من تاريخ كنيستنا
- 68 -


الكنيسة القبطية في أواخر القرن الحادي عشر البابا كيرلس الثاني
البطريرك السابع والستون
في عداد بطاركة الكرسي الإسكندري
(1078 - 1092م)
- 2 -

نُكمِل في هذا العدد سيرة البابا كيرلس الثاني.
رسامة أساقفة على إيبارشيات عدة:

لما خلت عدة إيبارشيات من أساقفة، قسم (رسم) لها البابا كيرلس الثاني أساقفة جُدُد، ولكن دون أن يطلب رشوة كما فعل بعض سلفائه، بل إن البابا كيرلس الثاني قطع هذه العادة؛ لكنه اشترط على كل مَن يقسمه (يرسمه) أن يكون نصف ما يتحصل عليه الأسقف من عطايا الرعية يكون للأسقف، والنصف الآخر، لِمَا يسميه كتاب ”تاريخ البطاركة“، لقلاية مار مرقس الإنجيلي (أي إلى مقر البابا كيرلس). كما أوقف ما يتحصل من بعض الكراسي على دير القديس أنبا مقار، وبعضها الآخر على كنيسة القديس مار مرقس الإنجيلي في الإسكندرية. وقد صرف نصف ما تحصَّل على بناء كنيسة ”القديسين“ بالإسكندرية وعلى تعمير كنائس أخرى كثيرة.

أزمة تحدث مع أساقفة وأراخنة:

ذلك أنه اجتمع بعض أساقفة الوجه البحري وأراخنة من القاهرة، وقالوا للأب أنبا كيرلس: ”أنت يا أبانا رجل روحاني، ولكن هوذا يصحبك مَن يُفسِد أحوال الشعب، ولا يصحُّ لمثل هؤلاء أن يصحبوك لأنهم يشينوك“. فسألهم: ”ومن هؤلاء الذين تكرهون صحبتهم لي؟“ فقالوا له أسماء خمسة، من بينهم يُستس الذي كان راهباً وخلع عنه الإسكيم وتزوج بامرأة. وحدثت مشاحنات بين هؤلاء الأساقفة والأراخنة وبين الأب البطريرك، واستكتبوه تعهُّداً برضائه عمَّا طلبوه.

لكنه بعد انصرافهم تفكَّر في الأمر وأحس وكأنه صار عبداً لهم وهم الذين يتحكَّمون فيه، كما خجل من إبعاد هؤلاء الذين خدموه، فأبقاهم، إلاَّ راهب وهو أحد الخمسة بسبب سوء تصرُّفه وطريقته الذميمة في التعامل مع الآخرين.

? أما الأساقفة فقد كانوا يظنون - عند قسمته بطريركاً - أنه سيتشارك معهم في آرائهم، وعلى الأخص أنه كان في بداية أمره قليل العلم مثل ”ديمتريوس“ الكرَّام أحد بطاركة الإسكندرية الأوائل؛ لكنه بعد أن صار بطريركاً خاب ظنهم فيه. وقد حاول الأب البطريرك كيرلس أن يُعدِّل موقفه، فلازم قراءة الكتب المقدسة وتفاسيرها.

إلاَّ أن هؤلاء الأساقفة اجتمعوا بشخص اسمه بيمين، وهو أحد الأقباط العاملين عند أمير الجيوش بدر الدين الجمالي الأرمني، واشتكوا البابا لدى هذا الوالي بسبب أنه أخلَّ بتعهُّده الذي وقَّعه بخصوص الحاشية المحيطة به، وكتبوا عريضة شكوى رتَّبها لهم ”بيمين“ هذا بحُكْم معرفته بالأشياء التي يمكن أن تستميل الوالي إلى قبول الشكوى. فلما رفع هؤلاء شكواهم إلى الوالي، أرسل إلى البابا كيرلس أن يأتي إليه وبصحبته جميع الأساقفة.

اجتماع الوالي مع البطريرك والأساقفة،

ومطالبته لهم بإعداد لائحة بقوانين الكنيسة:

وحضر البابا مع مَن تيسَّر حضوره من الأساقفة، وكان عددهم اثنين وعشرين أسقفاً من الوجه البحري، واثنين وعشرين من أساقفة الصعيد، وأسقف القاهرة، وأسقف الجيزة، وأسقف الخندق، أي 47 أسقفاً. وكلَّمهم الوالي بكلام شديد وطلب منهم أن يُنظِّموا له كتاباً جامعاً لقوانين الكنيسة والأديرة، ويعرضوه عليه. ويقول كاتب سيرة البابا كيرلس إن الوالي عطف على البطريرك، فأكرمه وبجَّله وعظَّم قدره. ولما أحضروا له ”مجموع القوانين“، قال لهم: ”كونوا كلكم رأياً واحداً، ولا تختلفوا، وأطيعوا مُقدِّمكم، وكونوا مثله، ولا تكنزوا فضة ولا ذهباً، وهذه القوانين التي جمعتموها أنا ما أحتاج إليها، وإنما طلبتها منكم ليتجدَّد عندكم معرفتها“.

