دير القديس العظيم أنبا مقار
الصفحة الرئيسية  مجلة مرقس الشهرية - محتويات العدد

من وحي عيد الفصح:

المسيح رئيس الكهنة العظيم
والذبيحة الكاملة


+ "رئيس كهنة عظيم." (عب 4: 14)

+ "كاهن عظيم على بيت الله." (عب 10: 21)

ربما بَقِيَ ملكي صادق - رغم ما يحمله من دلالات - كشهاب ظهر في فجر التاريخ القديم لأبينا إبراهيم (تك 14: 18-20)، ثم توارى في ثنايا الأحداث، وإن طفا اسمه على السطح وسط القرون في كلمات مزمور داود (مز 110: 4) التي تشير إلى كهنوت المسيح الأبدي: "أقسم الرب ولن يندم أنت كاهن إلى الأبد على رتبة ملكي صادق". وبعدها لم تأتِ إشارة أخرى عن كهنوت المسيح غير هدايا المجوس (مت 2: 11) الذين ألهمهم الوحي أن يُقدِّموا ذهباً (للمسيح الملك المخلِّص الذي غلب إبليس وخلَّص البشر من بين براثنه)(1)، ولباناً (للمسيح الإله والكاهن)، ومُرًّا (للمسيح المتألِّم ذبيحاً على الصليب، وحنوطاً لقبره).

نقول ربما بقيت هذه الإشارات عن المسيح رئيس الكهنة العظيم والذبيحة الكاملة غير المسبوقة، والتي قدَّمها الرب مرة واحدة فصنع فداءً أبدياً لكل العالم(2)، لولا أن بعض العبرانيين (اليهود) المتنصِّرين، بعد سنوات من إيمانهم بالمخلِّص وتحت وطأة اضطهادهم من اليهود المتشدِّدين لاتِّباعهم المسيح، أخذوا يراجعون أنفسهم وإيمانهم وينظرون إلى ما آلوا إليه مفتقدين تراثهم وتاريخهم، آباءهم ومواعيدهم، هيكلهم وكهنوتهم، ذبائحهم وطقوسهم، وقد تحوَّلوا إلى أقلية منبوذة تتقاذفها الأمواج ويتهددها خطر الارتداد، مما حفَّز القديس بولس(3) للتصدِّي والدفاع عن الإيمان. فصار تراجعهم بركة لكل المؤمنين. وأُتيح أن يضم العهد الجديد سفراً كاملاً كحبات عقد نفيس تلمع فيه من حياة السيِّد صفته كرئيس كهنة عظيم متفرِّد، قدَّم ذاته ذبيحة كاملة لا مثيل لها، ويميط اللثام عن كل الأسرار منذ ملكي صادق وهارون حتى ذبيحة الصليب وإلى آخر الدهور، ويكشف لكل يهودي (وأُممي) آمن بالمسيح أن ما ناله أعظم بما لا يُقاس مما تخلَّى عنه. فالذي فقده آل إلى الزوال ولم تَعُدْ له قائمة، والذي ربحه هو غاية كل النبوَّات ومخلِّص العالم وواهب الحياة الأبدية.

وإن كان المسيح قد مارس عملياً كهنوته عندما خدم الكلمة في الهيكل (لو 4: 16-21)، وعلَّم وبشَّر وافتقد، وأسَّس الأسرار وقدَّم نفسه ذبيحة، وأرسل تلاميذه للكرازة بالخلاص؛ إلاَّ أنه لم يستخدم لقب الكاهن أو رئيس الكهنة في أحاديثه عن نفسه كما لم تتضمن كتابات الرسل هذا اللقب عن المسيح، وكأنما رتَّب الوحي الإلهي الظروف لكي يكتب القديس بولس سفراً خاصاً بأكمله عن كهنوت المسيح الفريد.

أولاً: التدبير الإلهي يشير إلى سمو كهنوت المسيح وتفرُّده:

1 - المسيح أعظم من الكهنة اللاويين لأنه رئيس كهنة على رتبة ملكي صادق(4):

- في فجر التاريخ القديم يظهر كالبرق الخاطف شخص ملكي صادق الذي يلتقي بإبراهيم أبي الآباء بعد انتصاره على الملوك. ويُسجِّل عنه سفر التكوين هذه الكلمات القليلة: "وملكي صادق ملك شاليم أخرج خبزاً وخمراً، وكان كاهناً لله العلي، وباركه وقال: مبارك أبرام من الله العلي مالك السموات والأرض، ومبارك الله العلي الذي أسلم أعداءك في يدك. فأعطاه عُشراً من كل شيء." (تك 14: 18-20)

