|
|
للأب متى المسكين |
لا يزال عالقاً في أذهان كثير منَّا أن الإنسان الذي يكشف الله عن عينيه ليرى ملائكة أو قديسين أو شخص الرب نفسه، يكون ذا امتياز فائق، ومن أجل هذا تلتهب قلوبنا في شوق ورجاء كثير كل يوم بحزن ودموع أن نؤهَّل لرؤية وجه الرب أو أن نقترب إلى استعلانه لنستمتع بأقصى سعادة نتصوَّرها.
وفي الحقيقة لم يترك الرب لنا هذا المجال بهذه الصورة السلبية المحزنة، التي يبدو فيها الحرمان من رؤية المسيح هو في الغالب الصورة العامة بين المؤمنين.
لذلك حرص الرب عندما شكَّ توما في قيامته من بين الأموات أن يوضِّح لتوما ولنا أن إمكانية الرؤيا لقيامته ولشخصه أمرٌ ميسور وهو يعطيه لِمَن يشاء، وقتما يشاء، بحسب الحاجة الماسة إلى هذا الاستعلان.
وعلى أساس هذا ظهر الرب في اليوم الثامن من قيامته خصيصاً لتوما، وأعطاه كل ما ألحَّ عليه حتى يكتمل إيمانه ويكتمل إيمان الرسل جميعاً الذين ستوضع عليهم مسئولية الكرازة، فقال له: هات إصبعك يا توما والمس جروحي، وهات يدك وضعها في جنبي «ولا تكن غير مؤمن بل مؤمناً»، ثم استطرد الرب مباشرة - دون أن يوبِّخ توما على هذا التخاذل في الإيمان بقيامة المسيح ووضع شروط الرؤيا العينية واللمس باليد للإيمان - قائلاً: «لأنك رأيتني يا توما آمنتَ، طوبى للذين آمنوا ولم يَرَوْا» (يو 20: 26-29).
وهنا يقصد الرب بـ «الذين آمنوا»، التلاميذ والأحباء في ذلك الوقت أو من جميع الأجيال الذين سوف تمتد بهم الأيام إلى أواخر الدهور. هنا نجد أن الرب يوافق على الرؤيا العلنية والملموسة أيضاً لقيامته، ولكن يعود ويضع الإيمان بدون رؤيا على مستوى أعلى!!
وهنا في الحقيقة يمكن أن نعتبرها بكل يقين وثقة أنها آخر وأعظم طوبى أو بمثابة ختام النعمة العظمى التي منحها المسيح للكنيسة، فقد منح الرب قبل الصليب ثمانية تطويبات لمختاريه (في إنجيل القديس متى)، وأضاف عليها سبعة تطويبات أخرى في مناسبات أخرى، وأبقى هذه الطوبى بعد القيامة ليمنحها لكنيسة الدهور الآتية كلها: «طوبى للذين آمنوا ولم يروا».
ونحن إذا تعمَّقنا موضوع الرؤيا من الناحية الروحية سواء في الجهاد النسكي أو التصوُّفي بالتأمُّل، نجد أن غاية المفهوم العملي والإنجيلي لرؤية الله في شخص المسيح رؤية علنية يعني الوصول إلى حالة إدراك الله في ذاته، ومعروف بوجه التحديد القاطع أن الله غير مُدرَك إدراكاً كاملاً إلا مِـن ذاته، أي أن الله وحده هـو الذي يُدرِك ذاته، فالله لم يَـــرَه أحد قط إلا الابـن وحده الذي هــو في حضن الآب وهــو الذي رأى وخبَّر (انظر يو 1: 18).
لذلك يقول المسيح بغاية الوضوح والدقة أن لا أحد يعرف الابن إلا الآب، ولا أحد يعرف الآب إلا الابن. ثم يستطرد المسيح لكي لا يغلق على الإنسان في الجهل الكلِّي بالله، فيقول: «ومَنْ أراد الابن أن يُعلِن له» (مت 11: 27)، أي أن الله يمكن أيضاً أن يصير مُدرَكاً لدى الإنسان إنما جزئيّاً وبالقدر الذي يُعطيه الابن حسب مُطلق مشيئته، بالإعلان الذي يُعطيه من ذاته، وبواسطة الروح القدس، وفي حدود إمكانية الإنسان الروحية وقدرته على الأخذ والقبول والتصديق. وذلك يكون غالباً لسببٍ خاص يراه الرب ضروريّاً، لأن الروح يُعطي كلَّ واحد كما يشاء، كما قَسَمَ لكل واحد مقداراً من الإيمان؛ ويؤكِّد المسيح أن ذلك يكون بواسطة الروح القدس: «يأخذ مما لي ويخبركم» (يو 16: 14).
