|
|
|
هـو أقرب تـلاميذ القديس باخوميوس أب الشركة إلى نفسه، لقَّبه اليونانيون في السنكسار بـ ”المقدس Le Sanctifie“. وقد تنبَّأ الأب باخوميوس، ذات يومٍ، أنَّ شاباً صغيراً سيأتي إلى الدير وسيكون - يوماً ما - خليفته في إدارة الأديرة، إذ قال للرهبان: ”إننا أرسلنا إلى مدينة لاتوبوليس (إسنا) أخانا باكيسيوس للعناية بالمرضى، وقد أخطرني ملاك الرب للحال أنه سيرجع هذه الليلة ومعه إناء مختار، وهو صبي يافـع عمره حـوالي 13 سنة، ويُـدعَى اسمه "تادرس" (ثيئودوروس)“. وقد حدث فعلاً أن رجع الأخ ومعه هذا الصبي المبارك.
نشأته:
وُلِدَ نحو سنة 323م في عائلة شريفة غنية، وكان أبوه أرخناً، وكـان مهتماً بتعليم تادرس الكُتُب، وأُمُّه كانت مؤمنة وكانت تحب تادرس أكثر من جميع إخوته من أجل ميوله الروحية.
وفي عيـد الظهور الإلهي، اعتـادت بعض العائـلات أن تُقيم الحفلات وتتبارَى في أنواع المأكولات والمشروبات؛ وإذ كان تادرس في ذلك الوقت في الثانية عشرة من عمره، بدأ يُفكِّر في ذلك القصر الفخم الذي يعيش فيه مع عائلته، وتلك النفائس التي يمتلكها والده، فتطلَّع إلى الوليمة التي أمامه، ثم أَخَذَ له رُكناً في القصر ليختفي ويركع مُصلِّياً بدموعٍ غزيرة طالباً إرشاد الله له. وإذ بحثت عنه والدته ووجدته، سألته عن سبب بُكائه، فلم يُجبها؛ وإنما احتجَّ بأنه مريض، وانفرد ليُصلِّي حتى المساء.
رهبنته:
استأذن تـادرس والديه ليعتزل مـع بعض المتوحِّديـن القدِّيسـين في إيبارشية لاتوبوليس، وهناك انفرد في عبادتـه. وكان الإخوة يحبُّونه مُتعجِّبين لعمل نعمة الله فيه.
وإذ كان يوماً مجتمعاً مع المتوحِّدين في المساء كالعادة، يُشاركهم الصلاة ويتمتَّع بكلمة الله؛ سَمِعَ أحـد الإخـوة يتحدَّث عـن القديس باخوميوس وتعاليمه.
وعندما فرغ تادرس من صلاته، لم يستطع أن ينام، ولا غمضت عيناه؛ بل بين حينٍ وآخر كان يقف مُصلِّياً ببكاء، راجياً الرب أن يسمح له برؤية القديس باخوم. وفي الصباح أسرع تادرس إلى الأخ الذي تكلَّم ليلاً عن القديس باخوم، وأَخَذَ يسأله عن سيرته. فأجابه الأخ: ”أمَّا عن تعب هذا الرجل، فما سمعته عنه كثيراً جداً؛ بل رأس أعماله هو هذا: إنَّ كل صبي يمضي إليه يترهَّب ويعيش عنده، يبذل (القديس باخوميوس) كل ما في طاقته أن يحفظه طاهراً بنعمة الله بغير خطية“. فطلب تادرس من الأخ أن يُخبره عن نُظُم الأديرة وقوانينها، فأخبره.
وإذ سمع بذلك، كان تادرس يُداوم الصلاة لكي يُهيِّئ الله أَمْر لقائه بالقديس باخوم، قائلاً: ”أيها الرحوم، يا مَن تستجيب لكل طالبٍ، اجعلني أهلاً أن ألتقي بعبدك، وأن أستحق أن أعرفك على يديه“.
