|
|
|
سر التجسُّد الإلهي (5)
بعض التوضيحات عن التجسُّد والخلاص (تكملة)
نُكمل ما ورد في المقال السابق (عدد أبريل 2014، ص 29) عن بعض الأسئلة والتساؤلات حول تجسُّد المسيح.
- «بكى يسوع»: هذه هي المرة الوحيدة التي كُتب عنه أنه «انزعج بالروح واضطرب» (يو 11: 33-35) عندما أتى إلى حيث مات ”حبيبنا“ لعازر، إذ هكذا كان يُلقِّبه.
- كذلك أظهر اهتماماً بنويّاً بأُمه، حينما كان مُعلَّقاً على الصليب (يو 19: 26،25).
الكنيسة ترفض هرطقة أبوليناريوس:
وهنا لابد أن نُشير إلى هرطقة أبوليناريوس التي رفضتها الكنيسة، والتي فيها كان يُعلِّم بأن المسيح لم يكن له ”نفس“، وأنَّ طبيعته اللاهوتية أخذت مكان ”النفس“ البشرية في المسيح. وهذا الرأي مرفوض بالنسبة للكنيسة التي سمعت الأناجيل تُقرأ وتعرف أن يسوع كان له ”نفس بشرية“ تماماً مثلنا، والنفس هي موضع كل الخبرات النفسية الحقيقية للإنسان، وكل مشاعره الإنسانية.
كذلك رفضت الكنيسة الهرطقة ”الأبولينارية“، وأكَّدت بأنَّ الرب يسوع كان هو الله حقيقياً، وإنسانـاً حقيقياً بنفسٍ وجسد. فهـو كما تقول التسبحة: [واحد من اثنين: لاهوت قدوس بغير فساد مساوٍ للآب، وناسوت طاهر بغير مُباضعة مسـاوٍ لنا كـالتدبير] (التسبحة السنويـة - ثيئوطوكية الأحد)؛ أي مُشابهاً لنا في كل شيء ما خلا الخطية وحدها.
تجرَّب من الشيطان: فالرب يسوع لم يكن مُستثنىً ولا مُحصَّناً ضد مواجهة قوة التجربة أو الغواية مثل كل البشر. فالتجربة والغواية هما أدوات الشيطان لإسقاط البشر في الخطيئة، كما فعل في شخص الحيَّة قديماً ضد آدم وحواء. والمسيح كان يحمل كل الإمكانيات التي بها نستطيع نحن أيضاً أن نواجه التجربة والغواية من الشيطان، وننتصر.
+ وما يُصوِّره الإنجيل في سرد رواية التجربة على الجبل، ثم في بستان جثسيماني قبل الموت على الصليب، هي روايات حقيقية وليست مُزيَّفة ولا تمثيلية. ومسيح الإناجيل كان عُرضةً لكل هذه العروض الخبيثة التي يعرضها الشيطان لنا نحن البشر. لكن المسيح انتصر عليها كلها في النهاية.
صلوات المسيح، هل يمكن أن تُعلِن بشريته؟
بدون النفس البشرية، وهي موضع طاقات الحياة، والحركة، والاستجابة، والانفعالية؛ كيف كان يمكن لرواة الإنجيل أن يُعبِّروا عنها حينما ذكروا أنَّ المسيح كان يُصلِّي؟ ومن المؤكَّد أن هذه الصلوات لم تكن ادِّعاءً ولا تظاهُراً ولا زَعماً غير حقيقي؛ بل بالعكس، كانت صلوات المسيح تُعلن عن نفس المسيح المُثقَّلة بأثقال البشرية، ولكن بالفرح بقدرته في الله على رفعها. ومن هنا أتت سعادته بالانسحاب من العالم إلى حين، ليتحادث مع الله أبيه.
+ لم يكن فقط يُصلِّي من أجل الآخرين، بل وأيضاً من أجل نفسه، حينما قال لتلاميذه: «نفسي حزينة جداً حتى الموت» (مر 14: 34)، «... وخرَّ على الأرض وكان يُصلِّي لكي تعبُر عنه الساعة، إنْ أمكن» (مر 14: 35).
