بمناسبة الخمسين المقدسة


نصرة القيامة

”المسيح قام“(1)! بهذه الصرخة المدوِّية انتشر الإنجيل في ربوع العالم. فالبشارة بالمسيح المصلوب تحمل داخلها البشارة بالمسيح القائم من بين الأموات. وهذا ما صرَّح به بطرس الرسول في عظته الأولى يوم حلول الروح القدس: «فلْيَعْلَمْ يقيناً جميع بيت إسرائيل أنَّ الله جعل يسوعَ هذا، الذي صلبتموه أنتم، ربّاً ومسيحاً... فيسوع هذا أقامه الله، ونحن جميعاً شهود لذلك» (أع 2: 32،36).
إنَّ الإيمان بعودة الفادي إلى السماء، بدون قيامته من بين الأموات بالجسد، إيمانٌ سهل يمكن تصديقه. فابن الله الحيُّ بَقِيَ كما هو حيّاً، ومن الممكن بعد موته بالجسد على الصليب أن يعود إلى مجد الآب بطبيعته الروحية الإلهية؛ لأنه قبل تجسُّده كان موجوداً في السماء منذ الأزل بدون جسد بشري، وكان بدون شك هـو أصل ومصدر كل خليقة حيَّة، لأنه هو «رئيس الحياة» (أع 3: 15)، و«فيه كانت الحياة» (يو 1: 4).

لقد حـاول بولس الرسول أن ينقل لأهل أثينا - أصحاب الحكمة اليونانية - رسالة الخلاص، فاستمعوا إليه بكل اهتمام؛ لكنه عندما وصل إلى موضوع القيامة من بين الأموات، انفضُّوا من حوله (أع 17: 32). فالإيمان بالمسيحية بدون القيامة شيء سهل على العقول البشرية التي اعتادت الالتصاق بالتراب والنظر الدائم إلى السُّفليات.

أما قيامة الرب من بين الأموات بالجسد، فكانت أمراً ضرورياً وحتمياً لإتمام واستعلان الفداء؛ لماذا؟

أولاً: بالقيامة تحقَّق الانتصار الكامل

على الموت:

فعودة المسيح إلى السماء بدون قيامته بالجسد من بين الأموات، لا يُثبت نصرته الكاملة على الموت: «لأنك لن تترك نفسي في الهاوية، لن تَدَع تقيَّك يرى فساداً» (مز 16: 10). فعدم قيامته بالجسد يُحقِّق نصرته على الموت روحياً ونظرياً أو أخلاقياً فقط بعد أن انتصر على قوات الظلمة بالصليب: «أشهرهم جهاراً ظافراً بهم فيه» (كو 2: 15)؛ لكنه يكون قد أخفق في تحقيق النصرة على الموت الطبيعي؛ ويكون قد حقَّق انتصاراً منقوصاً - إنْ صحَّ هذا التعبير - ولم يُحقِّق انتصاراً كاملاً. ويكون الكيان الإنساني قد نال الانتصار جزئياً فقط، أي نال الظفر بالروح والنفس؛ أمَّا الجسد فيكون ما زال في احتياج لتحقيق الغلبة والنصرة.

ليس ذلك فقط، لأنه بدون قيامة المسيح بالجسد ما كان ممكناً أن يُستعلَن كظافرٍ على الموت بأية صورة من الصور. لأنه ما هو الموت؟ الموت ليس هو التوقُّف عن الوجود، بقدر ما هو اضمحلال للشخصية الإنسانية؛ وليس هو استئصالاً للكيان، بقدر ما هو انفصام للعلاقة القائمة بين الروح والنفس والجسد. لذلك فالغلبة على الموت يجب أن تُستعلَن بتحقيق عودة هذه الوحدة، وبإعادة هذه الرابطة العضوية للروح والنفس والجسد، والتي تعني من وجهة نظر الجسد اتحاد الجسد مرة أخرى بالنفس والروح. وهذا ما عبَّرت عنه صلاة القسمة السريانية في القداس الإلهي: ”وأتت نفسه، واتَّحدت بجسده“.

لذلك، فبدون قيامة المسيح بالجسد من بين الأموات، لا يكون هناك انتصارٌ للحياة؛ وبدون هذه القيامة، لا يوجد هناك ثمرٌ لهذا الانتصار: «ابْتُلِعَ الموتُ إلى غلبة. أين شوكَتُكَ يا موت؟ أين غَلَبَتُكِ يا هاويـة؟ أمَّا شوكـة الموت فهي الخطية، وقوة الخطية هي الناموس. ولكن شكراً لله الذي يُعطينا الغلبة بربنا يسوع المسيح» (1كو 15: 54-57).