وفي ذات يومٍ، مرض تادرس، فأتى إليه والداه بأطعمة من الدير، أمَّا هو فلم يقبل خشية مُخالفة القوانين التي سمعها من الأخ، والخاصة بالنظام الباخومي. ولمَّا اشتدَّ عليه المرض، أَخذه أبـواه إلى المنزل دون أن يشعر بسبب ثقل المرض. فلما عاد إلى وعيه، قدَّموا له الطعام، فأصرَّ ألاَّ يأكل ولو إلى الموت ما لم يردُّوه إلى الدير؛ فاضطروا إلى إرجاعه. وصار الإخوة يخدمونه حتى سمح الله له بالشفاء.
لقاؤه بأبينا القديس باخوميوس:
وبعد أربعة شهور، جاء إلى الدير أخٌ ناسك من شركة القديس باخوم اسمه ”باكيسيوس“، وكان عجيباً في سيرته وصلواته. فلما رآه تادرس، شعر أنَّ الرب أرسله إليه لكي يقوم بتوصيله إلى الأب باخوميوس. وفاتَحَ تادرس ”باكيسيوس“ في الأَمر، فلما سمع منه أَمْره، خاف أولاً بسبب والديه. وإذ أراد الأخ أن يعود إلى ديره، ركب سفينة بالنيل؛ فكان الصبي تادرس يتبع السفينة على الشاطئ. وإذ رأى الذين في السفينة هذا المنظر، أخبروا باكيسيوس الناسك، فاضطر أن يأخذه معه.
وصل الاثنان إلى الدير، فدخل باكيسيوس إلى الأب باخوم ليُخبره بالأمر. فأَذِنَ لتادرس بمقابلته، إذ كـان يتوقَّع مجيئه كما رأينا. وعندما رأى تادرس الأب باخوم، سقط على الأرض بـاكياً وهو يُقبِّل قدميه. فقال له الأب: ”لا تبكي، يا ابني، فـإنَّ ذاك الـذي لأجله هربتَ وإليه التجأتَ، أي الرب يسوع المسيح، هو يُكلِّل جميع ما رسمته في قلبك بالنجاح“. وكان تادرس في ذلك الوقت في حوالي الثالثة عشرة من عمره.
جهاده:
منذ اللحظة التي التقى فيها تادرس بالقديس باخوميوس، لم يكفَّ عن طاعة أبيه طاعة كاملة، مُتدرِّباً على حياة الإيمان العامل الحي. فلم يتأخَّر تادرس قط عن صلوات نصف الليل منذ حداثته، وأن يُجاهد جهاد الشيوخ المختبرين، حتى صار قدوةً حيَّة في وسط الدير.
1. طاعته لأبيه: تعلَّقت نفس تادرس بأبيه وأحبه جداً، فكان يُلازمه كثيراً ويُطيعه في كلِّ أَمْرٍ.
2. محبتـه الروحية لعائلته: مـرَّت سنوات على رهبنة تادرس ولم تَرَ أُمُّه وجهه ولا جاءها منه خطاب. فَقَصَدَتْ أسقف بلدها والأساقفة القريبين منها، وأَخذتْ منهم خطابات توصية لترى ابنها. فحملت الأُم الخطابات وذهبت إلى دير الراهبات الذي ترأسه مريم أُخت القديس باخوم، ومن هناك أرسلت إلى الأب تستعطفه أن يُرسِل إليها ابنها لتراه، وأرسلت إليه خطابات التوصية. فاستدعى الأب تلميذه وأخبره بالأَمر، وطالَبه أن يذهب لرؤية أُمِّه من أجل خطابات الآباء الأساقفة. أمَّا هو ففي جدِّيَّة قال لأبيه: ”يا أبي العزيز، إنَّ أَمْر مُخلِّصنا واضحٌ، إذ قال: «ليس أحد يضع يده على المحراث وينظر إلى الوراء يصلح لملكوت السموات»“. وإذ سمعت الأُم ذلك، تأثَّرت جداً والتهب قلبها بمحبة الله، فوزَّعت كل ممتلكاتها لتعيش كراهبةٍ.
جاء أيضاً أخوه ”بفنوتي“ وطلب مقابلته لكي يترهَّب، وتحت ضغط القديس باخوم قابله على عجلٍ، قائلاً له: ”إنْ كنتَ من أجلي أتيتَ لتترهَّب، فإنني إنْ تخلَّيتُ أنا عن الرهبنة تتخلَّى أنت أيضاً. وإنْ كنتَ قد أتيتَ من أجل مخافة الله، فإنني إنْ صبرتُ أنا أو لم أصبر، فأنت تبقى راسخاً على الدوام“. وإذ أراد بفنوتي أن يسكن مع تادرس، رفض قائـلاً له: لئلا يكونا مثل الجسدانيين، إنما جميع الذين في الدير هم إخوة وبنون لأبيهم بلا تمييز.