+ كيف نقرأ هذه الكلمات دون أن نحسَّ معه بعِظَم الثقل الذي ترزح تحته البشرية، وموقفه منه في هذا الوقت؟ وما هو الغرض من ذِكْر هذه التفاصيل بواسطة البشير كاتب الإنجيل إلاَّ ليُظهِر المخلِّص كواحدٍ منَّا، إنساناً بشرياً مثلنا تماماً، مُشارِكاً لمحْنَتنا تماماً، وآلامنا تماماً؛ وإلاَّ ليُظهره أنه ليس سوى الله الذي لَبِسَ طبيعتنا الشقية؟ وهنا تظهر عظمة اتضاع الله أن يقبل ويَرضَى أن يتجسَّد ويحتمل الأثقال والآلام التي تُعاني منها البشرية؟
+ القديس يوحنا ذهبي الفم يتعجَّب من التدبير الإلهي في كتابة الأناجيل: فالقديس متى يُظهِر مُشاركة المسيح في بشريتنا بطريقة تختلف عن القديس يوحنا؛ فالقديس متى بقلقه على آلام المسيح الآتية بعد قليل، بينما القديس يوحنا يحزن بسبب تشويه صورة التاريخ؛ القديس متى بسبب الألم والضيق والرعدة والعَرَق الذي اجتازه المسيح، بينما القديس يوحنا يحزن لحزن المسيح. فهل من المعقول أن لا يكون إنساناً من طبيعتنا، وإلاَّ ما كان يجتاز كل هذا الحزن(1)!
المشيئة البشرية للمسيح متَّحدة مع المشيئة الإلهية: لقد صار المسيح نموذجاً وقدوة لنا في اتحاد مشيئتنا مع مشيئة الله، بقوله: «يا أبتاه إنْ شئتَ أن تُجيز عني هذه الكأس، ولكن لتكن لا إرادتي بل إرادتك» (لو 22: 42). «إن شئتَ» في إنجيل لوقا، «إنْ أمكن» في إنجيل يوحنا، تعنيان أنَّ مشيئة وإرادة الله كانت هي الغالبة في صلاة المسيح. وهذه هي النفس البشرية الكاملة التي تشتاق، وتُصلِّي، وتتوسل، وتتألَّم، وتواجه تجربة اليأس؛ ولكن في النهاية تنتصر وتريد وتشاء: «لا إرادتي بل إرادتك». وهنا ألغى ابن الله المتجسِّد ما اقترفه آدم، حينما خضع آدم لمشيئته مضادّاً لمشيئة الله فسقط؛ بينما خضع المسيح لمشيئة الله لتحيا فيه البشرية كلها الحياة الأبدية باتحاد مشيئتها بمشيئة الله!
مثل هذه الصلاة لا يمكن أن تخرج
إلاَّ من نفس بشرية حقيقية كاملة:
الإنسان البشري وحده هو الذي يمكنه أن يتألَّم بهذه الطريقة، وليس الحيوانات ولا الملائكة. الحيوانات ينقصها لغة الإحساس بالمستقبل، فهي لا تستطيع أن تضطرب أو تنزعج بالروح. أما الكائنات اللاجسدية مثل الملائكة فلأنها بلا أجساد، فلا يمكنها أن تتألَّم مثلما يتألَّم الجسد البشري. آلام الرب يسوع في بستان جثسيماني تُعلِن المآسي الغريزيـة للشخصيـة الإنسانية ووجودها في الجسد. فلو كان المسيح هو الله فقط بدون كونه في نفس الوقت بَشَراً، فما كان يواجه مثل هذه المحدودية، ومواجهة توقُّعات الموت، ولا كان خاضعاً لتصرُّفات الآخرين. ولكن المسيح هو الله؛ وفي نفس الوقت هو إنسان، محدود، مُواجِهاً الألم والموت.
هل واجَه المسيح خبرة الخوف؟
هناك نوعان من الخوف؟ لقد اختبر يسوع نوعاً من الجَزَع، ولكنه لم يختبر النوع الآخر، وذلك حسب تفسيرات الآباء الكنسيين.
ليس الخوف العُصابي:
لم يختبر المسيح القلقَ العُصابي، ولا الخوف المَرَضي غير المعروف سببه، في مواجهة طارئ لابد من مواجهته. وحتى ولو كان المسيح قد أخفى نفسه كاستجابة معقولة لتهديد حقيقي، أو بسبب أنه كان واعياً مُدرِكاً بأنَّ ”ساعته لم تأتِ بعد“ (يو 2: 4)؛ ولكن ليس هناك أي دليل بأنه كان خائفاً بطريقة جامحة، أو كان قلقاً بإفراط بطريقة مُغَالَى فيها(2).