لأنه فقط بالقيامة بالجسد من بين الأموات، ظهر اندحار وهزيمة الموت. لذلك فإنَّ إيماننا وإصرارنا على قيامة المسيح من بين الأموات بالجسد من المُحال أن يتزعزع، حتى وإن لم يكن هناك شهادة مُثبِتة لوجود القبر الفارغ في الأناجيل الأربعة (مت 28؛ مر 16؛ لو 24؛ يو 20).

ثانياً: بالقيامة تثبَّت الإيمان بالفادي:

لأن الإيمان يأتي عن طريق الكرازة، أو كما يقول بولس الرسول: «إذاً الإيمان بالخبر، والخبر بكلمة الله... فكيف يدعون بِمَنْ لم يؤمنوا به؟ وكيف يؤمنون بِمَنْ لم يسمعوا به؟ وكيف يسمعون بلا كارز؟ وكيف يكرزون إن لم يُرْسَلوا؟» (رو 10: 15،14،17)

فالإنسان يؤمن بشهادة وكرازة آخرين مؤمنين قبله. وإيمان أولئك لا يمكن تصوُّره بمعزلٍ عن إيمان الجيل الأول: «مبنيِّين على أساس الرسل والأنبياء... الذي فيه أنتم أيضاً مبنيُّون معاً، مسكناً لله في الروح» (أف 20:2-22). أمَّا إيمان أولئك الأوَّلين فقد أصابه الانهيار بعد موت المسيح على الصليب، وأنه لم يتم استعادته مرة أخرى إلاَّ بعد قيامة الرب بالجسد من بين الأموات وظهوره لهم بعد قيامته: «ولما كانت عشية ذلك اليوم، وهو أول الأسبوع، وكانت الأبواب مُغلَّقة حيث كان التلاميذ مجتمعين لسبب الخوف من اليهود، جاء يسوع ووقف في الوسط، وقـال لهم: سلامٌ لكم. ولما قـال هـذا أراهم يديه وجنبه، ففرح التلاميذ إذ رأوا الرب» (يو 20: 20،19).

فبدون قيامة المسيح بالجسد ما كـان في إمكان أيِّ إنسان يُعْمِل عقله أن يؤمن بالمسيح المصلوب. لأن هذه النهاية الأليمة على الصليب كانت ستنقُض بشدة كل الإعلانات والشهادات التي قدَّمها المسيح عن نفسه بخصوص قيامته ونصرته على الموت:

+ «وفيما هم يتردَّدون في الجليل قال لهم يسوع: ابن الإنسان سوف يُسلَّم إلى أيدي الناس، فيقتلونه، وفي اليوم الثالث يقوم. فحزنوا جداً» (مت 17: 23،22).

+ «ها نحن صاعدون إلى أورشليم، وابن الإنسان يُسلَّم إلى رؤساء الكهنة والكتبة، فيحكمون عليه بالموت، ويُسلِّمونه إلى الأمم لكي يهزأوا به ويجلدوه ويصلبوه، وفي اليوم الثالث يقوم» (مت 20: 19،18).

إنَّ قيامة الرب تُمثِّل ختم الله الآب على شخص وعمل الابن: «فيسوع هذا أقامه الله، ونحن جميعاً شهود لذلك» (أع 2: 32). وبقيامته من بين الأموات، تثبَّت فعلاً أنه النبي وأنه ابن الله: «عن ابنه، الذي صار من نسل داود من جهة الجسد، وتعيَّن ابن الله بقوة من جهة روح القداسة، بالقيامة من الأموات» (رو 1: 4،3). فالقيامة هي الختم على:

1 - شهادة الأنبياء: «لأنك لن تترك نفسي في الهاوية. لن تَدَع تقيَّك يرى فساداً» (مز 16: 10)، «يُحيينا بعد يومين. في اليوم الثالث يُقيمنا، فنحيا أمامه» (هو 6: 2).

2 - شهادة يسوع لنفسه: «من ذلك الوقت ابتدأ يسوع يُظْهِر لتلاميذه أنه ينبغي أن يذهب إلى أورشليم ويتألَّم كثيراً من الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة، ويُقتل، وفي اليوم الثالث يقوم» (مت 16: 21)، «فأجاب اليهود وقالوا له: أية آية تُرينا حتى تفعل هذا؟ أجاب يسوع وقال لهم: انقضوا هذا الهيكل، وفي ثلاثة أيام أُقيمه... أما هو فكان يقول عن هيكل جسده. فلما قام من الأموات، تذكَّر تلاميذه أنه قال هذا، فآمنوا بالكتاب والكلام الذي قاله يسوع» (يو 2: 18-22).