3. نقاوة قلبه: حدث أنه إذ كان يصنع تادرس حِبالاً في قلايته، وهو يتلو مِمَّا حفظ من الكتاب المقدس، إذا بفكرٍ نجس يُهاجمه. فقام وأَخَذَ يُصلِّي. وفي الحال، رأى القلاية أضاءت، وظهر له ملاكان مُضيئان في شِبْه رجُلَيْن. فانتابه خوف، إذ لم يكن قد رأى رؤى من قبل، فَهَمَّ بالخروج، لكنه من خوفه سقط. فأقاماه ونزعا عنه الخوف، ثم دعـاه أحـدهما وسلَّمه مفاتيحَ كثيرة.
4. جهاده في النُّسك: جاء تادرس إلى أبيه باخوم في أيام البصخة، قائلاً: ”يا أبي حين كنتُ علمانياً، كنتُ أصوم يومين يومين؛ والآن ماذا ينبغي أن أفعل وقد أدخلني الرب إلى هذا الكمال؟ هل أصوم إلى رابع يوم ثم أعمل في اليومين الآخرَيْن؟“. أجابه أبوه بأنه يلزمه ألاَّ يزيد عن اليومين لئلا يعجز عن العمل والصلاة.
واستطرد القديس باخوميوس: ”... فالصوم يجب ألاَّ يكون عائقاً عن تنفيذ الوصايا، بل مُساعِداً له. وإذا رأى إنسانٌ في نفسه أنه قادرٌ على الصوم أربعة أيام، وجسده قوي يقدر على العمل والصلاة، ونفسه في يد الربِّ؛ فلا ينتفخ أو يسقط في الكبرياء. كما أنه أيضاً متى صام أربعة أيام متوالية، يُعثر الضعفاء الذين في الدير، فإنهم يتشبَّهون به فيتعبون. هذا بالنسبة للراهب في الشركة؛ أمَّا النُّسَّاك الكاملون فهؤلاء لهم أن يصوموا هكذا، لا في أيام البصخة فحسب، بل كل أيام حياتهم تكون بالنسبة لهم كأنها بَصْخة إلى يوم افتقادهم...“.
5. حبُّه لخلاص كلِّ نفسٍ: أراد أحد الإخوة أن يترك الدير، لأن القديس باخوم قد أَنَّبه. فلما سمع تادرس بأَمره تظاهَر هو أيضاً بأنه يرغب في ترك الدير، واتَّفق مع الأخ: إما أن يبقيا معاً، أو يتركا الدير معاً. بهذا كسب تادرس الأخَ بعد أن لاطفه الأب باخوميوس.
رئاسته لدير طبانسين:
أقـام القديس بـاخوميوس تلميـذه تـادرس ”إيكونوموساً“ أي ”مُدبِّراً“ لدير طبانسين، وهو لم يبلغ بعد الرابعة والعشرين من عمره. وقد امتاز باستشارته للإخوة في كلِّ شئون الدير، وكان يرجع إلى القديس باخوميوس طالباً إرشاده. وكان القديس باخوميوس يحبُّه جداً لطاعته ونموه المستمر.
تادرس نائباً للقديس باخوميوس:
لما نما تـادرس في تـدبيره الروحي لدير طبانسين، أخذه القديس باخوميوس إلى دير بافو الذي كان يُقيم فيه، وأقام راهباً آخر عِوَضاً عنه. وكان تادرس مُساعداً للقديس باخوم، كمدبِّرٍ ومُشرفٍ عام على سائر الأديرة، يفتقد الإخوة، ويشفي أمراض نفوسهم، ويقبل الراغبين في الرهبنة. وكان يمتاز ببشاشته ولُطفه مع الجميع. لذلك كان محبوباً ومهوباً من الكلِّ.
