دير القديس العظيم أنبا مقار
الصفحة الرئيسية  مجلة مرقس الشهرية - محتويات العدد

دراسة الكتاب المقدس:

سفر العدد
سفر التيه والتجربة في البرية
ــ 30 ــ

ملخَّص خطة دراسة السفر:

أولاً: إعداد الجيل القديم ليرث أرض الموعد (1:1ــ10:10).
1 ــ تنظيم الجماعة تمهيداً للارتحال ( 1:1ــ49:4).
2 ــ تقديس الجماعة (1:5ــ10:10).
ثانياً: فشل الجيل القديم في أن يرث أرض الموعد (11:10ــ18:25).
1 ــ بدايات الفشل في الطريق إلى قادش (11:10ــ16:12).
2 ــ أزمة قادش برنيع (1:13ــ45:14).
3 ــ إخفاق إسرائيل المتواصل (1:15ــ22:19).
4 ــ حوادث في الطريق إلى موآب (1:20ــ18:25).
ثالثاً: إعداد الجيل الجديد لميراث أرض الموعد (1:26ــ13:36).
1 ــ إعادة تنظيم إسرائيل (1:26ــ23:27).
2 ــ شرائع للتقدمات والنذور (1:28ــ16:30).
3 ــ الانتصار على الشعوب في شرق الأردن وتقسيمها على
أسباط إسرائيل (1:31ــ13:36).


ثانياً: فشل الجيل القديم في أن يرث أرض الموعد (10: 11-25: 18)

4 - حوادث في الطريق إلى موآب (20: 1-25: 18)

د - سقطة إسرائيل في موآب (22: 1-25: 18)

بالاق ملك موآب يستدعي بلعام بن بعور ليلعن له بني إسرائيل (أصحاح 22):

+ "وارتحل بنو إسرائيل ونزلوا في عربات موآب من عَبْر أُردن أريحا." (عد 22: 1)

بعد انتصار بني إسرائيل على سيحون ملك الأموريين وعوج ملك باشان، واصلوا الارتحال شمالاً حتى نزلوا في عربات موآب مقابل أريحا في عبر الأردن.

وكلمة "عَبْر" تعني أيـًّا من ضفَّتي نهر الأردن، ولكنها تعني هنا الضفة الشرقية من الأردن المقابلة لأريحا الواقعة على الضفة الغربية. أما "عربات موآب" فهي تعني السهل الواسع الذي يُدعَى أيضاً "سهل موآب" الذي يمتد من نهر يبُّوق شمالاً إلى البحر الميت جنوباً على الضفة الشرقية من نهر الأردن، وكان تابعاً لمملكة موآب. وكان هذا الموقع هو آخر مراحل ارتحالاتهم في البرية، ومن هناك عبروا الأردن إلى كنعان على يد قائدهم يشوع بن نون بعد انتقال موسى النبي.

+ "ولما رأى بالاق بن صِفُّور جميع ما فعل إسرائيل بالأموريين، فزع موآب من الشعب جداً، لأنه كثير، وضجر موآب من قِبَل بني إسرائيل. فقال موآب لشيوخ مديان: الآن يلحس الجمهور كل ما حولنا كما يلحس الثور خُضرة الحقل. وكان بالاق بن صفُّور ملكاً لموآب في ذلك الزمان. فأرسل رسلاً إلى بلعام بن بعور إلى فتور التي على النهر في أرض بني شعبه ليدعوه قائلاً: هوذا شعب قد خرج من مصر. هوذا قد غَشَّى وجه الأرض، وهو مُقيمٌ مُقابلي. فالآن تعالَ والعن لي هذا الشعب، لأنه أعظم مني، لعلَّه يمكننا أن نكسره، فأطرده من الأرض، لأني عرفتُ أن الذي تُباركه مباركٌ، والذي تلعنه ملعون." (عد 22: 2-6)

رأى بالاق وشعبه انتصارات بني إسرائيل على سيحون ملك الأموريين وعوج ملك باشان، ففزع بالاق جداً واضطرب مع شعبه وخافوا أن يفعل بهم بنو إسرائيل مثلما فعلوا بغيرهم من الشعوب. فتكلَّم بالاق ملك موآب مع شيوخ مديان مُبْدياً تخوُّفه الشديد من زحف إسرائيل عليهم بجمهورهم الكبير "فيلحسون كل ما حولهم كما يلحس الثور خضرة الحقل"، ويأكلون الأخضر واليابس؛ وربما أراد بالاق أن يستحث شيوخ مديان لكي يتَّحدوا معاً قُبالة ذلك الخطر الداهم المقبل نحوهم. ولكنه عاد وفكَّر في وسيلة أخرى غير الحرب بعد أن سمع بانتصاراتهم الساحقة، لعلها تكون أنجع وأكثر تأثيراً عليهم، وهي أن يجلب عليهم لعنة الآلهة. فقد سمع عن نبي ذائع الصيت اسمه بلعام بن بعور.

