|
|
|
الظروف التي أدَّت إلى الحملة الفرنسية: بعد أن استردَّ إبراهيم بك ومراد بك منصبيهما وعادا يحكمان مصر بحزمٍ لا بأس به، إلاَّ أنهما تماديا في ابتزاز أموال الناس، وخصوصاً التُّجَّار، بغير حقٍّ؛ بل إنهما تطرَّفا بتصرُّفاتهما السيئة إلى الأجانب القاطنين بمصر. ولذلك كثرت شكاوَى هــؤلاء إلى دولهم. وكـان أصحاب المتاجر من الأجانب: الإنجليز والفرنسيين الذين أقاموا في الإسكندرية والقاهرة للتجارة، يُعانون الشيء الكثير من تعسُّف المماليك الذين أساءوا معاملتهم وأرهقوهم بالضرائب؛ فأُغلِقَت البيوت التجارية، ولم يبقَ للفرنسيين في 1785م سوى ثلاثة بيوت تجارية فقط في القاهرة، بعد أن كان لهم قبل ذلك 15 بيتاً تجاريا في عام 1770م.
? وحتى القنصل العام لفرنسا في مصر ”شارل ميجالون“ الذي عيَّنته حكومة المؤتمر الوطني الفرنسية منذ أوائل عام 1793م، وجَدَ صعوبة كبيرة في الإقامة بالبلاد من غير أن يدفع للبكوات المماليك أتاوة سنوية. واستولى إبراهيم بك ومراد بك على قدر كبير من البضائع عنوة من التُّجَّار. وهكذا كثرت شكاوى هؤلاء إلى دولهم، فطلبت منهما أن يَعْدِلا عن هذه الخطة الذميمة، ويُحسنا معاملة رعاياهما. فلم يسمعا نصيحة هذه الدول، الأمر الذي لفت نظر أوروبا إلى مصر، ما جعل الفرنسيين أن يتَّخذوا من هذه المعاملة السيئة ذريعة لإغارتهم على مصر في سنة 1798م.
? وكانت قد قضت مصر تحت حُكْم الخلافة العثمانية نحو 3 قرون، نشأ داخلها ما يُسمَّى بالمماليك نتيجة ابتزاز دولة الخلافة أموال المصريين وتحكُّمها في شئونهم الشخصية والاجتماعية والدينية؛ كل هذا جعل مصر في معزلٍ عن بقية العالم، فأصبحت لا تدري شيئاً عن نوايا الدول الأوروبية وأطماعها في مصر. ولم ينتفع المصريون من إقامة الأجانب (فرنسيين وإنجليز) بينهم، بل اكتفوا بالنظر إليهم بعين الازدراء والمقت، ظنّاً منهم أن دولهم ما زالت على الضعف الذي سمعوه عنهم أيام الحروب الصليبية. وفاتهم أنَّ الزمان قد تغيَّر، وأنَّ أوروبا أصبحت على مبلغٍ من سعة العلم، وحرية الرأي، والقوة وعِظَم الدراية بالفنون الحربية.
? أمَّا دولة فرنسا، فكانت في ذاك الوقت قد قويت شوكتها بين دول أوروبا، وظهر فيها في أواخر القرن الثامن عشر قائد حربي عظيم، أَخَذَ يتغلَّب على ممالك أوروبا، حتى أنه بات كثير من دولها في خوفٍ منه، وهو القائد ”نابليون بونابرت“.
? ولما لم يسمع إبراهيم بك ومراد بك نصيحة دول أوروبا، ولم يُحسنا مُعاملة رعاياها؛ بدأت هذه الدول تُفكِّر في تجريد حملة عسكرية لغزو مصر واحتلالها.
? أمَّا في مصر، فبالرغم من الأموال الطائلة التي حصل عليها هذان البكوان بشتَّى الأساليب من الأهالي والأجانب على السواء، إلاَّ أنهما لم يهتما بتدبير أمور البلاد، وأهملا في تحصين حدود مصر، واضمحلت في عهدهما الإسكندرية. بينما كانت القوة البحرية عبارة عن 18 مركباً في السويس مُسلَّحة بأسلحة ضعيفة المفعول، ولا يعرف ملاَّحوها كيف يستخدمون تلك الأسلحة. وهكذا كانت مصر ضعيفة عسكرياً لا قدرة لها على المقاومة والدفاع ضد الغزو الأجنبي. وظهر هذا الضعف واضحاً عندما غَزَت تلك الحملة الفرنسية البلاد عام 1798م.
