كان القديس أنطونيوس من أوائل الرهبان الذين تركوا العالم هاربين إلى البرية، وهو يُعتَبَر أبَ الحياة الرهبانية. وكثيراً ما يُذكَر في الكنيسة أنه "مُعلِّم البرية" و"أب جميع الرهبان". وقد تجمَّع مع مرور الوقت كثيرٌ من الرهبان حول منسكه، وهكذا وجـدوا الهدوء والسلام في وجهه وأقاموا بقربــه. تطلَّع يا أنطونيوس وانظر، مَن مثلك قد وصل إلى هذه الحدود؟ لا أحد. مَن يصوم، مَن يُصلِّي، مَن يتنسَّك كما تفعل أنت؟ لا أحد. ظهر، لبرهة، أن أنطونيوس الكبير يُصغي لهذا الفكر إلاَّ أنـه أدرك حيلة الشيطان مباشرة؛ ولكن الله الذي لم يسمح بـأن يُخطئ القديس أنطونيوس، وجـد طريقة ليُعلِّم بها هـــذا الناسك الكبير. في ذلك المساء، بعد أن أنهى رجل الله صلاته الحارة، وأقفل قنديل الزيت، وأغلق أجفانه قليلاً؛ حينها سمع صوتاً إلهياً يرشده بوضوح: في الطريق المؤدية إلى الإسكندرية تجد إسكافياً (في بعض المخطوطات: "تجد خيَّاطاً") يفوقك قداسةً يا أنطونيوس. بعد أن أشرقت الشمس، تناول القديس أنطونيوس عصاه وانطلق إلى المكان الذي أرشده إليه الله. - "إسكافي في الإسكندرية أعظم من نُسَّاك البرية"، هكذا كان يُردِّد أنطونيوس مراراً. في الطريق الفرعية المؤدِّية إلى الإسكندرية هناك دكان صغير، يقبع فيه إسكافي شيخ لا يتصف بمميزات خاصة، بسيط، قليل الكلام، وكان يُصلح حذاءً باجتهاد وعناية. قال الإسكافي للراهب المتواضع: "باركوا" (وهي تحية المسيحيين قديماً لِمَن يزورونهم). أجاب القديس أنطونيوس ببساطة: "الرب يُباركك" (وهي كلمات التحية المسيحية المتبادلة بين المؤمنين بالمسيح). تابع الإسكافي عمله في تصليح الحذاء وهو يهذُّ في أحد المزامير. وبادره القديس أنطونيوس بالسؤال: - "قُلْ لي، أسعدك الله، يا بُنيَّ، كيف تُمضِي أيام حياتك"؟ - "لا أعرف، يا أبانا، إن كنتُ قد صنعتُ خيراً لأحدٍ ما، ولا أتذكَّر إحساناً ما عملتُه". - "وكيف تُمضِي حياتك"؟ قاطعه الأب أنطونيوس مُتحيِّراً. - "ها أنا أنهض كل صباح وأقول لفكري: كلُّ سكان الإسكندرية، والذين يسكنون أبعد من ذلك، والذين لا أعرفهم، كلهم سيخلصون، إلاَّ أنا بسبب خطاياي الكثيرة سأهلك. فنهاري كله يَعْبُر وأنا مستغرق في هذا الفكر. وعند المساء أيضاً أتأمل بالفكرة ذاتها، وألتمس رحمة الله". نهض أنطونيوس وعانق الإسكافي الفقير وقبَّله بتأثـُّر كبير. - "أنت، يا بُنيَّ، قد اشتريتَ الكنز الثمين بتعب بسيط! أما أنــا فقد شختُ في البرية في الجهادات والأصوام، إلاَّ أني لم أصل بعد إلى تواضعك". ثم تناول الناسك العظيم عكَّازه ومضى في طريق العودة منتفعاً جداً.
- وفي قصص الآباء الأوائل، مثل هذا الاختبار، فالقديس مقاريوس، والقديس أنبا دانيال، والقديس بترونيوس (تلميذ القديس باخوميوس)، وغيرهم، أرشدهم الله إلى مَنْ هو (أو هي) أفضل منهم في المدينة أو في الدير. - وعلى هذا الأساس كان احترامهم لمشاعر وأشخاص المغايرين لهم، ليس في الجنس أو الدين فقط، بل وفي الحياة الروحية أيضاً؛ كما في قصة القديس مقاريوس مع الكاهن الوثني، ومع الراهب الذي أُشيع عنه أمر رديء والذي ستر على خطيته.
|