تدبير الروح القدس
|
|
|
في الكنيسة القبطية وسائر الكنائس الأرثوذكسية والتقليدية، الزواج معتبر أنه سرٌّ كنسي.
لماذا الزواج من دون سائر نواحي الحياة الإنسانية هو الذي يؤخذ على أنه سرٌّ؟ إن كان المقصود بسرِّ الزواج مجرد تقديس الزواج أو سكب معونة روحية على الزوجين أو مباركة إنجاب الأطفال، فكل هذا وحده لا يجعل الزواج مختلفاً عن أية ناحية من نواحي الحياة، فكل لون من ألوان نشاط الإنسان يحتاج إلى تقديس ومعونة ومباركة.
ولكن ”السرَّ الكنسي“ كما عرفناه هو ”تحويل“ أو ”انتقال“ من الوضع البشري الفطري المائت أي الذي ينتهي بالموت، إلى الوضع المسيحي الأبدي الذي يبقى إلى الأبد. لذلك فهو يرتبط ارتباطاً وثيقاً بموت المسيح وقيامته، وهو دائماً سرُّ ملكوت الله.
فكيف يكون الزواج متصلاً بالصليب والقيامة؟ وبالتالي واسطة للخلاص؟ ما الذي يجعله سرّاً؟
الآية المرشدة هنا هي:
+ «هذا السرُّ عظيمٌ. ولكنني أنا أقول من نحو المسيح والكنيسة» (أف 5: 32).
المضمون الحقيقي لسرِّ الزيجة:
المضمون الحقيقي لسرِّ الزيجة ليس هو مجرد تكوين عائلة، ولكن أيضاً وأولاً هو ”المحبة“.
فسرُّ الزواج أوسع نطاقاً من مجرد الإنجاب، إنه سرُّ المحبة الإلهية، سرُّ الوجود الشامل.
ومن أجل هذا فهو يهمُّ الكنيسة كلها، ومن خلال الكنيسة يهمُّ العالم كله.
ربما يمكن أن تساعدنا الرؤية الأرثوذكسية للزواج في فهم الزواج المسيحي. لهذا فنقطة البداية التي سنبدأ بها، ليس الزواج ولا ما هي المحبة، بل نبدأ بذلك الإنسان الذي له مكان القلب العزيز على حياة الكنيسة، والذي عبَّر أطهر تعبير عن محبة الله والتجاوب مع هذه المحبة، ذلك الشخص هو القديسة العذراء مريم أم يسوع ووالدة الإله الثيئوتوكوس.
إنها الأم والوالدة، والصور والأيقونات الأرثوذكسية للعذراء كلها لا يمكن أن تُصوِّر العذراء مريم وحدها، ولكن مع ابنها الرب يسوع المسيح على ذراعها أو على حجرها أو على صدرها.
القديسة العذراء مريم نموذج لسرِّ الزيجة:
إن القديسة العذراء مريم تجسَّمت فيها فضيلتان هما: المحبة لله، والطاعة لله، في إيمان وتواضع. فقد قَبِلَت أن يتحقق فيها قصد الله في تجديد الخليقة، فرضيت أن تصير هيكلاً للروح القدس، وأن يتجسَّد منها الله. قَبِلَت أن تُعطي لحمها ودمها - أي كل حياتها - ليصيرا جسد ودم ابن الله. قَبِلَت أن تكون أُمّاً بأعمق وأكمل معنى: أي أن تُعطي حياتها للآخر الأزلي، وبالتالي تُشبع حياتها فيه.
إن الحب الزيجي تضرب جذوره وتغور أعماقه ويتحقق شبعه الحقيقي في سرِّ المسيح وكنيسته، الكنيسة التي هي عروس المسيح.
فكل زوج وزوجة على حِدَة، وكل الكنيسة بكاملها معاً، هم عروس عفيفة للمسيح: «خطبتكم لرجلٍ واحدٍ، لأُقدِّم عذراء عفيفة للمسيح» (2كو 11: 2).