هنا تدور الرؤيا كلها حول معرفة الله وإدراكه التي تنتهي بحصيلة واحدة، سواء في العهد القديم أو في العهد الجديد أو في تاريخ الكنيسة أو حياة جميع قديسيها، وهي أن رؤية الإنسان لله محدودة جداً ولم تبلغ قط إلى حدِّ الإدراك الكامل، وأنها لا تأتي إلا بحسب إرادة الرب يسوع: «ومَنْ أراد الابن أن يُعلِن له» (مت 11: 27). هذه الآية توضِّح محدودية هذا الاختبار جداً، بعكس الإيمان الذي جعله الله التزاماً: «مَنْ ينكر الابن ليس له الآب» (1يو 2: 23)، «الذي لا يؤمن بالابن لن يرى حياة بل يمكث عليه غضب الله» (يو 3: 36)، «ومَنْ لم يؤمن يُدَنْ» (مر 16: 16).
وهنا نأتي إلى دعوة الله للإيمان بالمسيح بدون رؤيا، ونسأل: لماذا أعطى المسيح التفوُّق للإيمان به بدون رؤيا على الإيمان به الذي تمَّ بالرؤيا على مستوى توما؟
هنا المسيح لا يتعطَّف على المستوى الأقل (الإيمان بدون رؤيا)، ويعطيه الطوبى لكي يساويه بالمستوى الأعلى (الإيمان بالرؤيا)، ولكن المسيح أعطى الطوبى للإيمان بدون الرؤيا على أساس، وبناءً على أصول وحقيقة وقانون إلهي، وهو أن الإيمان البسيط بشخص الرب يمكن أن يبلغ بالإنسان في كل الأمور المختصة بالله إلى حد متفوِّق جداً على الرؤيا.
فالإيمان البسيط الواثق بالمسيح يبلغ بالإنسان إلى قبول المسيح قبولاً كاملاً وكليّاً في ذاته: «أما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله (فيه)» (يو 1: 12)، أي يصير شخص الرب في صلة قلبية داخلية دائمة في ضمير الإنسان تزداد كل يوم عمقاً واختباراً حتى تصل إلى حدِّ صلة العروس بالعريس، أي الاتحاد السرِّي أو زيجة النفس بالمسيح حيث تصبح النفس مملوكة كليّاً له، فتصير النفس مع الرب روحاً واحداً «أما مَنْ التصق بالرب فهو روح واحد» (1كو 6: 17)، حيث لا تعود النفس تحيا من ذاتها بل تحيا من المسيح وبالمسيح حتى إلى الدرجة التي يصير فيها المسيح هو الذي يحيا فيها.
هنا الالتصاق بالرب، أو حياة الرب داخل النفس، الذي يُعبِّر عنه القديس بولس الرسول، والذي سبق وعبَّر عنه الرب يسوع بالثبوت المتبادل فيه والحياة المتبادلة معه؛ هذه الحالة من الاتحاد والحب ارتفع بها المسيح إلى درجة فائقة في سرِّ الجسد والدم، إذ جعلها تبلغ حدَّ أكله وشُربه. فليس هو التصاقاً وحسب بل اتحاد عميق. هنا استعاض المسيح عن رؤيا العين ولمس اليد لجسد قيامته كواسطة للتحقق من شخصه أو لبلوغ حالة معرفة وإدراك له: «ربِّي وإلهي»، استعاض عنها بوسيلة أخرى متاحة للجميع وهي أنه يعطي شخصه كله سرّاً ومجاناً لكل إنسان للإيمان به! لا على أساس الرؤيا بل على أساس تغميض العين وفتح الفم لنتناوله داخليّاً بالإيمان بدون عيان: «مَنْ يأكلني فهو يحيا بي»، «مَنْ يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت فيَّ وأنا فيه» (يو 6: 57،56).
