دير القديس العظيم أنبا مقار
الصفحة الرئيسية  مجلة مرقس الشهرية - محتويات العدد

بحث كتابي آبائي:

”قد لبستم المسيح“
 




«لأن كلَّكم الذين اعتمدتم بالمسيح قد لبستم المسيح.»
(غل 3: 27)

 

شخص المسيح وحياته ممتدة فينا:

يمتاز إيماننا المسيحي بأنه ليس مجرد إيمان بتعاليم مكتوبة أو عقائد لاهوتية نحشو بها أذهاننا؛ بل هو إيمان بشخص المسيح الحي فينا! عندما هُدِّدت إحدى الشابات بترك إيمانها المسيحي قالت: ”إن إيماني ليس هو بديانة اسمها المسيحية، بل إن المسيح شخصياً هو حياتي وسعادتي، وبدونه لا يمكنني أن أعيش“! وهذا ما قاله رب المجد لنا: «اثبتوا فيَّ وأنا فيكم... أنا الكرمة وأنتم الأغصان. الذي يثبت فيَّ وأنا فيه هذا يأتي بثمر كثير، لأنكم بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئاً» (يو 15: 4و5). وعندما أراد الرسول بولس أن يكشف لنا «السر المكتوم منذ الدهور»، قال إنه «قد أُظهِرَ لقديسيه، الذين أراد الله أن يُعرِّفهم ما هو غِنَى مجد هذا السر في الأُمم، الذي هو المسيح فيكم رجاء المجد.» (كو 1: 26و27)

والآيات التي قصد الله أن يُرسلها للفيلسوف أوغسطينوس في الوقت المناسب لكي تستقر في أعماقه فيتوب ويُصبح قديساً مشهوراً، هي كلمات الرسول بولس: «هذا وإنكم عارفون الوقت، أنها الآن ساعة لنستيقظ من النوم... فلنخلع أعمال الظلمة ونلبس أسلحة النور... بل البسوا الرب يسوع المسيح، ولا تصنعوا تدبيراً للجسد لأجل الشهوات» (رو 13: 11-14). وهو ما تحقَّق منه هذا الرسول فقال: «لأن كلَّكم الذين اعتمدتم بالمسيح قد لبستم المسيح» (غل 3: 27). بل إنه تحقَّق من ذلك في نفسه بقوله: «أحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيَّ.» (غل 2: 20)

ولا يمكن لإنسان أن يلبس المسيح إلاَّ إذا خلع إنسانه العتيق: «أما أنتم فلم تتعلَّموا المسيح هكذا، إن كنتم قد سمعتموه... أن تخلعوا من جهة التصرُّف السابق الإنسان العتيق الفاسد بحسب شهوات الغرور، وتتجدَّدوا بروح ذهنكم، وتلبسوا الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله في البر وقداسة الحق» (أف 4: 20-24)، «إذ خلعتم الإنسان العتيق مع أعماله، ولبستم الجديد الذي يتجدَّد للمعرفة حسب صورة خالقه» (كو 3: 9و10). ولذلك يتعرى المُعمَّد قبل دخوله جرن المعمودية، ثم يلبس ثوباً أبيض جديداً. وإن كنا عندما اعتمدنا قد لبسنا الجديد، فما هو إنساننا الجديد إلاَّ المسيح ذاته تبارك اسمه؟!

يرى الله جميع المؤمنين الحقيقيين في ابنه الوحيد كأعضاء في جسده. ونستخلص من تعاليم الرسول بولس أنه: ”في المسيح نُشكِّل نحن جميعاً جسداً واحداً سرِّيـًّا، مسيحاً واحداً“. كما أننا نستخلص من إنجيل القديس يوحنا أنه ”بسُكنانا في المسيح، وهو فينا، نحيا به كما أنه هو حيٌّ بالآب، ونحن واحدٌ فيه كما أنه هو واحدٌ مع الآب“! ويمكننا دمج هاتين الحقيقتين هكذا: ”المسيحيون واحدٌ هم، وهم يحيون بالاتحاد بالمسيح وبحياته التي تنسكب من الله الآب، والتي يُشاركونه فيها بالنعمة“!