في ذاتِ يومٍ، بينما كان تادرس في الكنيسة مع الإخوة، وكانوا يُرتِّلون بالمزامير؛ إذ به يرى المسيح جالسا على كرسي ويُحيط به الاثنا عشر رسولاً.
وفي يومٍ آخر، مضى الأنبا باخوميوس إلى الدير، وأَمَرَ تادرس أن يهتمَّ بالإخوة. وفي الليل قام تادرس يجول في المجمع لينظر الإخوة، وعندما وقف يُصلِّي، رأى الإخوة نياماً مثل الخراف وملاك الرب قائماً في الوسط. فلما نظره تادرس أسرع إليه، وقبلما يقترب منه، سأله ملاك الرب: ”مَن الذي يحرس الإخوة؟ أنت أم أنا!“. فرجع تادرس إلى الوراء، ثم قال: ”إنَّ ملائكة الله هي التي تحرسنا“. وكان الملاك الذي ظهر له شِبْه جندي حاملاً دِرْعاً كبيراً، ومنظره بهيٌّ جداً، وعلى حَقَوَيْه منطقة عريضة تسطع ببريقٍ عظيم.
وكثيراً ما كان الله يكشف له ولأبيه القديس باخوميوس عن نفوس المنتقلين من الإخوة الرهبان، وقـد حملتهم الملائكـة، وهم في فرحٍ وتهليل.
تادرس بعد نياحة أبيه باخوميوس:
عند نياحة الأب باخوميوس، أمسك تادرس بلحية أبيه القديس، وكان قد طالَبَه الأب ثلاث مرَّات أن يحفظ عظامه. وبعد نياحة القديس باخوم، صار بترونيوس هو الأب العام للأديرة، وذلك لمدَّة أيامٍ قليلة، ثم تنيَّح بعد ذلك. وقد خَلَفَ أوراسيوس الأب بترونيوس، وكان قلبه مُتعلِّقاً جـداً بتادرس. وكـان تـادرس يحب الأب أوراسيوس ويُطيعه ويُصغي إلى عظاته كصبيٍّ مُتعطِّش للمعرفة.
وعندمـا حـدث شِقَـاق، طلب أوراسيوس، بإرشادٍ إلهي، أن يكون تادرس هو الأب العام. وبعد إلحاحٍ شديد، وبعد تذكير تادرس بقول أبيه له أن يحفظ عظامه ثلاث مرات، إشارة إلى حِفْظ مجمع الشركة من الانقسام؛ قَبِلَ تادرس الرئاسة، على أنه ما كان يصنع شيئاً إلاَّ بعد استشارة الأب أوراسيوس. وكنتيجةٍ لذلك، عاد كثيرون إلى الشركـة، ولكن - للأسف - بَقِيَ القليل مُعانداً، مِمَّا أحزن نفس تادرس، فكان قلبه متألِّماً جداً.
نياحته:
وفي عشية السبت الكبير، مرض الطوبـاوي تادرس وعرف بزمن انتقاله، فاهتمَّ بالفصح المقدَّس، وجَمَعَ رؤساء الأديرة يطلب منهم الصفح. فحَزِنَ الأب أوراسيوس، وصار الإخوة يبكون مدة ثلاثة أيام. أما تادرس فطلب صلواتهم، ثم انتقل إلى الفردوس في 2 بشنس سنة 375م.
كان لنياحة القديس تادرس أثره الكبير في نفوس المُنشقِّين عن الدير الرئيسي، الذين جاءوا نادمين، وعادوا خاضعين للدير الرئيسي تحت رئاسة الأب أوراسيوس.
شهادة البابا أثناسيوس عنه:
في أثناء رئاسته للأديرة، وَفَدَ البابا أثناسيوس إلى مدينتَي أنتينوي وأورموبوليس، ثم ذهب إلى دير بافـو، ولم يكـن هناك أوراسيوس؛ فكتب رسالة يمدح فيها هـذا العمل الرائـع، واقتداء تادرس وأوراسيوس بأبيهما باخوميوس. وكـان تادرس مُرافقاً للبابـا مُقدِّماً له سفينة الديـر لتُساعده، إذ كانت السفينة المُصاحبة للبابا مُثقَّلة بأحمالٍ كثيرة.
بركة صلواته تكون معنا، آمين.