هـذا كله يجمعه القديس بـولس الرسول دائماً في هاتين الكلمتين: «آمِــن ... فَتَخْلُص.» (أع 16: 31).
هنا الإيمان هو على أساس قبول المسيح الكلِّي بالسر الممنوح لنا، سواء المعمودية أو الجسد والدم. لذلك فإن استجابة الإيمان الصحيح تكون بالإلحاح المباشر لقبول المعمودية، واستجابة المعمودية هي قبول الجسد والدم؛ إذ بمجرَّد أن ينفتح قلب الإنسان بالإيمان يظل هذا الإيمان فعَّالاً كقوَّة سرِّية لا تهدأ حتى يبلغ الإنسان حالة التبنِّي لله في شخص المسيح.
إذن فـ ”آمن فَتَخْلُص“ لا تعني ببساطة أن مجرَّد الإيمان القلبي يُوصِّلنا إلى حالة الخلاص، لأن الخلاص الكامل يستحيل بلوغه إلا ببلوغ حالة قبول المسيح قبولاً كليّاً وشاملاً؛ أي التصاق بــالقلب، واتحاد بالسر، واعتراف دائم بالفم! مـن واقع حياة جديدة وعلاقة عملية تُعبِّر عـن اتحاد زيجي لا ينفصل.
وهذا يتم:
أولاً: بالمعمودية للموت والقيامة مع المسيح، أي بالميلاد من فوق، لنكون من لحم المسيح وعظامه، وحتى نكمِّل شركة الموت والقيامة معه.
ثانياً: بأكل الجسد والدم لقبول حياة متجدِّدة.
ثالثاً: بالتمسُّك بالاعتراف بالمسيح إلى آخر نسمة من حياة الإنسان.
ولكن الرؤيا بالعيان أو حتى بلمس اليد لجروح المسيح القائم من بين الأموات، لا يمكن بل ومستحيل أن توصِّلنا إلى حالة قبول المسيح قبولاً يبلغ إلى حالة اتحاد زيجي، لقد أنشأت هذه الرؤيا عند توما مجرَّد اعتراف بحقيقة الرب: «ربي وإلهي».
بل والأكثر من ذلك أن التلاميذ عندما رأوا الرب لأول مرَّة في العلِّية عشية قيامته وسمعوا صوته وهو يُحيِّيهم بلهجته المعهودة: «سلامٌ لكم» (يو 20: 19)، لم يصدِّقوا أنه المسيح، بل شكُّوا كلهم وقالوا إنه روح!!
إذن فالرؤيا للرب نفسه مهما كانت صحيحة وواقعية ومسموعة، إلا أنه قد يصاحبها شك وعدم تصديق!
وهكذا تظل الرؤيا، مهما كانت صحيحة، في حاجة إلى إيمان لكي يتم التصديق ويتم القبول. لذلك فإن المسيح بعدما أظهر نفسه لهم ابتدأ يوبِّخهم على عدم إيمانهم لأنهم لم يصدِّقوا أخبار قيامته!
من هذا نرى لماذا شدَّد الرب على الإيمان أكثر من الرؤيا: «طوبى للذين آمنوا ولم يروا»، إذ وضح تماماً أن رؤية الرب نفسه واقفاً ومتكلِّماً بشخصه لم تسعف التلاميذ لكي يؤمنوا به أو حتى يصدِّقوه، بل شكُّوا!
فواضح الآن أن بالإيمان الواثق وحده نبلغ إلى حالة قبول شخص الرب الحي قبولاً كاملاً بكل يقين، أعظم من يقين الرؤيا واللمس، وذلك بالحب الفائق الذي يلهب قلوبنا كل يوم لنموت له ونحيا له؛ ليحيا هو فينا بسرِّه الفائق، فنستمتع بوجوده ونتحد به كاتحاد العروس بالعريس بفرح هو أبهج من فرح عروس وعريس، وذلك كله دون أن نراه رؤيا العين كما يقول القديس بطرس الرسول: «الذي وإن لم تروه تحبونه، ذلك وإن كنتم لا ترونه الآن لكن تؤمنون به، فتبتهجون بفرح لا يُنطق به ومجيد، نائلين غاية إيمانكم خلاص النفوس» (1بط 1: 9،8).
