ثالثاً: إعداد الجيل الجديد لميراث أرض الموعد (26: 1-36: 13)
(تابع) الأعياد الموسمية السنوية: ذكرنا في العدد السابق الأعياد الموسمية التي أمر الله موسى أن يوصي الشعب أن يحفظها عند دخول بني إسرائيل أرض الموعد؛ وهي: عيد الفصح، ويليه مباشرة عيد الفطير، ثم يتبعهما بعد خمسين يوماً عيد الباكورة، ويُدعى أيضاً عيد الحصاد أو عيد الخمسين(1). ونستكمل الآن باقي الأعياد الموسمية التي يمكننا أن نضمَّها معاً تحت اسم واحد وهو: أعياد الشهر السابع، وهي التي تضمَّنها الأصحاح التاسع والعشرون من سفر العدد: 1 - عيد الهُتاف (29: 1-6): وكان هذا العيد هو المقدمة لباقي أعياد الشهر السابع، وهي: عيد الكفَّارة، وعيد المظال. ويعلِّق العلاَّمة أوريجانوس على هذا العيد قائلاً: [كما أنه يوجد على مدى الأيام يوم سابع الذي له اعتبار خاص في الاحتفال به كسبت للرب، كذلك يوجد بين الشهور، الشهر السابع الذي يُمثِّل سبت الشهور، وفيه يتم الاحتفال بما نسميه ”سبت السبوت“. ففي أول يوم من هذا الشهر يُحتفل بعيد الهتاف بالبوق. ولكن، مَن هو ذاك الذي يمكنه الاحتفال بهذا العيد، متذكِّراً هتاف الأبواق، إلاَّ هذا الذي إذا وُجد في حضرة كُتُب الأنبياء والمبشِّرين والرسل يستذكرها مثل هتاف بوق آتياً من السماء ويمكنه أن يستودعها في ذاكرته ويخفيها في كنز قلبه؟...](2) من أجل هذا، فقد جاء في توصية الرب لموسى بخصوص الشهر السابع ما يأتي: + «وفي الشهر السابع في الأول من الشهر يكون لكم محفلٌ مقدَّس. عملاً ما من الشغل لا تعملوا. يومَ هُتافِ بوقٍ يكون لكم. وتعملون محرقة لرائحة سرور للرب، ثوراً واحداً ابن بقر وكبشاً واحداً وسبعة خراف حَوْليَّة صحيحة. وتقدمتهُنَّ من دقيق ملتوت بزيت ثلاثة أعشار للثور وعُشْرَين للكبش، وعُشراً واحداً لكل خروف من السبعة الخراف. وتيساً واحداً من المعز ذبيحة خطية للتكفير عنكم، فضلاً عن محرقة الشهر وتقدمتها، والمحرقة الدائمة وتقدمتها مع سكائبهن كعادتهن رائحة سرور وقوداً للرب.» (عد 29: 1-6) إذن، فعيد الهتاف هو أول أعياد الشهر السابع من السنة الدينية عند اليهود، كما أن هذا الشهر أيضاً هو أول شهور السنة المدنية عندهم. ويُسمَّى شهر إيثانيم أو شهر تشرين الأول. وكان يُعلَن عن هذا العيد بالنفخ في البوق، كما كانت تؤدَّى فيه العبادة بالنفخ في الأبواق. وكانوا يحتفلون بهذا العيد لأنه رأس سنتهم، فيفرحون بالرب ويمجِّدونه لأجل حفظه إيَّاهم لعامٍ جديد. كما أنه كان يمثِّل لهم انتهاء موسم وبداية موسم جديد للزراعة. أما ذبائحه ومحرقاته وكل طقوس الاحتفال به فقد سبق ذِكْرها وشرحها في (لا 23: 23-25)(3). وقد جاء في التقليد اليهودي أن عيد الهتاف هو تذكار لمولد إسحق وكذلك تذكار لتقديمه ذبيحة وفِدْيته بكبش، رمزاً للفداء الذي صنعه المسيح لخلاص البشرية، كوعد الله للآباء. 2 - عيد الكفَّارة (29: 7-11): + «وفي عاشر هذا الشهر السابع يكون لكم محفلٌ مقدَّس وتُذلِّلون أنفسكم. عملاً ما لا تعملوا. وتُقرِّبون محرقة للرب رائحة سرور، ثوراً واحداً ابن بقر وكبشاً واحداً وسبعة خراف حَوْليَّة صحيحة تكون لكم. وتقدمتهُنَّ من دقيق ملتوت بزيت ثلاثة أعشار للثور وعُشْرَان للكبش الواحد، وعُشرٌ واحدٌ لكل خروف من السبعة الخراف. وتيساً واحداً من المعز ذبيحة خطية، فضلاً عن ذبيحة الخطية للكفَّارة والمحرقة الدائمة وتقدمتها مع سكائبهن.» (عد 29: 7-11) كان اليوم العاشر من الشهر السابع هو يوم الكفَّارة العظيم الذي ذُكِرَ بالتفصيل في الأصحاح السادس عشر من سفر اللاويين، وكذلك في (لا 23: 26-32)(4). وكانوا يقضونه في الصلاة والصوم والتذلُّل أمام الرب. ورغم ما يصحبه من الصوم والتذلُّل إلاَّ أنه هو عيد التوبة والرجوع إلى الله الذي يؤول إلى فرح التوبة لخلاصٍ بلا ندامة (انظر 2كو 7: 10)، وتقديم ذبائح محرقات للرب رائحة سرور كما أمرهم. كما أن فيه يُقدِّم رئيس الكهنة تكفيراً عن نفسه وعن كل خطايا الشعب، هذا الذي تكلَّم عنه بولس الرسول في رسالته إلى العبرانيين قائلاً: «وأما إلى الثاني (الذي هو قدس الأقداس) فرئيس الكهنة فقط (يدخله) مرة في السنة (في عيد الكفَّارة) ليس بلا دم يُقدِّمه عن نفسه وعن جهالات الشعب، مُعلِناً الروح القدس بهذا أن طريق الأقداس لم يُظهَر بعد ما دام المسكن الأول له إقامة... وأما المسيح، وهو قد جاء رئيس كهنة للخيرات العتيدة، فبالمسكن الأعظم والأكمل غير المصنوع بيدٍ، أي الذي ليس من هذه الخليقة، وليس بدم تيوس وعجول بل بدم نفسه، دخل مرة واحدة إلى الأقداس فوجد فداءً أبدياً.» (عب 9: 7-12) 3 - عيد المظال (29: 12-40): + «وفي اليوم الخامس عشر من الشهر السابع يكون لكم محفلٌ مقدَّس، عملاً ما من الشغل لا تعملوا وتُعيِّدون عيداً للرب سبعة أيام...» (عد 29: 12-34) في هذه الأيام السبعة تُقدَّم الذبائح التي تبدأ في اليوم الأول بذبيحة محرقة مكوَّنة من 13 ثوراً وكبشين و14 خروفاً حوْلياً، وتيساً واحداً من المعز ذبيحة خطية، فضلاً عن المحرقة الدائمة وتقدمتها وسكيبها. ويتناقص عدد الثيران المقدمة كذبيحة محرقة واحداً كل يوم إلى أن تصير في اليوم السابع سبعة ثيران، مع بقاء باقي الذبائح كما هي. وبعد انتهاء الأيام السبعة للاحتفال بعيد المظال، هناك يوم ثامن متميِّز يقول عنه الكتاب: + «في اليوم الثامن يكون لكم اعتكافٌ. عملاً ما من الشغل لا تعملوا. وتُقرِّبون محرقةً وقوداً رائحة سرور للرب، ثوراً واحداً وكبشاً واحداً وسبعة خراف حوْليَّة صحيحة... هذه تُقرِّبونها للرب في مواسمكم، فضلاً عن نذوركم ونوافلكم من محرقاتكم وتقدماتكم وسكائبكم وذبائح سلامتكم...» (عد 29: 35-40) وقد جاء ذِكر عيد المظال في (خر 34: 22)، ودُعِيَ أيضاً ”عيد الشكر“ و”عيد الجمع“. وكانوا يقضون الأيام السبعة عند بيت الرب في مظال مصنوعة من أغصان الشجر وسعف النخيل، تذكاراً لسكناهم في خيام في البرية أربعين سنة بعد خروجهم من أرض مصر. وكان هذا العيد بمناسبة انتهاء موسم الزراعة والفراغ من جمع باقي المحاصيل المتبقية في الأرض، وجمع ثمار الأشجار وتخزين المحصول السنوي كله في مخازن. وكان لهم اليوم الأول واليوم الثامن ”محفل مقدس“. واستمرار عيد المظال ثمانية أيام بصفة خاصة، إنما يشير بوضوح إلى بداية زمن جديد أو الدخول في أسبوع جديد. فإن كان عيد الكفَّارة بكل تذلُّلاته وصومه يشير إلى الصليب، فإن عيد المظال الذي يستمر ثمانية أيام إنما يشير إلى القيامة بأفراحها وأمجادها. وقد أُدخِلَت مراسيم كثيرة للعيد بجانب الذبائح والتقدمات، منها أن الشعب كان يحمل سعف النخيل وأغصان الآس والصفصاف والفاكهة ويطوف الكهنة حول مذبح المحرقة مرة كل يوم، وتزداد كل يوم مرة حتى تصل إلى سبع مرات في اليوم السابع، وهم يهتفون قائلين: «آه يا رب خلِّص، آه يا رب أنقذ» (مز 118: 25)(5). كما أُضيفت عادات أخرى مثل ملء وعاء ذهبي من ماء بركة سلوام يحمله كاهن إلى الهيكل عند الذبيحة الصباحية والمسائية كل يوم من أيام العيد، فيستقبلونه بهتاف البوق وكلمات إشعياء النبي: «فتستقون مياهاً بفرح من ينابيع الخلاص» (إش 12: 3). ولعل رب المجد قد أشار إلى هذا الاحتفال بقوله: «إن عطش أحد فليُقبل إليَّ ويشرب. مَن آمن بي، كما قال الكتاب، تجري من بطنه أنهار ماء حي.» (يو 7: 37و38). وزيادة في الاحتفال بمباهج هذا العيد العظيم أمر الله موسى أن يقول للشعب إن في استطاعتهم أن يُقدِّموا، بالإضافة إلى الذبائح المرسومة في مواسمهم، ما يريدونه من نذورهم ونوافلهم وذبائح سلامتهم. وعند ذِكر النذور نأتي إلى توصيات الرب وأوامره بخصوص النذور. شريعة تقديم النذور للرب (عد 30: 1-16): + «وكلَّم موسى رؤوس أسباط بني إسرائيل قائلاً: هذا ما أمر به الرب. إذا نذر رجلٌ نذراً للرب أو أقسم قَسَماً أن يُلْزِم نفسه بلازِم فلا يَنْقُض كلامه، حسب كل ما خرج من فمه يفعل» (عد 30: 1و2) من الواضح أن النذر كان عملاً اختيارياً، فالإنسان حرٌّ في أن ينذر أو لا ينذر. لذلك كان ترتيب الرب أن تُبَلَّغ التوجيهات الخاصة به عن طريق رؤساء الأسباط الذين بحكم وضعهم كمسئولين عن تعليم أسباطهم وتلقينهم ما ينبغي أن يعملوه وشرح توجيهات الرب لهم، يمكنهم أن يشرفوا على تنفيذها وتوضيح ما غمض منها. وقد تناول الوحي الحديث عن النذور في مواضع كثيرة أخرى مثل: (لا 7: 16-18؛ لا 22: 17-25)، (عد 6: 2-21). ويتضح منها ما يأتي بخصوص النذور: 1. رغم أن النذر عمل اختياري، إلاَّ أنه بمجرد أن ينذر الرجل نذراً يكون مرتبطاً به وعليه أن يفي بنذره. 2. أنواع النذور: تنقسم النذور إلى قسمين رئيسيين: أ - إما أن يكون النذر عهداً يتعهَّد به الإنسان ووعداً بإيفائه أمام الله، مثل ما فعل يعقوب عندما رأى في الحلم السلَّم الصاعد إلى السماء وملائكة الله صاعدة ونازلة عليه، «ونذر يعقوب نذراً قائلاً: إن كان الله معي وحفظني في هذا الطريق الذي أنا سائر فيه وأعطاني خبزاً لآكل وثياباً لألبس، ورجعت بسلام إلى بيت أبي، يكون الرب لي إلهاً، وهذا الحجر الذي أقمته عموداً يكون بيت الله، وكل ما تعطيني فإني أُعشِّره لك» (تك 28: 20-22، 31: 13). وكذلك حنَّة امرأة ألقانة التي نذرت نذراً «وقالت: يا رب الجنود إن نظرتَ نظراً إلى مذلَّة أَمَتك وذكرتني ولم تنسَ أَمَتك، بل أعطيت أَمَتك زرع بشر، فإني أُعطيه للرب كل أيام حياته ولا يعلو رأسه موسى» (1صم 1: 11)، وقد نفَّذت وعدها وأعطت صموئيل ابنها للرب. وقد نذر أيضاً يفتاح نذراً للرب قائلاً: «إن دفعتَ بني عمون ليدي، فالخارج الذي يخرج من أبواب بيتي للقائي عند رجوعي بالسلامة من عند بني عمون، يكون للرب وأصعده محرقة» (قض 11: 30و31). ولكن هذا النذر لم يكن صحيحاً ولا موافقاً للعقل والحكمة، فقد كانت أول مَن قابلته هي ابنته العذراء و«لم يكن له ابن ولا ابنة غيرها. وكان لما رآها أنه مزَّق ثيابه وقال: آه يا بنتي، قد أحزنتني حزناً وصرتِ بين مكدِّريَّ، لأني قد فتحتُ فمي إلى الرب ولا يمكنني الرجوع» (قض 11: 34-39). وهكذا صار نذره سبب تكدير له ولكل بنات إسرائيل (قض 11: 40)، لأنه تسرَّع في نذر ما لا يحقُّ له أن يفعله لأن الرب لم يأمر بتقديم ذبائح بشرية له. ب. وإما أن يكون النذر قَسَماً وارتباطاً أو التزاماً أمام الله بالامتناع عن شيء، مثل الامتناع عن أطعمة معيَّنة وعن شُرب الخمر (كنوع من الصوم) وأن لا يعلو رأسه موسى (انظر قض 13: 4-7). 3 - ورغم أن النذر اختياري، إلاَّ أنه يلزم الوفاء به إذا نطق به رجل كامل السن: «حسب كل ما خرج من فمه يفعل». لذلك يُحذِّر الحكيم في أمثاله قائلاً: «لا تستعجل فمك ولا يُسرع قلبك إلى نُطق كلام قدَّام الله، لأن الله في السموات وأنت على الأرض... إذا نذرت نذراً لله فلا تتأخر عن الوفاء به لأنه لا يُسرُّ بالجهال. فأوفِ بما نذرته. أن لا تنذر خير من أن تنذر ولا تفي.» (جا 5: 2-5) 4 - «وأما المرأة فإذا نذرتْ نذراً للرب والتزمتْ بلازِم في بيت أبيها في صباها، وسمع أبوها نذرها واللازم الذي ألزمتْ نفسها به، فإن سَكَتَ أبوها لها ثبتت كل نذورها. وكل لوازمها التي ألزمتْ نفسها بها تَثْبُتُ. وإن نهاها أبوها يوم سمعه فكل نذورها ولوازمها التي ألزمت نفسها بها لا تَثْبُتُ، والرب يصفح عنها لأن أباها قد نهاها.» (عد 30: 3-5) يوضِّح الوحي أن الابنة في بيت أبيها، وكذلك المرأة في بيت زوجها، ليست حُرَّة في نذر شيء بدون موافقة الأب أو الزوج (عد 30: 6-8، 10-15). فربما كان الأب أو الزوج غير قادر على الوفاء بنذر الابنة أو الزوجة لقصر ذات اليد. كما يرى بعض علماء اليهود أن ما كان ينطبق على الابنة ينطبق أيضاً على الابن إذا كان قاصراً وما زال في عصمة أبيه. 5 - «وأما نذر أرملة أو مُطلَّقة فكل ما ألزمتْ نفسها به يثبت عليها.» (عد 30: 9) ذلك لأن الأرملة أو المطلَّقة ليست تحت سلطة أب أو زوج، بل هي المسئولة عن نفسها. فكل ما تُلزِم نفسها به يثبت عليها ويتحتَّم وفاؤه. ويتساءل العلاَّمة أوريجانوس عما هو النذر الذي يريده الرب من الإنسان، فيقول: [ما الذي أعطاه الرب للإنسان؟ معرفته له. وما الذي يُقدِّمه الإنسان لله؟ إيمانه وحبه. وهذا هو الذي يطلبه الله من الإنسان. من أجل هذا قيل، هذا الذي كُتب: «فالآن يا إسرائيل اسمع الفرائض والأحكام التي أنا أُعلِّمكم لتعملوها لكي تحيوا وتدخلوا وتمتلكوا الأرض التي الرب إله آبائكم يُعطيكم.» (تث 4: 1)](6) وأضاف أيضاً في موضع آخر قائلاً: [«ماذا يطلب منك الرب إلهك إلاَّ أن تتَّقي الرب إلهك لتسلك في كل طُرقه وتحبه، وتعبد الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك (ومن كل قدرتك)» (تث 10: 12)؟ هذا هو ما يطلبه الله منا. فإن كنَّا لا نقدِّم ما يطلبه، فلن ننال منه شيئاً. فإننا نقرأ في موضع آخر: «أعطوا عزًّا لله» (مز 68: 34)، وأيضاً: «أعطوا عظمة لإلهنا» (تث 32: 3). فإذا أعطيتم المجد لله، فإنكم تنالون المجد، لأنه هكذا قال الله نفسه: «فإني أكرم الذين يكرمونني.» (1صم 2: 30)](7) (يتبع) |
||||
(1) انظر: دراسة الكتاب المقدس - مجلة مرقس - عدد أبريل عام 2006. (2) Homélies sur les Nombres, Hom. XXIII,9. (3) انظر: دراسة الكتاب المقدس - مجلة مرقس - عدد أبريل عام 2001. (4) انظر: دراسة الكتاب المقدس - مجلة مرقس - أعداد: مارس وأبريل عام 1999، وكذلك أبريل عام 2001. (5) A. Edersheim, The Temple, p. 280,281. انظر أيضاً دراسة الكتاب المقدس - مجلة مرقس - أعداد مايو ويونيه عام 2001. (6) Hom. Sur les Nombres, Hom. XII,3,1 (SC 442, p. 95). (7) Ibid., Hom. XXIII,4.3. |