وكمثل مريم: العذراء والأم، في طاعتها وتقدمة ذاتها لله، بدأت الكنيسة بدايتها الحيَّة الشخصية، وتبدأ كل عائلة مسيحية حياتها ومسيرتها الأرضية التي تكتمل في السماء.
الطاعة الكاملة في حب، هي مضمون تقدمة العذراء لله. وهي مضمون تقدمة كل زوجين حياتهما لله، وعن هذا الطريق يتَّحدان بالكنيسة المخطوبة عروساً للمسيح الذي سبق أن «أحب... الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها» (أف 5: 25). هذه الطاعة وهذه المحبة لا يمكن أن يقدِّمهما الزوجان لله، ومن ثمَّ بعضهما للبعض، إلاَّ في طاعة ومحبة المسيح لأبيه على الصليب.
+ بهذه الصورة يتقدَّم الزوجان إلى الكنيسة، ليُحوِّلا هذا الحَدَث الطبيعي، الذي يُمارسه كل البشر كشريعة فطرية طبيعية في الخليقة(1)، ليحوِّلاه إلى السرِّ العظيم للمسيح والكنيسة، بل يُحوِّلان محبتهما البشرية الطبيعية بعضهما للبعض إلى سرِّ محبة الله الأبدية. تماماً كما يتحوَّل الزيت الساذج إلى زيت دهن الروح القدس في سرِّ الميرون، والخبز والخمر إلى جسد ودم المسيح في سرِّ الإفخارستيا.
+ومما تجدر الإشارة إليه أن الكنيسة الأولى لم تكن تعرف خدمة منفصلة للزواج، أي ما يسمَّى بحفل الإكليل أو ”الفرح“، والذي كان يُجرى أحياناً حتى في البيوت. إن تكميل الزواج بين مسيحيَّيْن كان يتم من خلال القداس الإلهي في الكنيسة باشتراكهما معاً في الإفخارستيا(2). وهكذا ينال الزواج ختمه الأبدي بإدماجه في هذا العمل المقدس الهام الذي تؤديه جماعة المؤمنين، أي الاحتفال بسرِّ الإفخارستيا، سر ذبيحة الصليب وسر القيامة المقدسة.
+ لذلك، فالكاهن بعد أن يُبارك (بالإجراءات السرائرية لسرِّ الزيجة) الزواج الطبيعي البشري، يقود العروسَيْن داخل الكنيسة، ليركعا أمام مذبح الله، لينالا نعمة سرِّ الإفخارستيا، يقودهما في موكب تحفُّ بهما الشمامسة وكل الشعب بالألحان والصلوات، مثلهما مثل أيِّ ”مكرَّس“ داخل لينال نعمة سرِّ الكهنوت أو يقبل إسكيم الرهبنة مثلاً.
+ ثم يتم طقس ”الإكليل“ أي وضع الأكاليل على رأسي العروسَيْن. إنها أكاليل المجد والكرامة للإنسان ملك الخليقة «أثمروا واكثروا واملأوا الأرض... وتسلَّطوا...» (تك 1: 28). فكل أسرة مسيحية هي ملكوت، كنيسة صغيرة، وبالتالي يُستعلَن فيها سرُّ الملكوت على قدر بذل ومحبة وطاعة الزوجَيْن لله ولبعضهما البعض.
إنه إكليل مجد وكرامة، إكليل الشهداء. فطريق الملكوت هو شهادة للمسيح. وهذا يعني أن في مسيرة الحياة صليباً وآلاماً. الزواج الذي لا يصلب الأنانية والاكتفاء الذاتي ليس زواجاً مسيحياً.
الشركاء الثلاثة في السرِّ الكنسي:
في الزواج المسيحي، ثلاثة هم شركاء السرِّ الكنسي، وليس اثنين. فالمسيح، وبحسب كلمات طقس سرِّ الزيجة، هو الوسيط لهذين الفتيين: العريس ومُعينته اللذان يَصِلُهما المسيح معاً بعربون الشركة، ليكون زواجهما بأُلفة واحدة برباط المحبة بكلمات الرب لهما: ”سلاماً أترك لكما، سلامي أنا أُعطيكما“ (يو 14: 27).
