*
*
*
* |
*
*
|
*
*
*
* |
*
* * * *
* «فإنه لأجل هذا بُشِّر الموتى أيضاً، لكي يُدانوا حسب الناس بالجسد، ولكن ليَحْيَوْا حسب الله بالروح» (1بط 4: 6).
*
كتابات الآباء الكبادوك (نسبة إلى كبادوكية
في تركيا الآن)ــ:
ونبدأهم بالقديس باسيليوس الكبير (329-379م) رئيس أساقفة قيصرية كبادوكية وصاحب القدَّاس المُسمَّى باسمه (القداس الباسيلي):
? يقول القديس باسيليوس في شرحه لمزمـور 49 (48)، الـذي يتكلَّم فيه كـاتب المزمور عن نزول ”مسيَّا“ المسيح إلى الجحيم، باعتبار هذا النزول تكميلاً لخدمته الخلاصية حينما كان على الأرض:
[لقد كانوا مُلْقين في الجحيم كخراف، والموت سوف يتغذَّى عليهم، هذا الذي رحَّلهم إلى الأَسْر، أولئك الذين كأنهم وحوش، والذين يُشبَّهون بقطيع بلا وعي، كخراف بلا فهم وبلا قدرة على الدفاع عن أنفسهم. والموت الذي هو عدوُّهم، قد ألقاهم في سجنه ثم سلَّمهم إلى الموت ليلتهمهم. لأن الموت قد تعهَّدهـم منذ عهد آدم وحتى خدمـة موسى (ارجع إلى رو 5: 14). وإلى أن جاء الراعي الحقيقي الذي بذل حياته من أجل رعيَّته، فجعلهم يقومون معاً، وهو يُخرجهم من سجن الجحيم إلى نهار القيامة، ثم يُسلِّمهم إلى الأبرار الذين هم الملائكة القديسون، الذين سوف يتعهَّدونهم](1).
القديس غريغوريوس اللاهوتي
أسقف سازيما (329-390م):
وهو صاحب القدَّاس المُسمَّى باسمه (القداس الغريغوري). ويرجع القديس غريغوريوس إلى نـزول المسيح إلى الجحيم، سواء في عظاته أو في أشعاره اللاهوتيـة. ففي مقـال ”رقم 45“ المشهور، الذي صار لعدة قرون جزءاً لا يتجزَّأ من خدمة الفصح الليتورجية لدى الكنيسة البيزنطيـة؛ يقتبس القديس غريغوريوس مـن المدائح الفصحية ويصف ”سرَّ الفصح“ بنغمات شعرية رائعة:
[اليوم أتى الخلاص إلى العالم، سواء العالم المنظور أو غير المنظور. المسيح قام من بين الأموات، فقُمْ أنت معه. المسيح رجع مرة ثانية إلى حياته، فلترجعْ أنت أيضاً. المسيح تحرَّر من القبر، وأنت تحرَّر من رباطات الخطية. أبواب الجحيم انفتحت، الموت قد تحطَّم، وآدم القديم قد تنحَّى جانباً، وآدم الجديد قد صار حاضراً، فهو خليقة جديدة؛ فَلْتتجدَّد أنت... فصح الرب، الفصح، ومرة ثالثة أقول: الفصح، قد صار عابراً إلى كرامة الثالوث. إنه بالنسبة لنا هو عيد الأعياد، واحتفال الاحتفالات](2).
? واستكمالاً لنفس الاتجاه، خاطب القديس غريغوريوس سامعيه:
[وإن كان قد نزل إلى الجحيم، فانزل أنت معه. تعلَّم أن تعرف أسرار المسيح هناك أيضاً: ما هو غرض العناية الإلهية من النزول المزدوج؟ أن يُخلِّص كل البشر باستعلانه، هنا على الأرض، أو هناك في الجحيم يُخلِّص أيضاً الذين يؤمنون](3).
والقديس غريغوريوس في هذا النص يتكلَّم عن ”النزول المزدوج“ لابن الله: النزول على الأرض (أي التجسُّد)، والنزول إلى الجحيم (مِن قِبَل الصليب). وكِلا الحَدَثَيْن أو النزولَيْن كانا في الكتابات المسيحية المُبكِّرة في ارتباطٍ تام.
