركز إيبارشيَّته بعيداً عن القاهرة، دخل الأنبا صرابامون ليلاً على البابـا بطرس منزعجاً ليُخبره أنـه شاهَدَ روح أسقف أسيوط صاعدة إلى السماء. وبعد فترة قصيرة تحقَّق لدى البابا الخَبَر.
+ وجلس مرَّة مع البابا البطريرك في قاعة الجلوس، وكان البابا يستقبل فيها وقتئذ ”تادرس أفندي عريـان“ باشكاتب حكومة السودان سابقاً وهـو والـد المرحومَيْن ”عريـان بك تادرس“ باشكاتب المالية، و”باسيلي تـادرس باشـا“ الذي صار مستشاراً ورئيساً فخرياً للمحكمة المختلطة؛ وإذا بالأنبا صرابامون يصرخ. فلما سُئل عن سبب صراخه، أجاب: ”لقد شاهدتُ روح أخي الأنبا يوساب أسقف الفيوم مرتفعة إلى السماء“. فتكدَّر البابا من هذه الحركة، ودخل مخدعه تاركاً الزائرين.
ولما سُئل البابا عن سبب كَدَره، قـال: ”إني حزين على الأنبا صرابامون لئلا يكون الكبريـاء قد استولى عليه بسبب الموهبة التي أعطاهـا له الله، فيُفسدها عِوَضاً عن كونه يستخدمها للخير“. فتقدَّم الأسقف أمـام البطريـرك وضرب أمامه المطانوة، وشرح له أنه لم يأخذ درهماً واحداً تلقاء أي عمل أتاه بإذن الله وقوَّته.
شكوى أمام الوالي ضد الأنبا صرابامون:
وعقب ذلك، أصـدر عباس باشا الأول والي البلاد أمـره بإعدام كـلِّ مَـن يحترف السِّحْر والتنجيم. فـوَشَى الواشـون لـه بـأنَّ القديس صرابامون من بين هؤلاء السَّحَرة، وأنـه شفى الأميرة ”زهرى هانم“. فطلبه الأمير عازماً على قتله. فـانطلق الأسقف إلى السـراي تلبية لطلب الأمـير. وكـان ذلـك اليـوم هـو ”الجمعـة العظيمة - جمعة الصلبوت“. فقابله عباس بـاشا باحتقار، وقال له: ”هل أنت ساحر؟“. فأجابـه الأسقف قائلاً: ”أنا رجلٌ مسكين“! فسأله: ”وهل أنت شَفَيْتَ زهرى هـانم؟“. فصرخ القديس بقوَّة في وجهه قائلاً: ”هـذه قوَّة الله“. فارتعب عباس باشـا في الحـال وجزع، وصرخ قائلاً: ”أمان، يا بابا“، ثم صرفه بسلام.
كراهية الأنبا صرابامون للطلاق:
كـان الأنبا صرابـامون يكره الطلاق بشدَّة، حسب ما وَرَدَ في الكتاب المقدَّس أن الله ”يكره الطلاق“ (ملاخي 2: 16)، حتى أنه لم يُطلِّق طيلة مدَّة أسقفيته أحداً. ولمَّا كان يستعصي عليه مُصالحة الزوج أو الزوجة، فإذا تحقَّق أن أحدهما مظلوم، كان يقول لهذا المظلوم: ”إن شاء الله سأزوِّجك في العام المُقبل“. فكان الموعد بعد سنة يحلُّ كما نَطَقَ به من فمه الطاهر، حتى ويكون ”الظالم“ قد توفِّي، سواء كان زوجاً أو زوجة. فكان يزوِّج المظلوم كما وعده!!
+ ومرَّة دخل عليه زوج بحالة غضب شديد وأعلن له أن امرأتـه قـد حادت عـن طريق الصلاح، وضُبِطَت في أماكـن البغـاء، فطيَّب خاطره وصرفـه للغد، ثم انطلق إلى البيت الذي وصَفَ له الزوج مكانـه. فلما دَخَله تقدَّم إليه النِّسوة المُقيمات فيه يطلُبن بركته لتعوُّدهن على رؤيته في الكنيسة. فسألهُنَّ عن المرأة المُحكَى عنها، فلم يَخفينَ عليه أَمْرها، وأَفْهَمنَه أنها أتت اليوم فقط! فطلب الانفراد بها في غرفة مظلمة، ولبث يوبِّخها ويعظها، حتى أظهرت ندمها على ما فَرَط منها، وتعهَّدت أمامه بالسير بالاستقامة.
ثم تركها تلك الليلة بمنزل أحد القسوس. وطلب إليه أن يأتيه صباحـاً، مُتشكِّياً مـن إعالتها وقـت حضـور الزوج عنـده.
فـأتى القس مُتضرِّراً - أمام الأسقف - مـن إعالة هذه المرأة. فقال الأسقف للقس: ”يا خطيَّتك، يـا صليب، لقـد أخطـأتُ يـا أبي، فحِلَّني وقُـمْ وأَحضرها“. فوجد الزوج أنها امرأته عند قدومها إلى قلاية الأسقف، وتأكَّد له بذلك أنها كانت في بيت القس وليس في بيت البغاء. فَقَبلَها، وعاش الزوجان بعد ذلك في تقوى وسلام.
(يتبع)
**************************************************************************************************
دير القديس أنبا مقار صدر حديثاً:
1. من مخطوطات دير القديس أنبا مقار
تفسير سفر الرؤيا (أبوغالمسيس)
للأنبا بولس البوشي أسقف مصر
إعداد نيافة الأنبا إبيفانيوس
أسقف ورئيس دير القديس أنبا مقار
160 صفحة (من القَطْع المتوسط) الثمن 20 جنيهاً
2. كارت فلاشة 8 جيجا تحوي:
زيارة المتنيِّح قداسة البابا شنودة الثالث للدير - زيارة قداسة البابا تواضروس الثاني للدير - صلاة جنازة الأب متى المسكين - فيلم عن دير القديس أنبا مقار - عظات وصلوات للأب متى المسكين.
الثمن ..............................................200 جنيه 3. فيلم التسعة والأربعين شهيداً شيوخ شيهيت داخل علبة تحتوي على:
- CD يحوي موسيقى وترانيم الفيلم + DVD يحوي الفيلم.
+ كُتيِّب يحوي تاريخاً مُختصراً لسيرة التسعة والأربعين شهيداً.
الثمن 20 جنيهاً
**************************************************************************************************
(1) عـن: ”سلسلة تاريخ البابوات...“، كامل صالح نخلة، الحلقة الخامسة، ص 165-170.