حضور المسيح هو الذي يحوِّل الزواج الطبيعي إلى زواج في المسيح، كما حوَّل المسيح الماء إلى خمر في عُرْس قانا الجليل الذي كان حاضراً فيه.
وصليب المسيح هو الذي ينهي على الانفرادية والاستقلالية والاكتفاء الذاتي في الزواج الطبيعي؛ إذ بالصليب دخل الفرح (وليس السعادة الأرضية) إلى العالم أجمع. فوجود الصليب بين العروسَيْن هو ضمان وجود الفرح الحقيقي في الزواج، وامتداده هو فرح الملكوت الأبدي.
والمعنى الثالث للأكاليل، أنها أكاليل الملكوت. فالحياة الطبيعية وكل ما في هذا العالم وهيئة هذا العالم ستزول. أما الزواج المسيحي الذي تكلَّل بإكليل الملكوت، فهو ضمان على عدم زوال ملكوت الله، بل هو الطريق إلى الملكوت، وبالتالي على دوام الشركة التي تمَّت بين العروسَيْن.
+ أخيراً، وفي سياق طقس الزيجة يدهن الكاهن العروسَيْن بالزيت المقدس، دهن الفرح، دهن الروح القدس، لمقاومة الأرواح الرديئة، وليصيرا هيكلاً مقدساً لله، ووحدة وخلية مقدسة في كنيسة الله مسكن الله القدوس، وصورة مُصغَّرة لملكوت الله على الأرض.
بين البتولية والزواج:
إن الكنيسة تنظر إلى البتولية، ليس على أنها مجرد عدم الزواج وعدم الإنجاب، ولكنها الدخول في العلاقة الزيجية مع الرب بحب الله من كل القلب وحب كل إنسان مثل النفس.
هذا المبدأ الذي تنظر به الكنيسة للبتولية هو نفسه الذي تنظر به للزواج، أنه ليس واسطة فقط لإنجاب النسل أو أن النسل هو مبرر الزواج؛ فالزواج هدف، إنه تكوين الكنيسة الصغيرة القائمة على الحب المتجدِّد والمُطعَّم بحب المسيح، وهذه هي النواة لملكوت الله.
وبهذه الرؤية الأرثوذكسية المؤسَّسة على التعاليم الآبائية الراسية في الكنيسة منذ القِدَم، فإن كِلاَ الطريقين (الزواج والبتولية)، قائمان على رفض الفكرة الخاطئة بأن الخطيئة الجدية تتسرب إلى الطفل المولود من خلال العلاقة الجنسية، مما يسبغ على العلاقة الجسدية في الزواج ظِلاًّ من الخطيئة. وهذا تعليم غريب عن الكنيسة الشرقية، وقد تسلل إلى علوم اللاهوت في الكنيسة الشرقية منذ 150 سنة، لكنها بدأت تتخلَّص منه أخيراً في رجوعها إلى علم اللاهوت الآبائي الصحيح.
فالبتولية عند القديس غريغوريوس الناطق بالإلهيات تعني فقدان كل شهوة جسدية وكل عبودية للشهوات. وهذا هو ما يسمَّى بـ ”الأباثيا Apatheia“ التي يمكن بلوغها أيضاً حتى من خلال حالة الحياة الزوجية(3).
ويؤكِّد الآباء أنَّ لا حالة المتزوج ولا حالة غير المتزوج يمكن أن تربطنا أو تفصلنا عن الله أو العالم. لكن الذي يفعل ذلك هو الذهن الروحي لـدى الإنسان، الذي يمكنه أن يعلو فوق الزواج أو البتولية والعذراوية، وهو الذي يكمل ويقدِّس أية حالة من الاثنين، باعتبار أن أية حالة - سواء البتولية أو الزواج - هي المادة الخام للفضيلة توضع بين يديِّ صائغ الفضيلة الذي هو العقل.
ويقول القديس غريغوريوس اللاهوتي (الذي كان متبتلاً):
[إني لا أرذل الزواج من أجل أن أرفع البتولية. لكني سوف أُحاكي المسيح العريس وإشبين العريس بآن واحد، فهو الذي أجرى المعجزة في حفل العُرْس، كما شرَّف الرباط الزوجي بحضوره. فليكن الزواج طاهراً غير مختلط بالشهوات الدنيئة].