فالله أظهر الملك الكاهن ملكي صادق، بشخصيته واسمه وألقابه، رمزاً مبكِّراً لكهنوت المسيح الكامل، ويرسم مُقدَّماً بصورة ما ملامح مخلِّص العالم، فهو يُشرق فجأة دون مقدمات ودون إشارة إلى نَسَبه، تحيط به العلامات التي ستتحقق في ملء الزمان: خبز وخمر الإفخارستيا، وإبراهيم أبو الآباء يُقدِّم له العشور من كل شيء، وهي علامة خضوع وتسليم العهد القديم كله لابن الله مدشِّن العهد الجديد بدمه (مت 26: 28، مر 14: 24، لو 22: 20).

- ويضيف كاتب سفر العبرانيين رموزاً أخرى عن ملكي صادق تجعل المطابقة مع جوانب من حياة الرب ما يملأ القلب بالرهبة والخشوع إزاء كمال التدبير الإلهي:

+ "لأن ملكي صادق هذا، ملك ساليم، كاهن الله العلي، الذي استقبل إبراهيم (المنتصر) راجعاً من كسرة الملوك (كَدَرلَعومر والذين معه) وباركه، الذي قَسَمَ له إبراهيم عُشراً من كل شيء. المُترجَم أولاً ملك البر ثم أيضاً ملك ساليم أي ملك السلام(5). بلا أب بلا أُم بلا نَسَب. لا بداءة أيام له ولا نهاية حياة (فهذا كله لم يُسجِّله سفر التكوين)، بل هو مُشبَّه بابن الله. هذا يبقى كاهناً إلى الأبد. ثم انظروا ما أعظم هذا الذي أعطاه إبراهيم رئيس الآباء، عُشراً أيضاً من رأس الغنائم. وأما الذين هم من بني لاوي، الذين يأخذون الكهنوت، فلهم وصية أن يُعشِّروا (أن يأخذوا العشور من) الشعب بمقتضى الناموس... ولكن الذي ليس له نَسَب منهم قد عَشَّر إبراهيم، وبارَك الذي له المواعيد. وبدون كل مشاجرة (وبلا جدال): الأصغر يُبارَك من الأكبر (أو الأكبر هو الذي يبارِك الأصغر)... إن لاوي أيضاً الآخذ الأعشار (أي الكهنة اللاويين) قد عُشِّر (أي قدَّم العشور) بإبراهيم، لأنه كان بعد في صُلْب أبيه (أي إبراهيم) حين استقبله ملكي صادق.

فلو كان بالكهنوت اللاوي كمال... ماذا كانت الحاجة بعد إلى أن يقوم كاهن آخر (أي المسيح) على رتبة ملكي صادق، ولا يُقال على رتبة هارون؟... لأن الذي يُقال عنه هذا (أي المسيح) كان شريكاً في سبط آخر (يهوذا) لم يُلازِم أحدٌ منه المذبح. فإنه واضحٌ أن ربنا قد طلع من سبط يهوذا، الذي لم يتكلَّم (يذكر) عنه موسى شيئاً من جهة الكهنوت. وذلك أكثر وضوحاً أيضاً إن كان على شِبه ملكي صادق يقوم كاهن آخر (أي المسيح)... لأن أولئك بدون قَسَم قد صاروا كهنة، وأما هذا (المسيح) فبقَسَم من القائل له: أقسم الرب ولن يندم، أنت كاهن إلى الأبد على رتبة ملكي صادق... فمن أجل أنه (أي المسيح) يبقى إلى الأبد، له كهنوت لا يزول." (عب 7: 1-17 و21-24)

فالقَسَم الوارد في المزمور لا ينطبق على الكهنة اللاويين فهم خطاة وزائلون، وبالتالي متعدِّدون وهم خدَّام عهد بائد، ولكنه ينطبق فقط على الملك الكاهن الأبدي ابن داود الحقيقي يسوع المخلِّص الوحيد خادم العهد الجديد والنهائي بجسده المصلوب ودمه المسفوك المُعبَّر عنه بخبز وخمر الإفخارستيا، كما كان قديماً عهد ملكي صادق الذي عشَّر له إبراهيم (وكل إسرائيل في صلبه) وبورك منه كأصغر يُبارَك من الأكبر.