ثم قال لأحد رجاله أن يبحث معهم كل واحد على حدة ما يحتاجه ليكتب لهم المنشورات بكل ما يحتاجونه. فخرجوا من عنده مسرورين.

صدور أمر بلبس المسيحيين زنانير سوداء:

في سنة 802 للشهداء، صدر أمر وقُرئ في قصر الولاية، بأن يلبس جميع المسيحيين زنانير سوداء، وأن تصير الجزية عليهم ديناراً وربع.

زيارة بطريرك الأرمن لمصر:

وقد زار مصر في تلك الآونة بطريرك الأرمن واسمه ”غريغوريوس“ وهو ابن أخت بطريرك الأرمن القديم، الذي فوَّض له البطريركية وأرسله إلى مصر حاملاً معه صلباناً من ذهب، وأعضاء من رفات القديسين. وكانت زيارته رعوية بسبب وجود أعداد كبيرة من الأرمن في جيش بدر الدين الجمالي الأرمني. وقد لقي البطريرك الأرمني من ابن جنسه بدر الدين الجمالي كل حفاوة واحترام. ثم اجتمع بالأب أنبا كيرلس البطريرك، فأكرمه وفرح به، واعترف له بالإيمان الأرثوذكسي الصحيح في حضور جمع كبير من الأساقفة والشعب في مقر البابا. وقد تذاكر الجميع الإيمان الأرثوذكسي بين الأقباط والأرمن والسريان والإثيوبيين وأهل النوبة، ذلك الإيمان الذي اتفق عليه الآباء القديسون وخالفه نسطور ولاون ومجمع خلقيدونية.

اضطراب العلاقات بين إثيوبيا ومصر:

فقد وصل إلى القاهرة أخو مطران الحبشة بهدية لم تلقَ قبولاً لدى الوالي (بدر الدين الجمالي) ولا أعجبته. فاستدعى البابا كيرلس. فحضر ومعه عشرة أساقفة، فلما وصل، قال له ولمَن معه: ”أنتم جعلتم أخو هذا الرسول مطراناً للحبشة، ولنا عنده مال وقد وعد بتسهيل بناء مساجد في بلاد الحبشة، فما فعل“.

وطلب الوالي منهم أن يبعثوا بأسقفين إلى هناك حتى تُبنى المساجد في بلاد الحبشة، وأن يمنع البطريرك ما يفعله الأحباش من قطع الطريق على المسلمين التجَّار المسافرين إلى إثيوبيا، وهدَّد قائلاً: ”وإلاَّ فأنا أعرف ما أفعله“. فقال له الأب البطريرك بشجاعة: ”ما لي أنا وقطع الطريق، فأنا لستُ خفيراً“! وكتب الوالي رسالة لإمبراطور الحبشة يرسلها مع الأسقفين، وكتب في الرسالة: ”إن لم تفعلوا كذا وكذا، وإلاَّ هدمتُ الكنائس التي بأرض مصر“.

فكتب ملك الحبشة الجواب هكذا: ”إذا هدمتَ مـن الكنائس حجراً واحداً، سأُرسل لك طوب مكة وحجارتها جميعها“! فرجع الوالي عن تهديده.

بطريرك السريان يدعو البابا كيرلس للاشتراك

في تدشين كنيسة سريانية في القدس:

كانت قبائل ”الغز“ التركية قد ملكت مدينة القدس، وقد كذَّبوا نزول النور المقدس على القبر المقدس الذي للمسيح. ولكنهم بعد ذلك تأكَّدوا من صحة نزوله في كل عام. فاهتموا بالمسيحيين هناك، وكلَّفوا رجلاً من رجال القدس سرياني الجنس مُحبّاً للمسيح يُعرف باسم ”منصور البلباني“، وله زوجة مثله تساعد كل مَن يصل إلى القدس من أقباط مصر وغيرها من البلدان، كلَّفوه بتعمير كنيسة قديمة للسريان في القدس. فلما اكتمل تعميرها، كتب بطريرك السريان إلى الأب البطريرك كيرلس يسأله أن يرسل مَن يُساهم في تكريسها. وهكذا تمَّ، إذ أرسل البابا كيرلس الثاني بعض الأساقفة ليشتركوا في تكريسها. وتم ذلك في 808 للشهداء.

نياحة الأب أنبا كيرلس الثاني:

وفي نفس العام سنة 808 للشهداء، لم يذهب الأب كيرلس إلى برية أنبا مقار، بل كان مُلازماً لدير الشمع غربي طموه، وينتقل منه إلى كنيسة رئيس الملائكة ميخائيل بجزيرة مصر (منيل الروضة)، ثم إلى كنيسة المعلقة بقصر الشمع. وكان لا يفتر من قراءة الكتب المقدسة، وتفاسيرها.