ويعتبر القديس غريغوريوس في عظة 37: 5 أن الرب يسوع نفسه هو ”خالق الرباط الزوجي“.
حقاً، لقد فضَّل القديس غريغوريوس العيش في حالة التبتل لكنه لم يَدِنْ حياة العمل. فقد كان يقضي الساعات والأيام الطوال في خدمته الكنسية، وكان صاحب أملاك وأراضٍ طيلة أيام حياته.
والقديس مقاريوس الكبير أب رهبان برية شيهيت في القرن الرابع، وبعد زيارته للمرأتين المتزوجتين في الإسكندرية بناءً على إعلان سماوي له، قال لتلاميذه:
[حقاً، إنه ليس عذراء ولا متزوجة، وليس راهب ولا علماني، إنما استعداد القلب هو الذي يطلبه الله، وهو يُعطي الجميع نعمة الروح القدس الذي يعمل في الإنسان ويقود حياة كل مَنْ يرغب في الخلاص](4).
على هذا الأساس الكامل، وعلى هذه الرؤية المتكاملة لسرِّ الزواج ولسرِّ البتولية الروحية معاً، تكرم الكنيسة حياة البتولية باعتبارها الطريق الأفضل والأعلى لإشباع حاجة النفس الروحية إلى حب الله وتمجيد المسيح، ولكن مع اعتبار أن سلوك هذا الطريق ليس للجميع بل لِمَنْ دُعوا حقاً من الله إلى ذلك الطريق، ولِمَنْ استطاعوا أن يحتملوا حسب قول الرب نفسه: «مَن استطاع أن يقبل فليقبل» (مت 19: 12).
وبحسب تعليم القديس بولس الرسول:
+ «لأني أُريد أن يكون جميع الناس كما أنا. لكن كل واحد له موهبته الخاصة من الله. الواحد هكذا والآخر هكذا».
+ «ولكن أقول لغير المتزوجين وللأرامل، إنه حسنٌ لهم إذا لبثوا كما أنا. ولكن إن لم يضبطوا أنفسهم فليتزوجوا، لأن التزوُّج أصلح من التحرُّق».
+ «غير المتزوج يهتم في ما للرب كيف يُرضي الرب، وأما المتزوج فيهتم في ما للعالم كيف يُرضي امرأته... غير المتزوجة تهتم في ما للرب لتكون مقدسة جسداً وروحاً، وأما المتزوجة فتهتم في ما للعالم كيف تُرضي رجلها» (الرسالة الأولى إلى كورنثوس - الأصحاح السابع). +
(1) الزواج الطبيعي الذي يمارسه عامة البشر غير المنضمين للكنيسة، لا يصح أن يُلقَّب بأنه ”زنا“. لأنه كما أن الزواج شريعة فطرية طبيعية موجودة حتى في المجتمعات البدائية التي لم تعرف الأديان، هكذا الزنا رذيلة فطرية طبيعية يأنف منها الإنسان الطبيعي الذي ليست له شريعة الإنجيل. أما الزواج المسيحي فهو يحوِّل الزواج الطبيعي ليصير زواجاً ملكوتياً في المسيح، يدوم ولا ينفصم حتى بعد الموت، ويكتمل إذ يصير الزوجان في الدهر الآتي «كملائكة الله في السماء» (مت 22: 30)، بخلاف الزواج الطبيعي الذي هو من التراب وإلى التراب يعود.
(2) حتى زمن ليس بالبعيد، كان لخدمة سرِّ الزواج موضع مخصَّص داخل الليتورجية الإلهية، مثلها مثل خدمة رسامة الشمامسة والكهنة والرهبان، حيث كان يتم السرُّ على مشهد من كل أعضاء الشعب وليس فقط عائلتي العروسَيْن ومعارفهما.
(3) رسالة إلى كليدونيوس، عظة 38: 11-13؛ عظة 2: 18.
(4) مخطوط حياة الآبــاء - Vita Patrum، الجزء الثالث 97.