-108-


الكنيسة القبطية في القرن السابع عشر
البابا متاؤس الثالث
البطريرك المائـة
في عداد بطاركة الكرسي الإسكندري
(1631 - 1646م)


«وأبواب الجحيم لن تقوى عليها» (مت 16: 18)

موطنه ورهبنته واختياره للبطريركية:
بعد نياحة البابا يؤانس الخامس عشر، وكان ذلك في اليوم الخامس من الشهر الأخير (النسيء) سنة 1346ش الموافق 7 سبتمبر سنة 1629م، اجتمع – كالمعتاد – مجمع الأساقفة مع أراخنة الشعب، وتبادلوا معاً فيمَن يختارونه. وبالتشاور معاً وصلوا إلى الاتفاق على راهب اسمه ”تادرس“ من دير القديس أنبا مقار الكبير. وقد وُلد في طوخ النصارى بالمنوفية من أبوين تقيَّيْن اشتهرا بخوف الله والتقوى، وقد أحسنا تربيته، فأرسلاه إلى ”كُتَّاب“ البلدة (هذا كان اسم ”المدرسة“ في العصور الوسطى، مُلحقاً إما بالكنيسة أو بالجامع. وكانت هذه المدارس عبارة عن حلقات دراسية حول ”المعلِّم“، وهكذا كان يُسمَّى. وكانوا يدرسون اللغة القبطية - في الكتاتيب الملحقة بالكنيسة - والألحان والكتاب المقدس؛ ومن العلوم المدنية: الحساب، وغيره من علوم العصر).

+ ولما تَرَعْرَع وتعلَّم، بدأت ميوله تظهر في الاتجاه لمعيشة الزُّهد والتقشف والنُّسك والتعفُّف؛ وهكذا اشتاق إلى حياة الرهبنة، فهجر البلدة وتوجَّه إلى دير القديس أنبا مقار في برية النطرون تابعاً قول المسيح له المجد: «مَن أحبَّ أباً أو أُماً أكثر مني فلا يستحقُّني... ومَن لا يأخذ صليبه ويتبعني فلا يستحقُّني» (مت 10: 38،37).

+ وقيل في سيرته إنه اشتهر بين أقرانه في الدير بسموِّ الأخلاق والوداعة والمعرفة والتقوى والصلاح، فاختاروه قسّاً للدير. ونظراً لشدة غيرته وصلاحه وعطفه، أقامه مجمع رهبان دير القديس أنبا مقار رئيساً للدير، وانتُدب إلى درجة ”الإيغومانس“ (أي مُدبِّر).

رسامته:

وفي يوم الأحد 4 من الشهر النسيء سنة 1347ش الموافق 8 سبتمبر 1631م، تمَّت رسامة القس تادرس بطريركاً، باسم البابا ”متَّاؤس الثالث“. واشتهر هذا الأب البطريرك في التاريخ باسم ”متى الطوخي“. وكان المطران المتقدِّم في تكريسه هو أنبا يؤانس، كما كان المتولِّي على مصر وقتئذ ”الأمير حسن“ قائم مقام موسى باشا المخلوع.

بدء خدمته:

فلما جلس هذا البابا على الكرسي الرسولي، قام برعاية شعب المسيح أحسن رعاية. وكان الهدوء والسلام يرفرفان على المؤمنين في أيامه، وبخاصة على الكنائس.

+ وكان يُقيم في القلاية البطريركية بكنيسة السيدة العذراء الأثرية بحارة زويلة، والتي كانت وقتئذ مقرّاً للبطاركة.

اضطهاد الوالي للبابا بادِّعاء

رسوم الرسامة البطريركية:

هيَّج عدو الخير في أُناس متآمرين بالسوء على هذا البابا الجليل الوديع القلب، فوشوا إلى المتولِّي على مصر آنذاك ”خليل باشا“، وأخبروه أنَّ الذي يصير بطريركاً يقوم بدفع رَسْم كبير المقدار للمتولِّي. فأرسل خليل باشا إلى البابا متَّاؤس رسولاً من قِبَله ليستدعيه، وليُطالبه بدَفْع الرسوم المعتادة.

فلما عَلِمَ جماعة أراخنة الشعب بهذه المؤامرة، توجَّهوا إلى القلعة وطلبوا مقابلة المتولِّي، فسمح لهم بذلك. ووجدوه قد نَسِيَ أنه طلب حضور الأب البطريرك شخصياً، ثم تكلَّم معهم في شأن الرسوم المعتادة وألزمهم بدَفْع غرامة قدرها 4000 قرش.