2 - المسيح رئيس كهنة أبدي في السموات، إذ قدَّم نفسه ذبيحة دائمة الفعل في الأقداس:

"وأما رأس الكلام فهو أن لنا رئيس كهنة مثل هذا قد جلس في يمين عرش العظمة في السموات" (أع 7: 56، عب 1: 3)، "خادماً للأقداس والمسكن الحقيقي الذي نصبه الرب لا إنسان." (عب 8: 1و2)

فالكهنة اللاويون الذين على الأرض يُقدِّمون قرابين حسب الناموس، فهم يخدمون شِبه السماويَّات وظلها (عب 8: 3-5)، أما الرب فقد "حصل على خدمة أفضل بمقدار ما هو وسيط أيضاً لعهدٍ أعظم (مما صنعه الله مع موسى عند خروج بني إسرائيل من مصر)" (عب 8: 6)، "وهو قد جاء رئيس كهنة للخيرات العتيدة (أي لعطايا النعمة وهي في الأساس الروح القدس والحياة الأبدية)، فبالمسكن الأعظم والأكمل غير المصنوع بيدٍ أي الذي ليس من هذه الخليقة (أي السماء حيث عرش الله)، وليس بدم تيوس وعجول بل بدم نفسه (ذبيحة الصليب) دخل مرة واحدة إلى الأقداس (بصعوده إلى السماء) فوجد (فحقَّق لنا having obtained) فداءً أبدياً... ولأجل هذا هو وسيط عهد جديد." (عب 9: 11و12و15)

"لأن المسيح لم يدخل إلى أقداس مصنوعة بيد أشباه الحقيقية (خيمة الاجتماع - هيكل سليمان)، بل إلى السماء عينها، ليظهر الآن أمام وجه الله لأجلنا، ولا ليُقدِّم نفسه مراراً كثيرة كما يدخل رئيس الكهنة إلى الأقداس كل سنة بدم آخر. فإذ ذاك كان يجب أن يتألَّم مراراً كثيرة منذ تأسيس العالم (لو لم تكن ذبيحة الصليب كافية للخلاص)، ولكنه الآن قد أُظهِر مرة عند انقضاء الدهور (يوم الصليب) ليُبطل الخطية بذبيحة نفسه" (عب 9: 24-26). من هنا "نحن مقدَّسون بتقديم جسد يسوع المسيح (كذبيحة) مرَّة واحدة." (عب 10: 10)

رئيس كهنتنا العظيم، إذن، يختلف عن غيره، فهو حيٌّ لا يموت، وهو بار قدوس بلا عيب، وهو يجلس على عرشه في الأعالي، وهو قدَّم نفسه ذبيحة دائمة قادرة أن تغفر خطايا كل مَن يتقدم إليه وبه، مؤمناً تائباً، في العالم كله وإلى آخر الأيام.

3 - المسيح هو الذبيحة الفريدة الكاملة(6):

وهي فريدة لأن الرب كرئيس كهنة لم يتقدَّم بدم تيوس وعجول، بل دخل إلى الأقداس بدمه هو. فكان هو نفسه الذبيحة المقدَّمة والتي تجاوز أثرها شعب إسرائيل ليشمل العالم كله (عب 9: 12)، وهي كاملة لأنها بلا عيب، وقُدِّمت مرة واحدة، فصنعت فداءً أبدياً. فقيامة الرب من الموت جعلت الذبيحة حية دائمة، والفداء أبدياً، والمصالحة مع الآب لا تتكرر. وهي من ناحية حقَّقت شروط ذبيحة الفصح (1كو 5: 7)، فكانت بلا عيب (من جهة البر)، ولم يكسر منها عظم (عد 9: 12، يو 19: 36)، وأهرق دمها خارج المحلة (عب 13: 12و13)، وتقدَّم بها الرب مرتفعاً على الصليب في اليوم التالي لذبيحة الفصح والذي رسم بعده سر الشكر، وهي من ناحية ختمت على كل الذبائح القديمة المتعددة التي رمزت جميعاً لها، والتي كانت فقط تُقدِّس إلى طهارة الجسد (عب 9: 13)، وبالتالي كان يلزم تكرارها، فأثبتت قصورها ونسختها، وبَطُل تقديمها منذ يوم الصليب بانشقاق حجاب الهيكل (مت 27: 51، مر 15: 38، لو 23: 45)، وخراب الهيكل تحقيقاً لنبوَّة السيِّد (مت 24: 2، مر 13: 2، لو 21: 6).