القديس يوحنا ذهبي الفم
بطريرك القسطنطينية (347-407م):
يُعتَبَر القديس يوحنا ذهبي الفم في المقام الأول أحد آباء القرن الرابع الذي كتب في كثير من كتاباته وعظاته عن نزول المسيح إلى الجحيم. وفي عظته على ”القبر والصليب“، يُعلِّق على ”أبواب النحاس“، ويصف انتقال الأموات الذين في الجحيم (أي النفوس) إلى الفردوس بعد نزول المسيح إلى الجحيم، حيث أضاء المسيح بنوره أرجاء الفردوس:
[اليوم ذهب المسيح إلى مواضع الجحيم. اليوم كسَّرَ أبوابه النحاس إرباً إرباً، وقصف مغاليقه الحديد (إش 45: 2). لاحِظ دقة التعبير. فهو لم يَقُل: ”فَتَح أبواب النحاس“، بل: ”كَسَّرَ مِصْراعَي النحاس“، لكي يجعل كل السجن بلا منفعة. لم يفتح مصراعي النحاس، بل قصفها إرباً إرباً، حتى يجعلها بلا فائدة. وإن كان المسيح قد كَسَّره إلى قطع متناثرة، فمَن يمكنه إصلاحه؟... وكَسَّر أبوابه النحاس، لكي يُظهِرَ أن الموت قد صار له نهاية. لقد قيل إنه ”من نحاس“، ليس لأنه فعلاً مصنوعٌ من مادة النحاس، بل لكي يُظهِرَ مدى القسوة وانعدام الرحمة اللتين للموت...
هل تريد أن تعلم كم كان الموت مزعجاً، وعديم الرحمة ما لا يمكن قهره؟ لم يكن مُمكناً لأحدٍ أن يتصوَّر أنه ممكن لأحد أن يفلت منه، إلى أن جاء ربُّ الملائكة، ونزل إليه وأجبره أن يفعل هذا! لقد سبق الرب أولاً ورَبَطَ ”القويَّ“ أولاً، ثم ”نَهَبَ أمتعته“ (مت 12: 29)، و”القويُّ“ هو الموت. وهذا هو السبب الذي جعل النبيَّ يُضيف: «ذخائر الظلمة، وكنوز المخابئ (أو ”الكنوز المُخبَّأة“ كما في الترجمة السبعينية)» (إش 45: 3)... وموضع الجحيم هذا هو مظلم وكئيب وغير منظور. حقّاً هو مظلم، إلى أن نزل شمس البرِّ إلى الجحيم وأَنارَه، وجعل الجحيم سماءً، لأنـه حيث يكـون المسيح فهناك تكـون السماء](4).
? وفي عظاته على إنجيل متى، يُردِّد القديس يوحنا ذهبي الفم التعليم التقليدي عن انتصار المسيح على الشيطان وعن إبادة الموت بموت المسيح:
[تأمَّل في هذا الكلام الذي تسمعه، كيف أنَّ الله من جانبه في السماء قد تنازَل من على عرشه الملوكي، ونزل إلى الأرض، ثم نزل بنفسه البشرية إلى الجحيم ذاته، ووقف في ساحة المعركة؛ وكيف أنَّ الشيطان قد وقف في الجانب الآخر، ونصَّبَ نفسه أمام الله الذي لم يكن مكشوف الوجه، بل مُختبئاً في طبيعة الإنسان. وأعجب مـن هـذا، فسوف تـرى الموت قد أُبيد بموت المسيح، واللعنة قد بطلت بلعنة الموت على الصليب، ومملكة الشيطان قد انهارت بنفس ما تسلَّط به الموت على البشر](5).