فنزل الأراخنة من عند الوالي ممتلئين غمّاً، ولكن الله رتَّب أن يتقدَّم رجل يهودي ويُبدي استعداده لدفع المبلغ المذكور من عنده للوالي على أن يُسدِّدوه هم له. كما قام البابا أيضاً واشترك معهم بجانبٍ يسير من هذه الغرامة، وسدَّد الجميع القيمة للرجل اليهودي المذكور.

ولما كان البابا لا يملك درهماً واحداً، فقد نزل إلى الوجـه القبلي لجمعها، واشترك أراخنة وتجَّار الصعيد في الوفاء بالمبلغ المطلوب بكل ارتياح.

وقوع غلاء عظيم في البلاد:

قبل مجيء البابا متَّاؤس، وفي أواخر أيام البابا السابق ”يؤانس الخامس عشر“، ثم في مدة خلو الكرسي البطريركي الذي استمر مدة سنة كاملة، هبط منسوب نهر النيل هبوطاً كبيراً. فلما جاء شهر توت (سبتمبر 1630م) لم يرتفع مستوى النيل بل هبطت مياهه مرة واحدة، فانتشر الغلاء في البلاد. وزاد ثمن القمح وأصبح نادر الوجود، حتى اضطر أكثر الناس إلى أَكْل الميتة. ومنهم مَن مات من أكل لحوم الدواب فتورَّم جسمه ومات، ومنهم مَن دقَّ العظام وأكل طحينها، ومنهم مَن كان يبحث في مخلَّفات المأكولات ليلتقط منها ما يسد رَمَقه. وظل هذا الغلاء مستمراً لمدة سنتين. وكان المتولِّي على الصعيد ”الأمير حيدر“، وكـان الوالي في مصر المُـرسل من الدولة العثمانية في تركيا هو ”موسى باشا“.

الرخاء بعد الغلاء:

في شهر توت سنة 1348ش، وصل إلى مصر من ”الآستانة“ (اختصار اسم ”اسطنبول“، وهي اختصار ”قونستانتينوبوليس“ أي مدينة ”القسطنطينية“) مقر الباب العالي أي قصر السلطان العثماني؛ وصل إلى مصر ”خليل باشا البستانجي“ الوالي الجديد واستلم زمام الحُكْم. وفي نفس هذه السنة 1348ش زادت مياه النيل، وارتوت الأراضي، حتى أقبلت سنة 1349ش فزادت محصولات البلاد، والأراضي ازداد خصبها وتضاعف ريعها، وانخفضت أسعار القمح إلى قرشين للأردب، وهبطت بالتالي أسعار المأكولات وغيرها.

+ وفي هذه السنة استقال خليل باشا من الولاية، وتولَّى بدلاً منه الوزير ”أحمد باشا الكورجي“. وفي سنة 1350ش كان النيل فائضاً عالياً جداً، فعمَّ الرخاء كل البلاد. وفي شهر بابة من السنة المذكورة، تولَّى على الصعيد الأمير على بك الذولفقاري. وتوفَّرت المياه في عهده، وزُرعت الأراضي، واطمأن الناس، وزال الغلاء، وانخفضت الأسعار.

إرسال 12 ألف قنطار من النحاس لسكِّها

نقوداً، وبعث بدلاً منها 300 ألف قنطار

من الحبوب لتركيا:

+ وفي سنة 1350ش أرسل السلطان العثماني إلى الوالي أحمد باشا الكورجي مراكب كثيرة مليئة نحاساً بشكل أقراص عليها صورة خاتم سليمان، بلغ وزنها 12 ألف قنطار، لكي يسكَّها الوالي نقوداً على أن يبعث بدلاً منها إلى مقر السلطان العثماني في تركيا 300 ألف قنطار من القمح.

فأخذ الوالي في سكِّ النحاس وأعدَّ لذلك عُمَّالاً ومعاملَ. ثم رأى بعد ذلك أن جميع هذه الإجراءات قد ذهبت عبثاً، لأن العُمَّال ملُّوا من العمل ومات منهم كثيرون بسبب التعب وشدَّة الحرارة.

فجمع الوالي ذوي المشورة من الأمراء والقضاة، واستشارهم. فاقترح أحد القضاة أن يُجبر الأهالي على استلام هذا النحاس على أن يدفعوا مقابل ذلك المبالغ المطلوبة.

فأقرَّ الجميع رأيه وقاموا بتنفيذه، فألقوا هذا النحاس على كاهل الناس في مصر والصعيد بسعر كل قنطار 80 قرشاً. وقد ترتَّب على ذلك لكل الناس الضرر والضعف، لأن وزن النحاس كان ثقلاً عظيماً طُرح على كاهل المصريين، ولم ينجُ من هذه الضريبة الشاذة لا الأغنياء ولا الفقراء.