وتختلف الآراء في أمر بلعام هذا: فقد دعاه يشوع "بلعام بن بعور العرَّاف" (يش 13: 22). ومعروف أن العرافة هي نوع من السحر، وقد حرَّمها الله في الكتاب المقدس قائلاً لبني إسرائيل: "ولا مَن يعرف عرافة ولا عائف ولا متفائل ولا ساحر، ولا مَن يَرقي رُقْية، ولا مَن يسأل جاناً أو تابعة، ولا من يستشير الموتى. لأن كل مَن يفعل ذلك مكروه عند الرب" (تث 18: 10-12). وموطن بلعام بن بعور مدينة فتور في بلاد ما بين النهرين. وهي مدينة تقع على الشاطئ الغربي لنهر الفرات.

ويُعلِّق على ذلك العلاَّمة أوريجانوس قائلاً:

[... بالاق يتغافل عن قوة جيوشه، ويضع كل أمله في بلعام لكي يواجه شعب الله بأسحار بدلاً من السهام. فهل شوهد قط ملك يتجاهل جيشه ويلجأ إلى كلمات وأسحار عرَّاف؟... الواقع أنه يوجد نتائج يستطيع أن يحصل عليها الإنسان بالكلمات، مما يستحيل عليه الحصول عليها بالطبيعة بجهود جسدية مهما كانت هذه الجهود. فلنأخذ مثلاً لذلك: فقد كان في مصر رُقاة وسحرة، فمَن كان في استطاعته بواسطة قواه الجسدية أن يُحوِّل العصا إلى ثعبان؟ لكن الرقاة والسحرة المصريين حوَّلوها، وكذلك موسى غيَّرها أولاً؛ إلاَّ أن ملك مصر كان يعلم أن سحرته يمكنهم أن يفعلوا ذلك بواسطة سحرهم، واعتقد أن موسى أيضاً قد عمل هذه المعجزات مستخدماً السحر وليس بواسطة القدرة الإلهية... وهكذا حدثت منافسة بين مَن يعمل المعجزات بقدرة الله ومَن يستعينون بالشياطين؛ إلاَّ أن القوة المضادة استطاعت أن تحوِّل العصا إلى ثعبان مثلما فعلت قدرة الله، لكن الثعبان الذي حصل بقدرة الله ابتلع وافترس كل الثعابين التي نشأت بقوة السحر... وقدرة الشياطين عجزت عن إعادة الثعبان إلى عصا كما كانت، بينما قدرة الله أعادت الشيء إلى أصله مُظهِرة سلطان رب الكون.

الرقاة المصريون توصَّلوا أيضاً إلى تغيير الماء إلى دم، لكنهم عجزوا مرة أخرى عن أن يُحوِّلوا الدم إلى ماء. وعلى عكس ذلك تماماً، فإن قدرة الله غيَّرت إلى دم ليس الماء فحسب، بل النهر كله، وبصلوات موسى أعادت المياه إلى حالتها الصافية الطبيعية.

السحرة المصريون أخرجوا أيضاً البعوض، لكنهم لم يتمكَّنوا من طرده؛ بينما موسى أخرج بعوضاً ثم أباده، لأن إلهنا يجرح ويعصب، يؤلم ويُجدِّد. أما القوة المضادة فيمكنها أن تعمل الشر، ولكنها لا تقدر أن تعيد الأشياء لحالتها الأولى...

ومن جهة بلعام، فقد كان مشهوراً بتعاويذه السحرية المؤذية، لأنه لم يكن في استطاعته أن يُبارِك، بل كانت كل تعاويذه للَّعنة... أما من جهة بالاق فقد أدرك أن إسرائيل كان يحصل على النصر على أعدائه بواسطة الصلاة وليس بواسطة الأسلحة، وبواسطة التضرُّعات أكثر من الحديد: فإنه بالصلاة تغلَّب إسرائيل على فرعون: "الرب يُقاتل عنكم وأنتم تصمتون" (خر 14: 14)، وفي المعركة ضد العمالقة أيضاً لم تكن الأسلحة هي وسيلتهم، بل صلوات موسى: "وكان إذا رفع موسى يده نحو الله كان عماليق ينهزم" (انظر خر 17: 11). فلابد أن بالاق ملك موآب قد سمع عن ذلك، حيث أنه قد كُتب: "يسمع الشعوب فيرتعدون، تأخذ الرعدة سكان فلسطين. حينئذ يندهش أمراء أدوم، أقوياء موآب تأخذهم الرجفة، يذوب جميع سكان كنعان" (خر 15: 14و15)...