الخوف الطبيعي:
إلاَّ أنَّ يسوع اختبر الخوف الغريزي الطبيعي في مواجهة تهديد واقعي، كما أشار القديس يوحنا في إنجيله: «الآن نفسي قد اضطربت. وماذا أقول؟ أيها الآب نجِّني من هذه الساعة. ولكن لأجل هذا أتيتُ إلى هذه الساعة» (يو 12: 27)(3) (راجع مت 26: 39؛ مر 15: 34؛ يو 11: 35).
+ هذا الخوف الطبيعي ناتج عن أنَّ الإنسان منَّا يخاف الخوف الطبيعي الغريزي عندما تكون النفس غير راغبة في الانفصال عن الجسد، بسبب ما غرسه الله فيها من إحساس طبيعي بالاتحاد والصلة بالجسد، فتنقبض وتَجْفَل وتفرَّ من الموت. ولهذا السبب يرغب الإنسان في الأَكل والشُّرب والنوم لكي تظل نفسه متَّحدة بالجسد. ومن أجل هذا وضع الله أيضاً في الجسد الرغبة في الأكل والشُّرب والنوم.
لكن المسيح، بالرغم من هذا الخوف الطبيعي الغريزي، وضع مشيئة الله أعلى من مشيئته الطبيعية الغريزية، متحدِّياً الخوف من الموت، ومُخضِعاً كِلا النفس والجسد لمشيئة الله: «تعلَّم الطاعة مِمَّا تألَّم به» (عب 5: 8).
كيف تمجَّدت البشرية بمجيئه في جسدنا؟
لقد تمجَّدت البشرية - بما لا يُقاس - في تجسُّد الابن الكلمة لطبيعتنا البشرية. وبحسب تعبير آباء الكنيسة الجامعة، فإنَّ الله جعل الجسد إلهياً، دون أن يُعطي الفرصة بأيِّ حال لعبادة المخلوق.
تمجيد الطبيعة البشرية:
هذا كان موضوع تأمُّل القديس أُغسطينوس حينما قال: ”لماذا كان هناك مثل هذا المجد العظيم للطبيعة البشرية؟ هذا من عمل النعمة“(4).
ويُلخِّص القديس أُغسطينوس هذا الفعل بأنَّ الطبيعة البشرية قد ارتفعت بالله الابن؛ وبالروح القدس وُهبنا من الله هذا الاتضاع العظيم من جانب الله العظيم الأبدي، أن يجعلنا مستحقين أن يتَّخذ كل طبيعتنا البشرية(5).
تأليه البشرية التي تجسَّدها ابن الله: لقد أرسى القديس إيرينيئوس مبدأ تأليه (المُسمَّى باليونانية Theosis) بشرية المسيح ابن الله بطريقة تجعلها النموذج الأصلي للآخرين بقوله: ”صار على ما نحن عليه، حتى يجعلنا على ما هو عليه نفسه“(6).
+ والقديس أثناسيوس الرسولي امتدَّ بهذا المبدأ بقوله: ”هو صار إنساناً لكي نصير نحن إلهاً. وقد أظهر نفسه بجسد حتى ننال نعمة الآب غير المنظور. لقد احتمل إهانات البشر حتى نرث نحن عدم الفساد“(7).
+ ويقول القديس أثناسيوس الرسولي أيضاً: ”لقد ألَّه ما لبسه (أي الجسد)“(8).
هل ناسوت المسيح يُعبَد؟
+ هذا السؤال خادع. فإنه لا يمكن الفصل بين ناسوت المسيح ولاهوته. فالاتحاد الأقنومي ثابت راسخ لا يمكن معه الفصل بين لاهوت المسيح وناسوته كما فعل البطريرك نسطور رأس الهرطقة النسطورية في القرنين الرابع والخامس، وأدانه مجمع أفسس المسكوني عام 431م. وقد جاهَد المُعلِّمون الكنسيون الأرثوذكسيون في توضيح مجد الطبيعة البشرية في المسيح. فالبشرية لم تكن مجرد قطعة من ثوب حتى تُلقَى بعيداً فيما بعد. لقد دبَّر اللوغوس، كلمة الله، أن يصير واحداً مـع البشرية في استمرارية حتى بعد قيامته مــن بين الأموات. والقيامة كانت قيامة الجسد، وحدثت «بإنسان أيضاً قيامة الأموات...» (1كو 15: 21-28).
وبناء على ذلك، فالعبادة الحقيقية، هي لابن الله المتجسِّد، عبادة واحدة، وسجود لواحدٍ وليس لاثنين (مجمع أفسس).