وهكذا قلَّت النقود، وارتفع سعر الحبوب، وارتفعت أسعار سائر المأكولات ارتفاعاً فاحشاً، حتى أن أغلب الناس اضطروا إلى بيع كل ما يمتلكونه. وهكذا تضاعفت الأهوال والآلام التي تحمَّلها الشعب المصري بكل طوائفه من أقباط ومسلمين ويهود. ذلك لأن ولاة الأمور ربحوا من هذه العملية التبادلية بين النحاس والحبوب أموالاً كثيرة تجهَّزت وأُرسلت إلى دار السلطنة بالآستانة، أي القسطنطينية.

ولكن لمَّا سمع السلطان مراد أن الوالي أحمد باشا الكورجي حَمَّل الناس بهذا النحاس بالقوة والاقتدار، واستعمل في ذلك الجَوْر والظلم بالعباد؛ غضب عليه واستدعاه من مصر إلى الآستانة. ولما وصل الوالي إلى الآستانة، قال له السلطان: ”قد أرسلتُ إليك النحاس لتعمله عملة يتعامل بها الناس، فكيف تُحمِّل الناس به وتظلمهم؟“. ثم أَمَرَ بضرب عُنقه، وولَّى بدلاً منه الوزير حسين باشا(1).

عودة إلى إثيوبيا وأعمال الكاثوليك هناك:

لقد تولَّى المملكة بعد الملك سجاد الثاني على البلاد الإثيوبية، الملك ”فاسيلاوس“ في سنة 1632م، فقام باضطهاد تابعي الكاثوليك بكل حزم حتى قطع دابر جميع الرهبان الكاثوليك، وطَرَدَ كل مَن يتبع المذهب الكاثوليكي من بلاد إثيوبيا، ومَنَعَ دخول الغرباء إليها لغير التجارة وأداء الأعمال. واستعادت بعد ذلك البلاد وحدتها الدينية الأصيلة، ونظَّمت علاقتها بأُمِّها الكنيسة الرسولية القبطية الأرثوذكسية(2).

وبعد ذلك أرسل الملك فاسيلاوس إلى البابا متَّاؤس يطلب مطراناً للمملكة لإدارة الكنيسة الإثيوبية بعد توقُّف أعمال الكاثوليك وآثارهم. وهكذا كرَّس البابا متَّاؤس للمملكة الإثيوبية مطراناً لهذه البلاد اسمه ”أنبا مرقس“. وكان هذا المطران من أهالي أسيوط. وقد حدثت له أحزان وشدائد كثيرة في بلاد إثيوبيا، فعزلوه وكرَّسوا آخر غيره.

+ وكان مطارنة إثيوبيا في مدة حُكْم هذا الملك فاسيلاوس من سنة 1632 إلى 1667م أربعة مطارنة، هم: المطران رزق الله (1634م) وهو غير شرعي؛ المطران مرقس التاسع (1637م) وهو الذي كرَّسه البطريرك متًَّاؤس؛ والمطران ميخائيل الثالث (1639م)؛ والمطران يؤانس الثالث عشر (1649-1660م)(3).

افتقاد البابا متَّاؤس الثالث للوجه البحري:

في سنة 1361ش/ 1645م، قـام البابا متَّاؤس الثالث بافتقاد الوجه البحري بعد أن زار صعيد مصر. فنزل بناحية ”برما“ قُرْب طنطا، فتوجَّه إليه أهل ناحية ”طوخ“ مسقط رأسه، لما سمعوا بوجوده هناك، وعرضوا عليه حضوره معهم إلى بلدتهم ليتباركوا منه؛ فأجابهم إلى سؤالهم، ولبَّى دعوتهم وأتى في صحبتهم.

وعندما اقترب البابا من البلدة، خرج لاستقباله الكهنة وكافة الشعب المسيحي، ولاقوه بالإكرام والتبجيل والتراتيل والألحان الكنسية، وكان يوماً مشهوداً بحضوره عندهم ولم يكن له مثيل.

دخول البابا إلى طوخ النصارى وإقامته بها:

ولما دخل البابا المدينة، توجَّه رأساً إلى مقر الكنيسة المقدسة، فدخلها بمجد وكرامة لائقَيْن بمركزه الديني السامي، وأقام عندهم سنة كاملة وهو قائم على وعظ الشعب وتعليمه.