? وفي نفس عظاته ”على إنجيل متى“ يوضِّح القديس يوحنا ذهبي الفم أنَّ الذين كانوا يؤمنون بالله الحقيقي في العهد القديم قد تحرَّروا، ويقول إنه بالرغم من أن نزول المسيح إلى الجحيم قد أَبْطَلَ سلطان الموت، إلاَّ أنه ليس كل واحد تحرَّر من مسئولية خطاياه وهو في حياته الأرضية:
[الحياة الحاضرة هي طبعاً زمان الحياة الصالحة، لكن بعد الموت فهناك الدينونة ومجازاة كل واحد حسب أعماله. وقد قيل: «ليس في الموت مَن يذكُركَ، ولا في الهاوية (الجحيم) مَن يعترف لك» (مزمور 6: 5 –الترجمة السبعينية). فكيف يكون، إذن، كَسْر أبواب النحاس، وقَصْف مغاليقه الحديد؟ إنه بجسد المسيح الذي كان أولاً جسداً منظوراً، قابلاً للموت، لكنه حطَّم العدوَّ الذي هو مَن له سلطان الموت، وليس بالحلِّ من الخطايا للذين ماتوا قبل مجيئه. فإن لم يكن الأمر هكذا، لكان خلَّص كل الذين كانوا في الجحيم قبل نزوله إلى هناك، فكيف يقول المسيح: «إن أرض سدوم يكون لها حالة أكثر احتمالاً يوم الدين» (مت 11: 24)! لأن هذا القول الذي للمسيح يفترض أن هؤلاء أيضاً سوف يُدانون حتى لو كانت دينونتهم أخفَّ وطأة. ولكن هؤلاء وأولئك سوف يُدانون. وأيضاً سوف يُدانون هنا بدينونة شديدة، ولن يعفيهم شيء من الدينونة على كلِّ حال](6).
والقديس يوحنا ذهبي الفم يشرح لرعيته نزول المسيح إلى الجحيم على أنه حجَّة بأنهم لا ينبغي أن يتجاهلوا وجود دينونة بعد الموت، إنْ لم يكونوا قد مارسوا الأعمال الصالحة، وهم في الحياة على الأرض.
القديس إبيفانيوس أسقف قبرص (أو الاسم
القديم Salamis) (310/320-403م):
ويمتدُّ القديس إبيفانيوس بموضوع النزول إلى الجحيم، في كتابه: ”الخلاصة الوافية ضد الهراطقة“، ويُسمَّى باليونانية panarion، ويعني: ”خزانة الأدوية ضد سموم الهرطقات“. وفي هذا الكتاب يُركِّز القديس إبيفانيوس، على الأخص، بأنَّ النفس البشرية للمسيح نزلت إلى الجحيم وهي متَّحدة بلاهوته:
[(المسيح) تألَّم بجسده، ومات بجسده، ولكنه باتحاد جسده بلاهوته أقام الموتى من الجحيم. لقد قُبِرَ جسده فعلاً وحقّاً، وبَقِيَ بدون نفسه البشرية، وبلا تنفُّس، وبدون حركة، وكان ملفوفاً بكَفَنٍ، ووُضِعَ في قبر مُغلَق بحجرٍ كبير مختوم بخاتم السلطات الرومانية؛ إلاَّ أنَّ لاهوته، لا هو خُتِمَ ولا هو قُبِرَ، بل فقط كان متَّحداً بجسده في القبر. أمَّا نفسه المقدَّسة وهي متَّحدة بلاهوته، فقد نزلت إلى الأرض السُّفلى، وحرَّرت من هناك النفوس المأسورة. لقد كسَّرت (نفس الرب المتَّحدة بلاهوته) شوكة الموت، ودمَّرت مزاليج وأقفال الحديد، وقوَّتها فكَّت أوجاع الجحيم، ثم صعدت منه. نفسه البشرية لم تَبْقَ في الجحيم، وجسده (في القبر) لم يَرَ فساداً (مز 106: 10)؛ بل لاهوته أقامه؛ أو بالحري، الرب نفسه، كلمة الله وابـن الله، قـام بنفسه وجسده، بكـل أعضائه](7).