? ولا ننسى أنَّ مصر كانت مُجرَّدة من أيِّ جيش وطني منذ غزو الرومان ثم الفرس ثم العرب مصر. فلم يكن يعرف المصريون شيئاً عن جيش وطني مصري يُدافع عن حدود وحرية ”الوطن“ حيث ضاع هذا الاسم العَلَم من ذاكرة المصريين منذ مئات السنين!
? وخلال الأسابيع الأولى من دخوله القاهرة، أنشأ نابليون ”المعهد العلمي المصري“، لكي يبدأ علماؤه المائة الذين استحضرهم معه عملهم المباشر. وكان يحضر مناقشاتهم بنفسه، ويتقدَّم إليهم بأسئلته. وقد أنشأ هذا المعهد في القاهرة في 20 أغسطس سنة 1798م، وكان يضمُّ 200 ألف وثيقة تحوي مخطوطات وكُتُباً أثرية وخرائط نادرة، من بينها خرائط استندت عليها مصر في التحكيم الدولي لحسم الخلافات الحدودية لكل من حلايب وشلاتين، وطابا، في القرن العشرين. وقد اشتعلت في هذا المجمع العلمي النيران صباح السبت 17 ديسمبر 2011م، خلال أحداث مجلس الوزراء، وتجدَّدت فيه الحرائق في اليوم التالي 18 ديسمبر. ولم يبقَ من المائتي ألف وثيقة التي كانت تُمثِّل ذاكرة مصر منذ عام 1798م سوى خمس وعشرين ألف وثيقة.
إعلان نابليون إسلامه وإسلام الفرنسيين:
? أَخَذَ نابليون يتملَّق المشايخ، ثم أعلن في منشور أرسله إليهم بأنه مسلم، وأنه صديق الباب العالي (مركز الخلافة الإسلامية في الأستانة بتركيا). وقد استهلَّ المنشور بالعبارة التالية: ”بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إلاَّ الله، لا وَلَدَ له ولا شريكَ في مُلْكه...“، إلى أن قال: ”... قولوا لأُمتكم إنَّ الفرنساوية هم أيضاً مسلمون خالصون. وإثباتاً لذلك فقد نزلوا في رومية الكبرى وضربوا فيها كرسي البابا الذي كان يحثُّ دائماً النَّصارى على محاربة الإسلام...“(1).
هذا المنشور لم يفعـل فعلـه، لأن المسلمين لم يُصدِّقوه، ونادوا بالمبادرة إلى القتل. وقـد استجاب الشعب لهذا النداء ”بحيث إنَّ جميع الناس بذلوا كل ما في وسعهم وفعلوا ما في قوَّتهم وطاقتهم، وسمحت نفوسهم ببذل أموالهم“(2). ومن المؤلم أنَّ جميع المنشورات التي أعلنها نابليون، كان يستهلها بهذه المقدِّمة (السالف ذِكْرها)، ورغم قصورها عن توصيله إلى هدفه، فقد كان يُضيف إليها أحياناً جملة: ”المُحب للملَّة المحمدية“.
ظهور رياء نابليون، وسقوط الأقباط شهداءً:
على أنَّ نابليون لم يلبث أن كشف عن ريائه، إذ قد ضمَّ عدداً من الأقباط إلى الديوان (المجلس) الذي ألَّفه. ولكن عمله هذا لم يكن تودُّداً للأقباط، إنما كان انتقاماً من العلماء لتشجيعهم الثورة التي قام بها القاهريون في وجه الفرنسيين بعد شهر واحد من دخولهم مصر.
وخلال هذا القتال سيطرت الفوضى، فقام الناس في الريف يقتلون بعضهم البعض، مِمَّا أدَّى إلى أن يسقط العديد من الأقباط شهداء، لأن الاعتداءات وقعت عليهم بطبيعة الحال. كما تفشَّى السَّلْب والنهب. أمَّا في القاهرة، فقد سطا الأمراء المماليك على بيوت الأقباط وأديرتهم، وعلى بيوت مختلف المسيحيين بحثاً عن الأسلحة.
? ولكي يتـدارَك الفرنسيون الموقف، رأوا وجوب التصالُح مع الشعب، مسلمين وأقباطاً على السواء، ”فقـام عـدد كبير مـن مسيحيي الشوام والإفرنج البلديين (أي من المتمصِّرين) بدور الوسطاء، وانتفعوا مـن المال الذي فرضوه ثمناً لوساطتهم“. على أنه رغم هذا التصالُح، فقد استمر التوتُّر، ولم يَـذ ُقْ لا الفرنسيون ولا المصريون طعم الراحة، منذ ذاك الوقت وإلى انتهاء الحملة الفرنسية.