وقد بدأت حياة المسيح تمتد في أعضاء جسده ابتداءً من حياة وخدمة تلاميذه، كما يتضح من سفر الأعمال بكل جلاء. فقد رأينا الرسولين بطرس ويوحنا يُقيمان الأعرج (أع 3)، والرسول بطرس يُقيم طابيثا من الموت (أع 9). وقد تلقَّى بولس الرسول رؤيا في بداية خدمته التبشيرية، وكذلك القديس يوحنا في نهاية خدمته: إحداهما في الطريق إلى دمشق، والثانية في جزيرة بطمس. وكل من هاتين الرؤيتين تشير إلى وحدتنا مع المسيح. وكلٌّ من الرسولين عاين المخلِّص حاضراً في إخوته. وقد شعر كل منهما في رؤيته أنه يوجد اتحاد فائق على الطبيعة بين المسيح ونفوسنا، اتحاد يجعله ساكناً فينا (”عمانوئيل الذي تفسيره "الله معنا"“) ونحن فيه لدرجة أن حياتنا صارت امتداداً لحياته وملئه «مِن ملئه نحن جميعاً أخذنا» (يو 1: 16)، ولدرجة أن الرأس والأعضاء، الكرمة والأغصان، يُشكِّلان كائناً حيًّا واحداً مفعماً بالحيوية بالحياة التي تنسكب من الآب في الكلمة المتجسِّد. وتربط كلٌّ من الرؤيتين هذه الحقيقة الرئيسية بتطبيقات عملية عديدة. والإفخارستيا إنما هي العلامة المحسوسة لهذه الحقيقة، وينبغي أن تكون المحبة والصبر والتجديد الكامل للنفس هي ثمارها.

في رؤيا القديس بولس سمع الرب يسوع من السماء يقول: «لماذا تضطهدني»؟ فالرب لا زال يتألَّم في أعضائه، مما جعله يقول بعد ذلك: «الآن أفرح في آلامي لأجلكم، وأُكمِّل نقائص شدائد المسيح في جسمي لأجل جسده الذي هو الكنيسة» (كو 1: 24). عجيبةٌ هذه الآية التي تشير إلى أن آلام المسيح لا زالت تكتمل فينا في آلامنا من أجله! والقديس يوحنا سمع: «مَن يغلب... أعطيه كوكب الصبح («أنا... كوكب الصُّبح المنير» رؤ 22: 16)... مَن يغلب فسأجعله عموداً في هيكل إلهي» (رؤ 2: 26-28؛ 3: 12)، كما أنه رأى «المدينة المقدسة أورشليم الجديدة كعروس مزيَّّنة لرجلها، وسمع: هوذا مسكن الله مع الناس» (رؤ 21: 2و3). كما أنه في رؤيته للمسيح متجلِّياً على الجبل، لَمَّا طلب بطرس أن يصنع ثلاث مظال لكل من الرب وموسى وإيليا «إذا سحابة نيِّرة ظلَّلتهم» (مت 17: 5)، أو قُلْ إنها كنيسة واحدة قد جمعتنا مع الرب في جسده الواحد! فالكنيسة ليست مجرد جسد مناضل كما وصفها الرسول بولس الذي تعب أكثر من بقية الرسل؛ بل إنها حقيقة فائقة تنتمي إلى السماء ويمتد فيها مجد الرب إلى شعبه! وكما أن المسيح إله وإنسان معاً؛ هكذا جسده السرِّي إنما هو بشري وإلهي بآنٍ واحد!

يقول القديس أثناسيوس:

[عندما قال الرسول بطرس: «فليعلم يقيناً جميع بيت إسرائيل أن الله جعل يسوع هذا الذي صلبتموه أنتم ربًّا ومسيحاً» (أع 2: 36)... كان يقصد أنه باتخاذه جسداً، الذي هو الكنيسة كلها، قد نالت (الكنيسة) فيه السيادة والمُلك من بعد صلبه.