فالرب تمَّم طقس تقديم الذبيحة بصورة كاملة غير مسبوقة وغير متكررة، ففيه اجتمع المقدِّم (رئيس كهنة قدوس على طقس ملكي صادق)، والمقدَّم عنهم (البشر الذين أخذ جسدهم دون خطيتهم - عب 7: 26)، والتقدمة (ذبيحة الحب الكاملة والدائمة التي تُخلِّص إلى التمام)، كما جمع في شخصه أيضاً الإله والإنسان المقصود مصالحته. ومن ناحية أخرى، فقد كان الآب المُصالِح (الذي أحب العالم حتى بذل ابنه الوحيد لأجلنا أجمعين - يو 3: 16، رو 8: 32)، والمصالَح معاً: "ولكن الكل من الله الذي صالحنا لنفسه بيسوع المسيح وأعطانا خدمة المصالحة، أي أن الله كان في المسيح مُصالِحاً العالم لنفسه، غير حاسبٍ لهم خطاياهم وواضعاً فينا كلمة المصالحة... نطلب عن المسيح تصالحوا مع الله" (2كو 5: 18-20)، وأعلن الآب قبوله للذبيحة بقيامة الرب من بين الأموات.

ومنذ ولادته في مذود الخراف المعدَّة للذبح (لو 2: 7و12و16)، وخلال خدمته؛ ظلَّت الإشارات والكلمات تتوالى مبكراً عن مهمة الرب الخلاصية وسفك دمه. فالمعمدان يُلقِّبه بـ "حمل الله الذي يرفع خطية العالم" (يو 1: 29و36)، والرب لا يتهيب الحديث عن بذل نفسه من أجل حياة العالم وتسليمه للموت (مت 16: 21؛ 17: 22؛ 20: 18و19، مر 8: 31؛ 10: 33و34، لو 9: 22؛ 18: 32و33، يو 6: 51؛ 10: 11). ونبوَّات الأجيال يأتي أوانها لتتحقَّق: "كشاةٍ تُساق إلى الذبح وكنعجة صامتة أمام جازِّيها، فلم يفتح فاه... أما الرب فسُرَّ أن يسحقه بالحزن، إنْ جعل نفسه ذبيحة إثم." (إش 53: 7و10)

ولقد رسم الرب سر الإفخارستيا عشية موته ليستمر الصليب على مذبح العهد الجديد، وليتجدَّد حضور الذبيحة (غير الدموية، الناطقة السمائية) في القداس: "هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي الذي يُسفك عنكم" (لو 22: 20، 1كو 11: 25). فغاية القداس أن يستمر الصليب والقيامة ليمكن لنا أن نتحد بذبيحة الجلجثة ونخلص إلى التمام: "مقدسة ومملوءة مجداً هذه الذبيحة التي ذُبحت عن حياة العالم كله. آمين الليلويا" (قسمة أعياد الملائكة والقديسين)، وتقول قسمة سبت الفرح: "أتيتَ يا سيدنا وأنقذتنا بمعرفة صليبك الحقيقية، وأنعمت لنا بشجرة الحياة التي هي جسدك الإلهي ودمك الحقيقي".

(بقية المقال في العدد القادم)

دكتور جميل نجيب سليمان

(1) "إذ جرَّد الرياسات والسلاطين أشهرهم جهاراً ظافراً بهم فيه (في الصليب)." (كو 2: 15)
(2) "وطُعِن في جنبه بالحربة، فجرى منه دم وماء غفراناً لكل العالم وتخضَّب بهما جسده." (القسمة السريانية)
(3) كاتب "الرسالة إلى العبرانيين" بحسب التقليد الآبائي الكنسي.
(4) في صلوات الكنيسة وألحانها إشارات كثيرة عن كهنوت المسيح وامتيازه، فتقول الكلمات الأولى من قسمة صوم الرسل للابن: "أنت هو كلمة الآب، الإله الذي قبل الدهور، رئيس الكهنة الأعظم". وفي آحاد الصوم الكبير وجمعة ختام الصوم يُرتَّل لحن: megalou arxi`ereuc، ومعناه: "رئيس الكهنة الأعظم الطاهر إلى الأبد، قدوس الله. على طقس ملكي صادق الكامل، قدوس الله. المتجسِّد من الروح القدس ومن القديسة مريم البتول بسرٍّ عظيم، قدوس الذي لا يموت، ارحمنا". وفي قسمة سبت الفرح: "وصار سابقاً صائراً رئيس كهنة إلى الأبد على رتبة ملكي صادق".
(5) قابل مع "رئيس السلام" (إش 9: 6). وقد أتى المسيح فعلاً إلى العالم بالنعمة والحق (يو 1: 17)، وبهما صار البر والسلام.
(6) في أعياد الصليب ويوم الجمعة العظيمة من أسبوع الآلام يُرتَّل لحن: vai `etafenf، ومعناه: "هذا الذي أصعد ذاته ذبيحة مقبولة على الصليب عن خلاص جنسنا، فاشتمَّه أبوه الصالح وقت المساء على الجلجثة".