3 - شهادة رسله الأطهار: «وإن لم يكن المسيح قد قام، فباطلة كرازتنا وباطل أيضاً إيمانكم، ونوجَد نحن أيضاً شهودَ زورٍ لله، لأننا شهدنا من جهة الله أنه أقام المسيح وهو لم يُقِمْهُ... ولكن الآن قد قام المسيح من الأموات وصار باكورة الراقدين» (1كو 15: 14-20).

4 - حقيقة أنَّ يسوع هو ابن الله: «إن الله قد أكمل هذا لنا نحن أولادهم، إذ أقام يسوع كما هو مكتوب أيضاً في المزمور الثاني: أنت ابني أنا اليوم ولدتُك» (أع 13: 33)، «وتعيَّن ابن الله بقوة... بالقيامة من الأموات» (رو 1: 4).

5 - يسوع الملك ابن داود: «إنه أقامه من الأموات، غير عتيد أن يعود أيضاً إلى فسادٍ، فهكذا قال: إني سأُعطيكم مراحم داود الصادقة» (أع 13: 34).

6 - السلطان المطلق ليسوع كديَّان الأرض كلها: «لأنه أقام يوماً هو فيه مُزْمِعٌ أن يدين المسكونة بالعدل، برَجُلٍ قد عيَّنه، مُقَدِّماً للجميع إيماناً إذ أقامه من الأموات» (أع 17: 31).

7 - قيامتنا العتيدة والمجد المعدُّ لنا: «لأنه إن كنَّا نؤمن أن يسوع مات وقام، فكذلك الراقدون بيسوع، سيُحضرهم الله أيضاً معه» (1تس 4: 14).

ثالثاً: القيامة هي أساس الحياة الجديدة للمؤمنين:

بمعنى أنه عندما قدَّم المسيح نفسه كذبيحة خطية لأجل الإنسان، فإنَّ هذه الذبيحة تفيد الإنسان الخاطئ فقط عندما يؤمن بالمسيح كحَمَل الله الذي يرفع خطية العالم (يو 1: 29)، فإنَّ كل مَنْ يؤمن به تكون له الحياة الأبدية (يو 3: 15،14). أمَّا القيامة فهي ضرورية لجعل هذا الإيمان ممكناً، لأن الإيمان بحَمَل الله المذبوح شبه مستحيل بدون ظهور الانتصار المطلق فوق الجلجثة (يو 19: 30) والقيامة الغالبة من بين الأموات.

لأن بقيامة المسيح المجيدة صار الإيمان بالمسيح المصلوب ممكناً، وهذا الإيمان هو الأساس للحياة الجديدة التي ينالها المؤمنون. ولأننا بواسطة هذا الإيمان ننال مغفرة الخطايا، وبواسطة هذا الإيمان صرنا أولاد الله، لذلك أرسل الله روحَ ابنه إلى قلوبنا (غل 4: 6).

وهكذا، فإن الثمرة المباركة لذبيحة المسيح الكفَّارية من أجلنا، والمصالحة التي أكملها لنا، هي أننا اتَّحدنا به وصرنا معه جسداً واحداً: «لأنه إن كنا قد صرنا متَّحدين معه بشِبْه موته، نصير أيضاً بقيامته» (رو 6: 5)، «مع المسيح صُلِبتُ، فأحيا لا أنا، بل المسيح يحيا فيَّ. فما أحياه الآن في الجسد، فإنما أحياه في الإيمان، إيمان ابن الله، الذي أحبني وأسلم نفسه لأجلي» (غل 2: 20)، «لأنكم قد مُتُّم وحياتكم مُستترة مع المسيح في الله» (كو 3: 3).

وبهذا الإيمان صار لنا الحق أن نأكل جسد ابن الإنسان ونشرب دمه؛ والمسيح الذي مات وقـام مـن أجلنا، صار فينا: «رجاء المجد» (كو 1: 27).

إنَّ الإيمان بالمسيح ليس مجرَّد قبول لشخص المسيح، لكنه إيمانٌ يؤدِّي إلى اتحاد شخصي معه، أي يؤدِّي إلى الثبات فيه. والعهد الجديد بأكمله يؤكِّد على الثبات ”في المسيح“. فمثلاً بولس الرسول بمفرده يذكر عبارة «في المسيح» حوالي 164 مرة، فنحن ”تبرَّرنا في المسيح“ (غل 2: 16)، ونلنا ”بر الله في المسيح“ (2كو 5: 21). وحول هذه النقطة المباركة تدور معظم رسائل بولس الرسول:

+ ففي الرسالة إلى أهل رومية نجد: التبرير في المسيح.