وعندما حلَّ يوم السبت الذي أقام فيه الرب حبيبه لعازر من بين الأموات، ظهرت من هذا البابا القديس كلمة عجيبة. إذ أنه بعد ختام القدَّاس الإلهي وتوزيع الأسرار المقدسة، جلس البابا في البيعة كعادته، وجلس بجانبه جماعة الكهنة والشعب المسيحي الذين تقاطروا عليه عندما عرفوا بوجوده في البلدة ليسمعوا تعاليمه الروحانية. ثم أحضروا له بعد ذلك طعاماً ليأكل، فبعدما تَلَى البركة وقَسَّم مع الكهنة، وأعطى للشعب وأكل معهم؛ وبعد تناول الطعام حانت منه التفاتة، فنظر جماعة من النساء مُقيمات في الكنيسة، فتكلَّم مع الكهنة، وقال: ”لأيِّ شيء تُقيم النساء ههنا؟“. فأجابوه قائلين: ”إنهنَّ تناولن في هذا اليوم مـن جسد الرب ودمه، ولأجل هـذا هُنَّ مُقيمات في الكنيسة“؛ عند ذلك تنهَّد البابا بالروح وقال:

- ”كأنَّ النسوة يسبقننا إلى الفردوس!“.

+ فلما أتمَّ كلامه، إذا بأحد الشمامسة بالبلدة تقدَّم إليه قائلاً: ”يا أبانا الأب البطريرك (لاحِظ استخدام كلمة ”يا أبانا البطريرك“، فهذا هو اللقب في مخاطبة الأب البطريرك: ”أبانا“، وليس ”سيدنـا“ كما هـو سائد الآن)، اتفق رأي جماعـة الأراخنة بمصر أن يتوجَّهوا في العام القادم - بمشيئة الله وسماحه - لزيارة القدس الشريف، على أن يأخذوك في صحبتهم في هذه الزيارة“.

فلما سمع البابا منه ذلك، تحرَّك من موضعه وتكلَّم بصوتٍ عالٍ، وقال: ”ها هنا يكون قبري في هذه البيعة، ولن أبرح هذا المكان إلى مكان آخر غيره“.

وقام ليستريح قليلاً في البيعة كجاري عادته وبارَك على الشعب وأطلقهم بسلام إلى منازلهم ثم دخل إلى قلايته بجانب الكنيسة، وهي بمنزل أحد الشمامسة، وهو المكان الذي اعتاد أن يستريح فيه يومياً. وإذا به يطلب المزيِّن (وهو بلغة العصر الحاضر ”الحلاَّق“ أو ”الكوافير“)، فاستدعوا له المزيِّن كطلبه.

نياحة البابا متَّاؤس الثالث:

ولما دخل تلميذ البابا إلى مخدعه، وجده راقداً على فراشه وهو متَّجه إلى الشرق، ويداه على صدره على مثال الصليب المقدس، وقد أَسْلَمَ روحه بيدي الرب.

+ فخرج تلميذ البابا وأَعْلَمَ جماعة الكهنة والشعب بذلك. فاجتمعوا عند قلاية البابا، فوجدوه قد تنيَّح ولم يتغيَّر منظره؛ بل كان وجهه يُضيء كالشمس، فأحضروه إلى الكنيسة المقدسة، وجنَّزوه باحتفالٍ عظيم كما يليق بالآباء البطاركة، ودفنوه بالكنيسة المُكرَّسة على اسم الشهيد مار جرجس بناحية طوخ دلكة (طوخ النصارى) بلده الأصلية ومسقط رأسه.

+ وقد تنيَّح البابا متَّاؤس الثالث، وهو بشيخوخة صالحة نقية، وعيشة حسنة كاملة ناسكة؛ حيث لم يكن يتناول في حياته لحماً ولم يشرب خمراً. فلتكن صلواته وبركاته معنا آمين.

مدة إقامته على الكرسي المرقسي:

كان انتقال البابا متَّاؤس الثالث البطريرك المائة في عداد بطاركة الكرسي المرقسي، في يوم سبت لعازر 20 برمهات 1362ش/ 31 مارس 1646م.

وأقام البابا متَّاؤس الثالث على الكرسي الرسولي مدة 24 سنة، وستة أشهر، وثلاثة وعشرين يوماً. وكان ذلك في أيام السلطان إبراهيم الأول. وكان والي مصر وقت نياحته هو محمد باشا بن حيدر باشا.

(1) كما ورد في ”تاريخ البطاركة“، تأليف أسقف فوه، ص 187؛ و”التوفيقات الإلهامية“، ص 522-523.

(2) ”تاريخ الأمة القبطية“، ص 253.

(3) تقويم الأزمنة المسيحية في مصر وإثيوبيا، ص 268؛ عن ”سلسلة تاريخ البابوات“، ص 102.