? ولكن، وفي وسط هذه الغُمَّة، ظل بعض الأقباط في مراكزهم المهنية. فيُحدِّثنا أحد الشهود الفرنسيين عن أنَّ كل قرية كان لها كاتبٌ وصرَّافٌ مـن الأقباط. فكـان الصرَّاف يتلقَّى المال والضرائب العينية، ويقوم بتسجيلها في الدفتر الخاص بها. وكان الكَتَبَة يتمتعون بحظوة خاصة لدى الأمراء المماليك بسبب ما يقومون به بأمانة وإخلاص لا يستطيع غيرهم تأديته.
لأول مرَّة تعود الملكية الفردية للمصريين:
وفي منتصف شهر سبتمبر سنة 1798م (أي بعد دخول الفرنسيين بشهرين)، أصدر الفرنسيون قانوناً بتجديد الانتفاع بالأرض، حيث يحقُّ للمنتفعين توريثها لأبنائهم في حدود انتفاعهم بها. ومع أنَّ هذا القانون لم يُنفَّذ جديّاً، إلاَّ أنه كان الشرارة الأولى التي أيقظت الوعي الشعبي المصري بتجديد الملكية الفردية للأرض؛ إذ أنَّ السلطان التركي (الخليفة العثماني) كان يَعتَبر كل الأراضي المصرية مِلْكاً له شخصياً، وأنَّ العاملين الفلاحين فيها مجرد عبيد يزرعون ويُفلِّحون ويُنتجون، ليُقدِّموا له في النهاية ثمرة جهودهم الشخصية المُضنية.
إطلاق الفرنسيين الحرية (الكاذبة) للمصريين:
ثم أعقب ذلك فترة من الركود، إذ أطلق الفرنسيون الحرية للمصريين. إلاَّ أنَّ هذه الحرية وقتذاك لم تأتِ بثمرٍ بسبب كساد الأسواق، وحصار البوارج الإنجليزية للموانئ المصرية ومنعها حركة الصادرات والواردات. ولذلك، انشغل الشعب الذي بلغ حالة يُرثَى لها من الفقر والضنك، انشغلوا بالحِرَف المتدنِّية: كقَلْي السمك، وبَيْع الفطير والأشربة المُسْكِرَة، لفائدة الفرنسيين المُستعمرين. كما أنَّ عدداً كبيراً منهم اشتغل حمَّاراً لكثرة استعمال الجنود الفرنسيين لهذه الدَّابة. حتى لقد عبَّر أحد شعراء هذه الفترة من التاريخ، بقوله: ”إنَّ الفرنسيس (هكذا كان يدعوهم المصريون)، قد ضاعت دراهمهم في مصر ما بين حمَّار وخمَّار“.
تسلُّل مظاهر العظمة والتَّرَف إلى الأقباط:
ومِمَّا يُوجِع القلب (حسب تعبير الأستاذة إيريس حبيب المصري في كتابها: ”قصة الكنيسة القبطية“(3)) أنَّ رعاع القبط انضموا في ذاك الوقت إلى الشوام والأروام واليهود في الظهور بمظاهر العظمة والتَّرَف، فركبوا الخيول، وتقلَّدوا السيوف، ولم يتعفَّفوا عن فحش القول، ولا عن الاستبداد بالمسلمين. وليس هذا بغريب على هؤلاء الرعاع، أن يسلكوا مثل هذا المسلك، لأنهم من الساخرين بالدين وبرجال الدين. كذلك اشتركوا في احتفالات رأس السنة الميلادية، التي أقامها الفرنسيون، بما فيها من مساخر وتصرُّفات خارجة عن الأخلاق المسيحية(4).
دخول عادة الاحتفال برأس السنة الميلادية
في الكنيسة القبطية:
وبالرغم من محدودية دخول مثل تلك العادات بين المستويات الدُّنيا من الأقباط في ذاك العصر وما بعده، إلاَّ أنَّ عادة الاحتفال برأس السنة الميلادية لم يدخل في الكنيسة القبطية، على مستوى الشعب القبطي، إلاَّ في عهد البابا الراحل المتنيِّح قداسة البابا شنودة الثالث (1971-2012م)، حيث صارت الكنائس تحتفل به بالسَّهَر في الكنائس في ليلة رأس السنة الميلادية، بالرغم من أنَّ هذا اليوم ليس داخلاً ضمن أعياد الكنيسة القبطية. وقراءات الكنيسة في هذا اليوم لا صلة لها بميلاد المسيح، ولا ببدء سنة جديدة (كما هو الحاصل في قراءات رأس السـنة القبطيـة ”النيروز“)؛ ولكن - للأسف - حُشِرَ الاحتفال بهذا اليوم داخل احتفالات الكنائس، وكأنه فعلاً عيد من أعياد الكنيسة.