الآباء السريان:
? القديس مار أفرآم السرياني أعطى اهتماماً خاصاً لموضوع نزول المسيح إلى الجحيم، وهو يسرد حادثة موت المُخلِّص على الصليب كسبب لقيامة الناس مـن بين الأموات. وهو يُشير أيضاً إلى انتصار المسيح على الموت، وسَحْق وإبادة الجحيم:
[لكن الرب، بدوره، أباد الموت من خلال صرخته المُدوِّية على الصليب قبل أن يُسْلِمَ الروح. فحينما ربط الموت شخصاً ما على الصليب، فإنَّ كل المربوطين في ”شيئول“ (الكلمة السريانية للجحيم)، قد تحرَّروا بسبب قيود شخص واحد…
واليدان اللتان خلَّصتانا من رباطات الموت، اللتان تثبَّتتا بـالمسامير في خشبة الصليب؛ هاتان اليدان كسرتا سلاسل موتنا وربطتا أولئك الذين ربطونا نحن](8).
آباء القرن الخامس:
? ابتداءً من القرن الخامس، أشار كثيرون من الكُتَّاب الكنسيين إلى نزول المسيح إلى الجحيم، ولكن بدون تعليقات مُفصَّلة. ثم صارت أمراً مألوفاً في عظات الفصح، للإشارة فقط إلى أنَّ المسيح قد قهر الموت بموته، وأباد قوة الشيطان. وكمَثَل لذلك: العظات الفصحية للقديس باسيليوس (أسقف سيلوقية)، والقديس مرقس الناسك (في رسالته إلى المتوحِّد نيقولاوس)، وهيزيخيوس أسقف أورشليم، بالإضافة إلى:
القديس كيرلس الكبير (الإسكندري)
(375-444م):
إنَّ عقيدة نزول المسيح إلى الجحيم تشغل حيِّزاً حيوياً في كتابات القديس كيرلس الكبير أسقف الإسكندرية في أواخر القرن الرابع وحتى قُرْب منتصف الخامس. ففي عظاته الفصحية كان يُشير مراراً وتكراراً إلى أنه كنتيجة لنزول المسيح إلى الجحيم، فقد صار الشيطان متروكاً وحده تماماً، بينما الجحيم قد دُمِّر:
[لأنه إذ دمَّر الجحيم، وكسَّرَ أبوابه التي كان متعذِّراً اجتيازها لئلا ترحل منها الأرواح المسجونة؛ فقد تُرِكَ الشيطان وحده هناك مهجوراً ووحيداً](9).
? وفي عظاته الفصحية، توسَّع في موضوع كرازة المسيح في الجحيم، وهو الموضوع السائد في تقليد كنيسة الإسكندرية منذ العلاَّمة كليمندس الإسكندري (150-215م)، فقد كان يرى أنَّ هذه الكرازة هي تحقيقٌ لتدبير الخلاص الذي بدأ مع تجسُّد ابن الله:
[لقد أظهر الطريق إلى الخلاص، ليس فقط لنا، بل وأيضاً للأرواح التي في الجحيم؛ لذلك نزل، وبشَّر الذين كانوا قبلاً عُصاة، كما وصفهم القديس بطرس الرسول (1بط 3: 20،19): «الذي فيه أيضاً ذهب فكَرَزَ للأرواح التي في السجن، إذ عصت قديماً حين كانت أناة الله تنتظر مرَّة أيام نوح». إذ لا نتصوَّر الله في محبته للإنسان أن يكون متحيِّزاً، لكن هذه المحبة كانت ممتدة لكل الطبيعة البشرية…
فإذ بشَّر الأرواح التي في الجحيم، وإذ قال: «هَلُمَّ أيها الأَسْرى اخْرُجُوا من الظلام، واظْهِروا أنفسكم» (إش 49: 9)؛ ففي اليوم الثالث أقام هيكل جسده، ومرة أخرى فَتَحَ لطبيعتنا طريق الصعود إلى السماء، مُقدِّماً نفسه للآب، باعتباره (أي المسيح) رأس وبداية البشرية، مُقدِّماً للذين على الأرض عربون نعمة الشركة في الروح](10).
? واضحٌ من عظة القديس كيرلس أنَّ انتصار المسيح على الجحيم والموت هو كامل ونهائي. وجسد الرب القائم من بين الأموات هو ضمان الخلاص لكل مَن آمن بالمسيح، هذا الإيمان الذي هو الطريق المؤدِّي بالطبيعة البشرية إلى الخلاص والتأليه النهائي.