واضح هنا من كلام القديس بطرس، أن الرؤيا العيانية للرب صارت بعد تأكيد الرب لتوما: «طوبى للذين آمنوا ولم يروا»، صارت خارجة عن منهج حياة الإيمان بالرب يسوع في الكنيسة، أي صارت ليست من مستلزمات الإيمان.
ثم أوضح أيضاً أن الرؤيا العيانية إذا امتنعت، لا يمكن أن تمنع الإيمان، كما أنه واضح من كلام القديس بطرس ومن سيرته كلها أن الرؤيا إذا جاءت لا تزيد الإيمان المتأصِّل في القلب أو تُكمِّله شيئاً، ولكنها أي الرؤيا، إذا جاءت بعد إيمان فهي تكون دعوة لرسالة عاجلة وخطيرة.
كذلك واضح لنا من كلام القديس بطرس الرسول باعتباره أكبر وأخطر إنسان اختبر الشك واختبر الرؤيا، ثم بعدها اختبر الشك أيضاً، ثم اختبر الإيمان وانتهى إلى تقرير هذه الحقيقة الإيمانية التي هي إحدى الدعائم الأساسية التي تقوم عليها علاقتنا بالمسيح: أن الإيمان بدون الرؤيا يمكن أن يبلغ إلى حالة حب صادق للرب «الذي وإن لم تروه تحبونه». ثم إن هذا الحب القائم في سيرة الإيمان الصادق قادر أن يبلغ بنا حتماً إلى حالة من الابتهاج تفوق العقل والمنطق، إذ ليس لها من سبب يراه أو يعقله الإنسان، بل هي حالة ابتهاج بواقع غير منظور وغير محسوس هو في الحقيقة قائم على سرِّ وجود الرب نفسه داخل القلب: «ليحل المسيح بالإيمان في قلوبكم وأنتم متأصِّلون ومتأسِّسون في المحبة» (أف 3: 18،17).
ثم يتوِّج القديس بطرس هذا الاختبار الروحي العجيب القائم على الإيمان والحب والابتهاج بدون رؤيا عينية على الإطلاق، بأنه يبلغ بنا حتماً إلى حالة كرازة لخلاص الآخرين، لأن فرحة الإيمان بالرب ويقين الابتهاج بقيامته هي أعظم بشارة بقيامة الرب نقدِّمها من واقع حياتنا يمكن أن تؤثـِّر جداً في الخطاة فتجذبهم للحياة الأبدية.
فالتلاميذ - بعد أن عبروا على منطقة الشك والخوف وعدم التصديق وهم في واقع الرؤيا العينية لشخص الرب واقفاً أمامهم - دخلوا في يقين الإيمان بالقيامة كعطية فائقة من الرب، وفي الحال دخلهم فرح وابتهاج يقول عنه القديس بطرس الرسول كمختبر: إنه «لا يُنطق به ومجيد»، وذلك كنتيجة حتمية للإيمان بالقيامة.
ومن واقع هذا الابتهاج والفرح الدائم الذي غمر حديثهم وسلوكهم وكل حياتهم، صاروا بالتالي رسلاً للإيمان بالقيامة من بين الأموات، لتوصيل هذا الإيمان عينه بكل ابتهاجه لخلاص الآخرين.
وأصبحوا بسرِّ سلوكهم هذا المملوء من الفرح والابتهاج في الإيمان بالقيامة، يجتذبون بدون جهد ألوف الخطاة إلى التوبة والإيمان بالمسيح، «وكانوا كل يوم يواظبون في الهيكل بنفس واحدة، وإذ هم يكسرون الخبز في البيوت، كانوا يتناولون الطعام (الإفخارستيا) بـابتهاج وبساطة قلب، مُسبِّحين الله ولهم نعمة لدى جميع الشعب، وكان الرب كل يوم يضم إلى الكنيسة الذين يخلصون» (أع 2: 47،46). ?