ملك موآب، إذن، قد عرف أن شعب إسرائيل ينتصر بالصلوات ويحارب خصومه بالكلمات وليس بالسيف، لذلك فكَّر وقال في نفسه: ... عليَّ أنا أيضاً أن أحصل على تضرُّعات وكلمات بالشفاه يمكنها أن تتغلَّب على صلوات هؤلاء القوم...

لهذا السبب أرسل الملك مُسرعاً رسلاً إلى بلعام قائلاً: "فالآن تعالَ والعن لي هذا الشعب، لأنه أعظم مني لعلَّه يمكننا أن نكسره فأطرده من الأرض"... ثم يضيف بعد ذلك: "لأني عرفت أن الذي تباركه مبارك، والذي تلعنه ملعون"! أعتقد أن الملك لا يعرف إن كان كل الذين قد باركهم بلعام صاروا مباركين، بل يبدو لي أنه يقول هذا لكي يجامله ويلاطفه قاصداً تعظيم فنـِّه، لأن السحر لا يعرف أن يُبارِك، لأن الشياطين (التي يستخدمها السحرة) لا تعرف أن تفعل الخير...](1)

بلعام يرفض دعوة بالاق الأولى:

+ "فانطلق شيوخ موآب وشيوخ مديان وحُلْوان العِرَافة في أيديهم وأتوا إلى بلعام وكلَّموه بكلام بالاق. فقال لهم: بـِيتوا هنا الليلة فأردَّ عليكم جواباً كما يُكلِّمني الرب، فمكث رؤساء موآب عند بلعام. فأتى الله إلى بلعام وقال: مَن هم هؤلاء الرجال الذين عندك؟ فقال بلعام لله: بالاق بن صفُّور ملك موآب قد أرسل إليَّ يقول: هوذا الشعب الخارج من مصر قد غشَّى وجه الأرض، تعالَ الآن العن لي إيـَّاه لعلِّي أقدر أن أُحاربه وأطرده. فقال الله لبلعام: لا تذهب معهم ولا تلعن الشعب لأنه مبارك. فقام بلعام صباحاً وقال لرؤساء بالاق: انطلقوا إلى أرضكم، لأن الرب أَبَى أن يسمح لي بالذهاب معكم. فقام رؤساء موآب وأتوا إلى بالاق وقالوا: أَبَى بلعام أن يأتي معنا." (عد 22: 7-14)

اتفق شيوخ موآب مع شيوخ مديان على السفر إلى بلعام ليُبلِّغوه برسالة بالاق. وكانوا يحملون معهم "حلوان العرافة"، أي أجره ومكافأته عن عرافته.

ويُعلِّق العلاَّمة أوريجانوس على ذلك قائلاً:

[... توجد أشياء يدعوها الكتاب المقدس "حلوان" العرافة، وتقاليد الوثنيين تدعوها "مشاجب" (أي هبات مكرَّسة لخدمة العرافة)... الكتاب المقدس يذكر أن للأنبياء أداة تُسمَّى "أفود"، وهو ملبس يلبسه الأنبياء حينما يتنبَّأون. لكن في الكتب الإلهية النبوَّة شيء، والعرافة شيء آخر... العرافة، إذن، مرفوضة تماماً لأنها تُمارَس - كما قلنا - بعمل ووساطة الشياطين.

وبلعام كان يقبل حلوان العرافة، ومن عادة الشياطين أن تأتي إليه. ولكن هوذا الشياطين (في هذه المرة) تهرب منه والله هو الذي يحضر. لهذا السبب نراه يقول: "أردّ عليكم جواباً كما يُكلِّمني الرب"، حيث إنه لم يَعُدْ يرى تلك الشياطين التي كانت عادةً تطيعه، بل الله بنفسه هو الذي أتى ليتقابل مع بلعام، ليس لأنه كان مستحقاً لزيارته، ولكن لكي تهرب الأرواح التي كانت من عادتها أن تحضر لكي تجلب معها اللعنة وأذى السحر. فقد كان الله ساهراً على شعبه في تلك اللحظة... وقال الله لبلعام: "لا تذهب معهم ولا تلعن الشعب لأنه مبارك".](2)

ولكن بلعام لم يكن أميناً في تبليغ رسالة الله للوفد القادم من عند بالاق. فقد أخبرهم بأن الرب لم يسمح له بالذهاب معهم، وأخفى عنهم أن الرب نهاه أن يلعنهم لأنهم شعب مبارك من قِبَل الرب. وعدم أمانة بلعام في إبلاغ رسالة الله كاملةً يدلُّ على رغبته في ابتزاز بالاق ومساومته، لكي ينال منه أكبر قدر ممكن من الأجر. وهكذا رجع رسل الملك إلى وطنهم وأبلغوا الملك بما حدث لهم مع بلعام، وأنه أَبَى أن يأتي معهم، مما جعل بالاق يزداد تحرُّقاً على استدعاء بلعام بأي ثمن، إذ قد وضع كل أمله في قدرة بلعام بعرافته على التغلُّب على بني إسرائيل.