+ وفي الرسالتين إلى أهـل كورنثوس نجد: التقديس في المسيح.

+ وفي الرسالة إلى أهل غلاطية نجد: الحرية في المسيح.

+ وفي الرسالة إلى أهل أفسس نجد: الوحدة في المسيح.

+ وفي الرسالة إلى أهل فيلبِّي نجد: الفرح في المسيح.

+ وفي الرسالة إلى أهل كولوسي نجد: الملء في المسيح.

+ وفي الرسالتين إلى أهل تسالونيكي نجد: التمجيد في المسيح.

هذه الحياة الجديدة لنا في المسيح لم يكن ممكناً أن ننالها بدون الإيمان بالمسيح، الذي كان من المستحيل تحقيقه دون قيامته من بين الأموات.

أخيراً: قيامة المسيح بالجسد

هي أساس قيامة وتجلِّي العالم:

إن قيامة المسيح بالجسد من بين الأموات تؤكِّد أنَّ الفادي لم يتخلَّ عن طبيعتنا البشرية؛ بل أقامها وجعلها طبيعة ممجَّدة: ”وصار المسيح هو آدم الأخير“ (انظر رو 5: 12-21)، أو ”آدم الثاني من السماء“ (1كو 15: 47،45)، وأنه ”في السماء جالس عن يمين الآب“ (أع 1: 11)، وأنه ”رأس الخليقة الجديدة“ (أف 1: 22)، الخليقة المفتداة من بين الجنس البشري كله.

فقيامتنا الأخيرة بأجسادنا الروحية الممجَّدة، ما كان يمكن أن تحدث بدون قيامة الرب يسوع. فبقيامته كباكورة لنا، نلنا عربون تجلِّي الطبيعة البشرية: «ولكن الآن قد قام المسيح من الأموات وصار باكورة الراقدين... كل واحد في رتبته: المسيح باكورة، ثم الذين للمسيح في مجيئه» (1كو 15: 23،20)، «وهو رأس الجسد: الكنيسة. الذي هـو البداءة، بِكْرٌ من الأموات» (كو 1: 18).

وقيامة كثيرٌ من أجساد القديسين الراقدين عند قيامة الرب، تُثبت أن طريق قيامة المفديين قد افتُتِح (مت 27: 53،52). فغلبته على الموت كانت ضامناً لقيامتنا نحن: «وإن كان روح الذي أقام يسوع من الأموات ساكناً فيكم، فالذي أقام المسيح من الأموات سيُحيي أجسادكم المائتة أيضاً بروحه الساكن فيكم» (رو 8: 11)، «لأنه إن كنَّا نؤمن أن يسوع مات وقام، فكذلك الراقدون بيسوع، سيُحضرهم الله أيضاً معه» (1تس 4: 14).

وجسد قيامته الممجَّد هو الصورة والنموذج التي ستكون عليها أجسادنا عند القيامة: «الرب يسوع المسيح، الذي سيُغيِّر شكل جسد تواضعنا ليكـون على صـورة جسد مجده» (في 3: 21،20)، «وكما لبسنا صورة الترابي، سنلبس أيضاً صورة السماوي» (1كو 15: 49).

إنَّ قيامة “البِكْر” هي الأساس لكل قيامة: «... فإنه تأتي ساعة فيها يسمع جميع الذين في القبور صوته، فيخرج الذين فعلوا الصالحات إلى قيامة الحياة...» (يو 5: 26-29).

بل إنَّ قيامة الرب بالجسد هي الأساس لتجلِّي الطبيعة كلها: «لأن الخليقة نفسها أيضاً ستُعتق مـن عبودية الفساد إلى حرية مجد أولاد الله» (رو 8: 21).

لذلك فإنَّ آخر وأهم نتيجة لقيامة المسيح هي هذه: «لأني هأنذا خالقٌ سمواتٍ جديدة وأرضاً جديدة» (إش 65: 17؛ 2بط 3: 13).

(1) عن كتاب: The Triumph of the Crucified, A Survey of the History of Salvation in the New Testament, pp. 40-46. ”انتصار المصلوب، نظرة عامة لتاريخ الخلاص في العهد الجديد“، لمؤلِّفه: Erich Sauer إريك ساور.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis