دير القديس العظيم أنبا مقار
الصفحة الرئيسية  مجلة مرقس الشهرية - محتويات العدد

تدبير الروح القدس:

الروح القدس

وتأسيس الكنيسة

-1-

الكنيسة

-6-

علامات الكنيسة

(4)

"كنيسة رسولية"

معنى "رسولية" الكنيسة

وعلاقة "رسولية الكنيسة" بـ"آبائية" الكنيسة


الكنيسة تُدعى ”رسولية“ لأن رُسُل المسيح الأطهار هم الذين وضعوا البداية التاريخية للكنيسة. فقد نشروا المسيحية إلى أقاصي الأرض ومعظمهم ختموا حياتهم وكرازتهم بالموت كشهداء. لقد زرعوا بذار المسيحية في العالم بكلمة بشارتهم، وسَقَوْها بدمائهم. وشعلة الإيمان دائمة التوهُّج أوقدوها بقوة إيمانهم الشخصي.

ماذا سلَّمنا الرسل الأطهار:

1. الإيمان والحياة المسيحية:

وقد حفظ الرسل تعليم المسيح عن الإيمان والحياة المسيحية ونقلوها إلى الكنيسة بنفس الشكل الذي استلموه به من معلِّمهم وربِّهم. وقد قدَّموا - كقدوة - أمانتهم لوصايا المسيح، وسلَّموا هذا النموذج الحي للمؤمنين، مُسلِّمين لهم تعليم المسيح بكلمة الفم أولاً ثم بالبشارة والرسائل المكتوبة بحبر وورق، حتى تُحفظ على مدى الأجيال، ويُعترف بها، ويحياها المؤمنون، ويتذاكرونها دائماً.

2. بدايات المراسيم المقدسة:

وبناءً على وصية الرب، وضع الرسل بدايات المراسيم المقدَّسة. فأسَّسوا الممارسات الكنسية الأولى وأولها سرُّ التناول من الجسد والدم الأقدسين اللذين للمسيح، وسرُّ المعمودية، وسرُّ الكهنوت، وغير ذلك من أسرار الكنيسة السبعة وتلك التي هي في حكم الأسرار.

3. تعاقُب الأسقفية:

وقد وضع الرسل في الكنيسة تعاقُب الأسقفية، ومن خلالها تعاقُب خدمة الكهنوت المقدس الموزِّع للمواهب والنعَم السرائرية، ويُسمَّى حاملو الكهنوت: خُدَّام كهنوت المسيح (القداس الكيرلسي)، ووكلاء سرائر الله (1كو 4: 1).

4. أساسات البنيان القانوني الكنسي:

كما وضع الرسل أساسات البنيان القانوني الكنسي للحياة الكنسية، إذ اهتموا بأن يكون كل شيء في الكنيسة «بلياقة وبحسب ترتيب» (الرسالة الأولى لكورنثوس 14: 40). والأصحاح الرابع عشر كله من الرسالة الأولى لكورنثوس نموذج لهذا الترتيب الذي يحوي توجيهات مفصَّلة لاجتماعات الكنيسة حيث كانت تُجرَى خدمات الكنيسة. وكل ما قلناه في هذه البنود السابقة يتصل بالجانب التاريخي للكنيسة.

الجانب الروحي في تسليم الرسل الأطهار

(حياة الشركة مع الثالوث الأقدس):

ولكن بجانب هذا فهناك الجانب الروحي الباطني الذي يُعطي للكنيسة مضمونها الرسولي. فالرسل لم يكونوا فقط شخصيات تاريخية في كنيسة المسيح، بل كما كانوا هكذا هم الآن كائنون، كما يصرخ الشعب بعد ذِكر أسماء الرسل والقديسين: ”كما كان، هكذا يكون. من جيل إلى جيل، وإلى دهر الدهور“ (القداس الباسيلي). فكما كانوا عائشين في الكنيسة التي على الأرض أثناء حياتهم بالجسد، هكذا هم الآن أحياء في كنيسة السماء، مُكمِّلين ومواصلين شركتهم مع المؤمنين على الأرض. وكما كانوا النواة التاريخية للكنيسة وهم على الأرض، هكذا هم يواصلون الآن حياتهم بالروح - وإن كانوا غير منظورين بعيني الجسد - صائرين نواة الكنيسة الآن وإلى دهر الدهور في وجودها الدائم المستمر. والقديس يوحنا الرسول يُخاطب المؤمنين في رسالته الأولى عن هذه الشركة الحيَّة مع الرسل بقوله: «... نخبركم به لكي يكون لكم أيضاً شركة معنا. وأما شركتنا نحن فهي مع الله ومع ابنه يسوع المسيح» (1يو 1: 3). هذه الكلمات هي لنا الآن بنفس القوة والسلطان الذي كان لقارئي ومعاصري القديس يوحنا الرسول: أن يكون لنا هذه الشركة مع الرسل الأطهار. لأن اختبار الرسل للشركة مع الثالوث الأقدس كانت بلا شك أعظم مما هي لنا.

الرسل هم أساسات الكنيسة:

وبهذين الجانبين: الجانب التاريخي للرسل، والجانب الروحي الباطني؛ يُعتبر الرسل هم أساسات الكنيسة. لذلك يقول القديس بولس الرسول في رسالة أفسس: «مبنيين على أساس الرسل والأنبياء، ويسوع المسيح نفسه حجر الزاوية» (أف 2: 20).

”رسولية“ الكنيسة هي قائمة على

”الماضي“ المتجدِّد بحياة الكنيسة:

ومن هذا العرض نستطيع أن نستنبط أن ”رسولية“ الكنيسة تشير إلى أن الكنيسة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً ومبنية على ”الماضي“ المتجدِّد بشركتنا نحن مع الرسل في شركتهم مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح والروح القدس.

ومفهوم استمرارية الماضي من جيل إلى جيل يعود إلى الطريقة التي كان الله معروفاً بها في شعب الله القديم. فالماضي عند كل عضو في شعب الله القديم كان حاضراً دائماً. فإبراهيم وموسى وداود والأنبياء، وما حدث لشعب إسرائيل قديماً من نجاح وإخفاق، كان يتحوَّل إلى حقيقة حاضرة في كل جيل تقود الشعب وتعلِّمهم وتُوجِّههم. لقد كان حضور الماضي قوياً حتى أن رئيس وليمة الفصح اليهودي السنوية كان ينطق بما ورد في التوراة: «أنك كنتَ عبداً في مصر...» (تث 16: 12؛ 24: 18). وهكذا في الكنيسة، وبنفس الطريقة، يقودها شهادة وسلطان ومرجعية الرسل، والتي تتمثَّل في الشركة الحيَّة مع الثالوث الأقدس، كما أوضحنا.

”مجمعية الرسل“، تسليم رسولي للكنيسة:

وتسمية الكنيسة بأنها ”رسولية“ تشير إلى أنها ليست مؤسَّسة على ”رسول“ مفرد واحد (كما عند بعض الطوائف المسيحية)، ولكن على الاثني عشر كلهم معاً. ويُقدِّم لنا الرسل آية وقدوة على روحهم ”المجمعية“ من خلال مجمع الرسل الأول الذي أُرسِيَ فيه أخطر قرار في تاريخ الكنيسة المسيحية في أول عهدها (أعمال الرسل أصحاح 15). وقد حذَّرنا الرسول بولس ضد التفكير والتصرُّف في الكنيسة بطريقة ”جسدية“ بقوله: «... ألستم جسديين وتسلكون بحسب البشر؟ لأنه متى قال واحد أنا لبولس وأنا لأبولُّس، أفلستم جسديين؟» (1كو 3: 4،3). ويظهر الرسل الاثنا عشر معاً كأساسات للكنيسة في رؤيا يوحنا الرسول: «وسور المدينة كان له اثنا عشر أساساً وعليها أسماء رُسُل الخروف الاثني عشر» (رؤ 21: 14).

”الرجوع إلى الرسل“

هو سمة الكنيسة الرسولية:

فالكنيسة هي اجتماع الذين يُرجعون بدايات إيمانهم إلى الرسل، والذين يحفظون بلا تغيير ولا تبديل تعاليم الرسل وقوانينهم وتقليدهم - أي التسليم الإلهي الرسولي (ارجع لمقال: ”التسليم الرسولي“ - مجلة مرقس - عدد أكتوبر 2005، ص 25 - نوفمبر 2005، ص 30).

والكنيسة علَّمت دائماً تعليم الرسل في صورته الأصلية، ولم تَحِد عنه قيد أُنملة، قائلة: «ولكن إن بشَّرناكم نحن أو ملاك من السماء بغير ما بشَّرناكم فليكن أناثيما (محروماً)» (غلا 1: 8)، وهي أيضاً تحتفظ بالتنظيم الكنسي نفسه والتدبير اللذين وضعهما الرسل (من خلال ”القوانين الرسولية“ وكتاب: ”تعاليم الرسل“)، وكذلك تحتفظ بالسمات الخارجية والباطنية الروحية معاً للكنيسة الرسولية الأولى، كما أوضحناها سابقاً في هذا المقال.

التعليم والتدبير الرسوليَّيْن في الكنيسة:

كما تحتفظ بنظام التعليم والتدبير في الكنيسة من خلال الدرجات الكهنوتية الثلاث: ”الأساقفة“ «الذين أقامهم الروح القدس... ليرعوا كنيسة الله» (أع 20: 28)، والقسوس، والشمامسة. فرسولية الكنيسة واضحة من أصلها ومرجعيتها الرسوليين، ومن تعليمها (المطابق لتعليم الرسل)، ومن التسلسل أو التعاقب الرسولي لخدَّامها. لذلك أيضاً، فإن مواهب النعمة والحق المنسكبة على كل رسول، والذين اتحدوا معاً في إيمان واحد ومحبة واحدة، تنتقل باستمرار وبلا انقطاع إلى خلفاء الرسل: الأساقفة، من خلال التعاقب الرسولي المتمثِّل في وضع أيدي الأساقفة على رأس الأسقف المنتخب حسب القوانين الرسولية. ولم ينقطع هذا التسلسل ولم يفقد الأساقفة ارتباطهم بكنيسة الرسل القديمة التي هي رسولية بكل المعايير والأوجه التي شرحناها سابقاً. وحتى لو وُجِد من بينهم على مدى التاريخ مَن شذَّ عن هذا السياق، فكانت الكنيسة بشعبها الواعي لإيمانه والأساقفة بيقظتهم الإيمانية يُحاصرون هذا الشذوذ حتى لا يُعطِّل سمة الكنيسة ككنيسة رسولية.

التعليم الرسولي عن الحياة الروحية الصحيحة:

وفي صميم التعليم الرسولي هذا، ليس هناك فقط تسلسل وتعاقُب الرسامات الأسقفية، بل وأيضاً التعليم الصحيح عن الحياة الروحية التي هي ثمرة سر الصليب والقيامة المقدَّسين التي بشرنا بها الرسل الأطهار، والتي تُستعلن في جموع القديسين وأحباء الله الذين يحيون في الشركة مع الثالوث الأقدس، أو الشركة في الطبيعة الإلهية، المُعبَّر عنها لدى علماء اللاهوت بـ ”التأليه في المسيح“ Theosis in Christ، والذين تزخر بهم الكنيسة في كل جيل. ولم يتوقف سيل هؤلاء القديسين العائشين في هذه الشركة الإلهية وهذه النعمة المُفاضة من المسيح على يد الرسل. وعدم انقطاع هذه النعمة عن الكنيسة وعن أعضائها هو دليل عدم انقطاع ”رسولية“ الكنيسة وعدم توقُّف شركة سرِّ الصليب والقيامة، وبرهان عدم انطراح الكنيسة بعيداً عن الحق الإلهي المسلَّم لها من الرسل. وسواء ظهر مثل هؤلاء القديسين، أو اختفوا عن أعين الناس، أو عزَّ وجودهم في بعض الأجيال بسبب الضيقات التي أَلمَّت بالكنيسة، أو بسبب انحجاب التعليم الصحيح عن الحياة الرسولية الروحية هذه، إلاَّ أن الكنيسة لم تُعدَم من حلول هذه النعمة في وسطها على مدى الأجيال وإن كان بصور مختلفة. ونحن نتكلَّم عن كنيستنا القبطية الأرثوذكسية بالذات، والتي لم يتوقف فيها ظهور القديسين الحقيقيين في كل جيل.

لأن الكنيسة ”رسولية“،

لذلك فهي بالضرورة ”آبائية“:

والكنيسة الرسولية هي سواء بسواء ”آبائية“ أيضاً. والكنيسة كما هي ملتزمة بكرازة الرسل، هكذا هي ملتزمة بشهادة آباء الكنيسة، والاثنان مرتبطان بعضهما بالبعض. وإذا كانت الكنيسة ”آبائية“ فهذا دليل على أنها ”رسولية“. لأن الآباء يشهدون لرسولية التقليد والتسليم الإلهي. وتعليم الآباء وعقيدتهم هي نفسها ”البشارة“ البسيطة الأولى للرسل، والتي سُلِّمت وحُفظت بواسطة الرسل. والكنيسة تحفظ هذه البشارة ليس بحبر وورق فقط، بل هي تحياها كوديعة حياتية. لهذا صارت تعاليم وشروحات الآباء مقياساً وميزاناً للعقيدة الصحيحة والإيمان الصحيح. والآباء ليسوا فقط مجرد شهود وحافظين لإيمان قديم، بل أولاً وفوق كل شيء هم شهود لإيمان وحياة صحيحين.

والرجوع إلى الآباء ليس رجوعاً إلى وثائق قديمة في الماضي. إنه استرجاع لِمَا يُسمَّى ”ذهنية الآباء“ وفكرهم ونمط تفكيرهم وحتى طريقة جدلهم ومواجهتهم للتعاليم الخاطئة. والسمة والعلامة المميزة للتعليم الآبائي هو أن هذا التعليم ”رعائي“ و”متصل بالحياة الروحية للناس“.

ويقول القديس غريغوريوس اللاهوتي إن الآباء علَّموا ”بطريقة الرسل وليس بطريقة أرسطو“ (العظة 23: 12). أي أن تعليمهم كان كرازياً أي يحمل بشارة للناس، حتى ولو كان ذا صبغة جدلية. أما طريقة أرسطو فهي طريقة استعراض المنطق العقلي وتغليبه على الإيمان بالمسلَّمات والتقليد، وكذلك باستخدامه القياسات العقلية كمقياس وكمعيار لصحة التعليم من عدمه وذلك باستخدامه هذه الأسئلة التشكيكية لمبادئ الإيمان: ”هل من المعقول“؟ ”هل من المنطقي“؟ ”هل يمكن أن يكون هذا“؟ و”كيف يكون هذا“؟ مُخاطباً العقل البشري القاصر عن الإحاطة بالحقائق الإلهية المستعلنة من المسيح والتي لا يقبلها الإنسان إلاَّ بالإيمان وبإرشاد الروح القدس.

وهكذا، فالكنيسة الرسولية ليست فقط ”رسولية“، بل هي الكنيسة الرسولية كنيسة الآباء.

(يتبع)