بالاق يُرسل وفداً أعظم من الأول لاستدعاء بلعام، وذهابه معهم:

+ "فعاد بالاق وأرسل أيضاً رؤساء أكثر وأعظم من أولئك. فأتوا إلى بلعام وقالوا له: هكذا قال بالاق بن صفُّور، لا تمتنع من الإتيان إليَّ، لأني أُكرمك إكراماً عظيماً، وكل ما تقول لي أفعله. فتعالَ الآن العن لي هذا الشعب. فأجاب بلعام وقال لعبيد بالاق: ولو أعطاني بالاق ملء بيته فضة وذهباً لا أقدر أن أتجاوز قول الرب إلهي لأعمل صغيراً أو كبيراً. فالآن امكثوا هنا أنتم أيضاً هذه الليلة لأعلم ماذا يعود الرب يُكلِّمني به. فأتى الله إلى بلعام ليلاً وقال له: إن أتى الرجال ليدعوك، فقُم اذهب معهم. إنما تعمل الأمر الذي أُكلِّمك به فقط." (عد 22: 15-20)

فهم بالاق تمنُّع بلعام عن حضوره مع الوفد الأول بأنه قد استصغر حلوان العرافة الذي أرسله بالاق مع عبيده، لذلك اختار من أتباعه رؤساء أعظم من الأولين وأكثر عدداً وحنكةً في إقناعه بالمجيء معهم، مع وعْدٍ له بأنه مستعد لإكرامه إكراماً عظيماً مهما كان طلبه منه.

ولكن بلعام أظهر تصميمه على عدم تجاوز أمر الرب له ليعمل أي شيء مهما صغر أو كبر، حتى ولو أعطاه بالاق ملء بيته فضةً وذهباً. إلاَّ أنه كان يُظهِر خلاف ما يُبطن، فقد كان يستحوذ على قلبه حب المال، وأغراه العرض السخي الذي عرضه عليه رجال بالاق. فلو كان قلبه مستقيماً لحسم الأمر معهم، وأعلمهم أنه لا يقبل الذهاب معهم بأي حال من الأحوال، لأن الرب قد سبق وأمر بألاَّ يذهب مع رسل بالاق ولا يلعن الشعب لأنه مبارك. ولكنه بسبب عدم استقامة قلبه طلب منهم أن يمكثوا معه تلك الليلة ليسأل الرب ثانيةً لعل الرب يرجع في رأيه ويحقِّق شهوته في الذهاب معهم ليلعن الشعب ويأخذ ما سيغدق عليه بالاق من عطايا ومكافآت.

وإذ رأى الرب نية بلعام ورغبته في الذهاب إلى بالاق، أتى إليه في الحلم وسمح له بالذهاب معهم، ولكنه حذَّره بألاَّ يعمل إلاَّ ما يُكلِّمه به فقط.

ولا شكَّ أن الرب لم يكن راضياً على تصرُّف بلعام، ولذلك فقد أسلمه إلى هوى نفسه، وحقَّق له رغبته في الذهاب مع رجال بالاق، لأن الله الذي خلق الإنسان كائناً متميِّزاً بالعقل وحرية الإرادة، لابد أن يترك له المجال لاستخدام عقله وحريته، طالما سبق الله وأعلن له مشيئته، ولكنه ما زال ميَّالاً إلى عدم الأخذ بها؛ إلاَّ أنه أمام نوايا بلعام المنحرفة ورغبته الجامحة نحو محبة المال والمكسب المادي، فالله قادر أن يُسخِّره لينطق بالبركة لشعبه، بل ويتنبَّأ عن أمور مستقبلة.

(يتبع)


اقرأ في موسم القيامة

للأب متى المسكين

القيامة والصعود 9 جنيهات

القيامة والخليقة الجديدة 75 قرشاً

القيامة والرجاء الحي 75 قرشاً

قيامة المسيح هي فرح البشرية الدائم 35 قرشاً

أين شوكتك يا موت؟ 75 قرشاً

مع المسيح في آلامه وموته وقيامته 175 قرشاً

لأعرفه وقوة قيامته 40 قرشاً

مقالات عن القيامة (منفصلة)

- القيامة 50 قرشاً

- المسيح قام .. حقًّا قام 50 قرشاً

- وأراهم نفسه حيًّا ببراهين كثيرة 60 قرشاً

- القيامة والمصالحة 35 قرشاً

- القيامة والفداء في المفهوم الأرثوذكسي 35 قرشاً

- قيامة المسيح هي فرح البشرية الدائم 35 قرشاً


(1) Hom. 13 sur Nb (PG 12,670-673).
(2) Ibid.