ويذكر ناسخ سيرة هذا الأب البطريرك، عن شهادة عيان، أنَّ الأب أنبا كيرلس الثاني هو راهب قديس روحاني، متواضع وديع زاهد جداً، باغض لتملُّك المال، بل يتصدَّق بجميع ما يصل إلى يده من مال على الضعفاء أو يصرفه في عمارة الكنائس والأديرة، أو يعضِّد به المؤمنين المسيحيين المحبوسين ويفكُّهم من العقوبة، حتى أنه لما تنيَّح لم يوجد له دينار ولا درهم.

ويذكر ناسخ السيرة ”يوحنا ابن صاعد القلزمي“ عظة نطق بها الأب كيرلس عن تجسُّد ابن الله الوحيد الأزلي كلمة الله الخالق مع الآب، الذي اتحد بطبيعتنا، ووُلد من العذراء إلهاً تاماً وإنساناً تاماً، ثم سرد نموَّه بإنسانيته وما احتمله في جسده المأخوذ منا من هوان وآلام وصلب وتسمير على الخشبة حتى إلى الموت والدفن في القبر المقدس وحتى قيامته المقدسة.

وتنيَّح الأب القديس في يوم الأحد الثاني عشر من بؤونة سنة 808 للشهداء. وكانت مدة بطريركيته منذ وَضْع اليد عليه في دير أنبا مقار: 14 سنة، 3 شهور ونصف. ودُفن في كنيسة رئيس الملائكة ميخائيل بجزيرة مصر (منيل الروضة)، ثم حُمِل جسده بعد ذلك إلى دير القديس أنبا مقار بوادي هبيب المقدس.

+ + +

البابا كيرلس الثاني ينشر القوانين الكنسية:

كما ذكرنا أن الوالي بدر الدين الجمالي الأرمني طلب من الأب كيرلس البطريرك والأساقفة المجتمعين عنده إعداد موسوعة لقوانين الكنيسة. وقد أعدَّها البابا كيرلس الثاني وعمل على نشرها على الشعب ليعرفها ويعمل بها.

وقد استهل هذه القوانين بقوله: ”نسخة بخط الأب البطريرك أنبا كيرلس... بما اشترطه على نفسه وعلى أساقفته. يكتب للإخوة الأساقفة، الرب يُبارك عليهم وعلى شعبهم وكراسيهم، بالموافقة على هذا المكتوب وما ثبت فيه من الإيمان المستقيم والسيرة المرضيَّة والعوائد الكنسية. ومَن خرج عنه وحاد عن شروطه، كان محروماً مُبعَداً من فم الثالوث الأقدس الآب والابن والروح القدس، ومن فم الثلاثمائة وثمانية عشر المجتمعين بنيقية، بطريركاً كان أو أسقفاً، أنا وأساقفتي، وليس له حظ مع المؤمنين“.

وقد شملت هذه الموسوعة قوانين تختص بالأساقفة وعلاقاتهم بعضهم بالبعض، وعدم جواز اقتطاع مدن من إيبارشياتهم إلاَّ بعد وفاتهم. كما حرَّم بيع مواهب الروح القدس بالمال (ما يُسمَّى بـ ”السيمونية“ نسبة إلى سيمون الساحر الذي طلب من الرسل أن يشتري مواهب الله بدراهم).

كما أوضح عادات وقوانين تختص بالطقوس الكنسية، وحسن تدبير الكنائس، وضرورة سلوك الإكليروس بلا لوم، وعدم مفارقة المرأة لرجلها، وقوانين تختص بشرعية الزواج، والأحوال التي يجوز فيها الطلاق والمواريث. وغير ذلك من القوانين. وقد أتى في نهاية هذه القوانين تعهُّد الأساقفة بقبولها هكذا: ”وافق عليها الإخوة الأساقفة وقبلوها، آمين“. ويذكر كتاب ”تاريخ البطاركة“ أن بعض أقباط الصعيد رفضوا هذه القوانين متمسِّكين بما كان عندهم من قوانين، ولكنهم سرعان ما قبلوها.

وهذه القوانين مُدرجة في مخطوطات ”النوموكانون“ الموجودة في مكتبات الكنائس القديمة والأديرة. وقد دخلت ضمن المجموعات القانونية للكنيسة القبطية الأرثوذكسية المُعترف بها. وقد نشرها كل من العالِم ”بورمستر Burmester“ عام 1936 في مجلة Le Muséon، والعالِم القبطي جرجس فيلوثاوس عوض في كتاب: ”الطريق الأصلح المنشود“، القاهرة عام 1920.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis
?? ?? ?? ?? 40 - مجلة مرقس يناير 2009 مجلة مرقس مايو 2009 - 39 32 - مجلة مرقس مايو 2009 مجلة مرقس مايو 2009 - 33