? وللأسف الشديد أيضاً: فقد طلب بعض أقباط المهجر أخيراً تغيير قراءات الكنيسة التي تُتلى في هذا اليوم، وهو أحد أيام الصوم الميلادي البتولي، بما فيه من قراءات مُناسبة لهذا الصوم.
دخول بدعة انفصال الاحتفال بسرِّ الزيجة
المقدس عن طقس القدَّاس الإلهي:
? ويا للأسف أيضاً، فقد دخلت أيضاً بدعة إقامة سر الزيجة المقدَّس بعيداً عن الاحتفال الأسبوعي بالقدَّاس الإلهي، حيث كانت تُجرَى طقوس ”سر الزيجـة المقدَّس“ في مـوضعها مـن طقوس الليتورجية المقدَّسة ليوم الأحد، وفي حضور مجمع شعب الكنيسة، وذلك بعد صلاة نصف الليل. وكانت تُقام هذه الطقوس لأكثر من زيجة واحدة، مثلها في ذلك مثل سرِّ الكهنوت المقدَّس، أي رسامات الأساقفـة والقسوس والشمامسة، كل رسامة في موضعها من طقوس ليتورجية قدَّاس يوم الأحد.
? ولكن بمشابهة الفرنسيين (أو ”الفرنجة“ بلغة القرن الثامن عشر)، صارت طقوس سرِّ الزيجة تُعقَد في مساء يومٍ مستقل من أيام الأسبوع، وبعيداً عن طقس إقامة القدَّاس الإلهي، وعن حضور المؤمنين في الإيبارشية أو في الحيِّ الذي فيه الكنيسة. وبموجب هذا الانفصال الطقسي، ظنَّ - ويا لسوء الظـنِّ – الحاضرون أنَّ مـن حقِّهم أن يحضروا ما يُسمُّونـه: ”حفل إكليل“، وبحريتهم في ارتـداء الملابس غـير اللائقـة (للنساء)، والهرج والمَرَج، والحرية في السلوك والتصرُّف... إلخ.
? وهكذا ضاعت هيبة ونعمة حلول الروح القدس في أول يوم من حلولها على الزوجين، وحلول الروح القدس في شركة الحياة الجديدة المُشبَّهة باتحاد المسيح بالكنيسة! فهل نعجب بعد ذلك من حدوث ضعف في شركة الاتحاد بين الزوجين، أو من انفصال حياتهما عن التمتُّع بالحياة والشركة في المسيح إلى الأبد؟ أو من حدوث طلاق أو نفور أو ما أشبه ذلك بينهما؟
مُطالبة الأقباط بمبلغ باهظ،
على أنه تكملة للضريبة:
على أنه ما كادت السنة الثانية من الحملة الفرنسية، حتى طالبوا الأقباط بمائة وخمسين ألف ريال فرنسي، قالوا إنها متبقِّية من الضريبة التي كانت مفروضة عليهم من السنة السابقة وتأخَّروا عن دفعها. فاضطر الأراخنة إلى التعاون معاً لدفع هذا المبلغ، ذوداً منهم عن شعبهم(5).
حملة ضد الأقباط بقيادة جيش تركي:
ثم حدث أن أرسل السلطان التركي جيشاً بقيادة ناصيف باشا، فدارت المعارك بينه وبين الفرنسيين. ومع أنه لم يُحرز أحدٌ منهما نصراً على الآخر، إلاَّ أنَّ ناصيف باشا دخل العاصمة، وأَمَرَ بقتل المسيحيين دون تفريق بين أجنبي أو سوري أو قبطي، فقد أراد القائد التركي أن يُغطِّي على فشله بتوجيه غضب الشعب ضد غيره. ولم يجد مَن يستثير الغضب الشعبي ضـده غير المسيحيين. فأصدر هـذا الأَمـر الوحشي الذي نفَّذه الجيش التركي، ولكن ليس وحده، بل شاركه فيه العامة أيضاً. ولكن ذهب ضابط تركي اسمه عثمان بك إلى ناصيف باشا وقال له: ”ليس من العدالة أن تُهرقوا دماء رعايا الدولة، فإنَّ ذلك مخالِفٌ للإرادة السنيَّة“. وعند ذلك، صدر الأمر بالكفِّ عن هذه المذبحة.
(يتبع)