+ ويؤكِّد القديس أثناسيوس الرسولي: ”نحن لا نعبد مخلوقاً، ما أبعد هذا الفكر! لأن مثل هذا الخطأ يخصُّ الوثنيين والآريوسيين. لكننا نعبد ربَّ الخليقة، المتجسِّد، كلمة الله“(9).
البشرية المنفصلة في التعاليم الحديثة
الحركة الحديثة لفصل بشرية المسيح عن لاهوته المتجسِّد: انحراف خطير في الآراء الحديثة تجاه الرب يسوع المسيح، هو التأكيد على أن ناسوته يجب فصله عن شخصه الإلهي المتجسِّد.
فإنَّ بعض الكُتَّاب والمُفكِّرين الحديثين صاروا شغوفين بالادِّعاء بأنك إذا أخذتَ يسوع المسيح مُجرَّداً من لاهوته، فإنَّ هذا هو كل ما أنت تحتاج إليه؛ بل وكل ما يمكنك أن تأخذه (إن أنت أخذتَ شيئاً فعلاً!).
فإنَّ التعليم التقليدي عن اتحاد الشخص الإلهي - البشري، قد بدأ هؤلاء الكُتَّاب في شَطْره وفَصْله، وعلى أساس هذا الفهم الخاطئ، فقد انتهى هؤلاء الكُتَّاب العلمانيون إلى الضَّجَر من التعاليم التقليدية، فنادوا بمبدأ ”يسوع هو بطلٌ أخلاقي أو نابغة ديني“.
وصار هؤلاء المُفسِّرون شغوفين بأن يُركِّزوا إيمانهم، لا على شخصـه (أي شخص الإلـه المتجسِّد)؛ بل على الإيمان بأفكاره ومُثُله العُليا فقط، متخيِّلين أنهم يُشاركونه في الإيمان بما يؤمن هو به!
نتائج هذا ”التقليص“ للمسيحية:
إنَّ هذا الفَصْل بين اللاهوت والناسوت في شخص المسيح يتجاهل الموضوع الأساسي للعهد الجديد. فالمسيحية منذ نشأتها وأصولها الأولى، كانت تعبد يسوع باعتباره المسيح، ابن الله الحي المتجسِّد، ملء اللاهوت قد استُعلِن في التاريخ.
فتغيير هذا الأساس معناه تغيير المسيحية لكي تصير إلى لا شيء. فالذين نحُّوا جانباً طبيعة المسيح اللاهوتية مُرَكِّزين فقط على الجانب البشري وحده، مجرِّدين إيَّاه من الاتحاد الأقنومي بين الله والإنسان؛ يكونون قد جرَّدوا المسيحية من مسيحيتها وجوهرها الإلهي.
ليس بطلاً ولا نابغة: فالذين يتعاملون مع الرب يسوع المسيح على أنه رائد أخلاقي أو سياسي كبطل حديث في التاريخ أو كنابغة روحي، لا يمكن أن يتفادوا حقيقة أنَّ الرب سوف يتقابل معهم، بالتحديد، كابن الله وكلمة الله.
المؤمن بالمسيح يتلقَّى دعوة المسيح لي ولك بكلمة: «تعالوا إليَّ» (مت 11: 28)، كما هو: «المسيح ابـن الله الحي» (مت 16: 16؛ يـو 6: 69)؛ وليس كما يتصوَّره ويتخيَّله البعض.
+ وأخطر ما في هذه البدعة العلمانية الحديثة هو المناداة بانفصال اللاهوت عن ابن الله المتجسِّد، وبقاء الناسوت وحده نتناوله في الإفخارستيا كما يقولون!
(يتبع)
(1) Hom. On John LXIII. 2; NPNF, 1st Ser., Vol. XIV, p. 233.
(2) Athanasius, Four Discourses Ag. Arians III. 29; NPNF, 2nd Ser., Vol. IV, pp. 423,425.
(3) Athanasius, Contra Apollinaris I.16.; II; 3,10,13.
(4) Augustine, Enchiridion XI.36, VI.
(5) Augustine, On Faith and the Creed IV.8; NPNF, 1st Ser., Vol. III, p. 325.
(6) Irenaeus, Ag. Her. V pref.; ANF, Vol. I, p. 526.
(7) Athanasius, Incarn. of the Word 54; NPNF, 2nd Ser., Vol. IV, p. 65.
(8) Athanasius, Four Discourses Ag. Arians I, 42; NPNF, 2nd Ser., Vol. IV, p. 330.
(9) Athanasius, Letter to Adelphius, Chap. 3; NPNF, 2nd Ser., Vol. IV, p. 575.