ويشير الإنجيل إلى أوصاف للمسيح الذي لبسناه في المعمودية، مما يُشعرنا أن أجسادنا؛ بل كياننا كله قد صار هو المسيح. فالرسول يقول: «أما نحن فلنا فكر المسيح» (1كو 2: 16)، «هكذا نحن الكثيرين جسدٌ واحدٌ في المسيح» (رو 12: 5)، «لأننا أعضاء جسمه، من لحمه ومن عظامه» (أف 5: 30)، «ألستم تعلمون أن أجسادكم هي أعضاء المسيح؟ أفآخذ أعضاء المسيح وأجعلها أعضاء زانية» (1كو 6: 15)؟ «أمـا تعلمون أنكـم هيكل الله وروح الله يسكـن فيكم؟... لأن هيكل الله مقدَّسٌ الذي أنتم هـو» (1كو 3: 16و17). وإن كان المسيح هو ”النور الحقيقي“ (يو 1: 9)، فقد وصفنا نحن بقوله: «أنتم نور العالم... فليُضئ نوركم هكذا قدَّام الناس» (مت 5: 14-16)، «لأن الله الذي قال أن يُشرق نورٌ من ظلمة هو الذي أشرق في قلوبنا لإنارة معرفة مجد الله في وجه يسوع المسيح. ولكن لنا هذا الكنز في أوانٍ خزفية... حاملين في الجسد كل حين إماتة الرب يسوع لكي تظهر حياة يسوع أيضاً في جسدنا» (2كو 4: 6-10). وهكذا متنا مع المسيح: «إن كان واحدٌ قد مات لأجل الجميع، فالجميع إذاً ماتوا... إذاً، إن كان أحدٌ في المسيح فهو خليقة جديدة.» (2كو 5: 14،17)

وفي صلاة الرب الأخيرة نجد أن حبه لنا جعله يطلب بكل اشتياق من الآب أن نكون معه واحداً كما أنه هو والآب واحدٌ: «أسأل... ليكون الجميع واحداً، كما أنك أنت أيها الآب فيَّ وأنا فيك، ليكونوا هم أيضاً واحداً فينا... أنا فيهم وأنت فيَّ ليكونوا مُكمَّلين إلى واحد... وأكون أنا فيهم» (يو 17: 20-26). وبهذا المعنى قال كاتب سفر النشيد: «حبيبـي لي وأنا له» (نش 2: 16). وهو الذي يعمل فينا وبواسطتنا كل صلاح: «الله هو العامل فيكم أن تريدوا وأن تعملوا من أجل المسرة.» (في 2: 13)

ولكن يتوقف كون الله هو الكل في الكل على خضوعنا له في المسيح. وهنا يقول العلاَّمة أوريجانوس:

[حيث إننا نحن جميعاً جسده ونُسمَّى أعضاءه، فطالما أن بعضنا لم يخضع خضوعاً كاملاً لله، فلا يُقال عن الابن إنه خاضع للآب. ولكن عندما يتمِّم عمله ويأتي بخليقته كلها إلى الكمال الأسمى، فحينئذ يُقال عنه إنه خاضعٌ في الذين أخضعهم للآب، والذين فيهم يكون قد أكمل العمل الذي عيَّنه له الآب، وذلك «كي يكون الله الكل في الكل.» (1كو 15: 28)]

أحداث حياة المسيح والأعياد السيِّدية:

لقد نبَّهنا القديس غريغوريوس النزينزي مراراً أن أحداث حياة المسيح لا زالت ممتدة معنا بلا انقطاع، وأن أعيادنا المسيحية ليست مجرد ذكريات فيقول:

[أيَّة أعياد أجدها في كل سرٍّ من أسرار المسيح! فهدفها الوحيد ومجال مفهومها هو تكميل حياتي وتجديدي ورجوعي إلى براءة آدم الأول. فاحتفل أنت، إذن، بميلاد المسيح الذي حررك من قيود ميلادك (الجسدي). أكرم بيت لحم الصغيرة التي جاءت بك إلى الفردوس، واسجد أمام المهد الذي بواسطته عندما تجرَّدت من العقل (الذي لا يمكن أن يُدرك سر التجسُّد) أطعمك الكلمة (الإلهي)... أسرع مع النجم بصحبة المجوس وقدِّم عطاياك: ذهباً ولباناً ومُرًّا للملك الإله والإنسان الذي مات من أجلك، ورتِّل التمجيدات لله مع الرعاة، وانشد التسبيح مع الملائكة، ورافق رؤساء الملائكة في ألحانهم.]

إذن، فعيد الميلاد ليس هو مجرد ذكرى؛ بل إنه يُخبرنا أن ولادة الرب تتم يومياً بداخلنا، فالقديس نفسه يستطرد قائلاً:

[حتى الآن الملائكة فَرِحة، والرعاة يفزعون من النور الباهر، وحتى الآن النجم آتٍ من الشرق نحو النور العظيم الذي لا يُدنَى منه، وحتى الآن يسجد المجوس مقدِّمين هداياهم.]

وهكذا فإن التجسُّد ليس مجرد حدث وهب لنا المسيح وجدَّد وجه الأرض؛ بل إنه أيضاً حدث لحياتنا الداخلية. إنه يصل إلى أعماق نفوسنا. فالكلمة بتجسُّده مسحنى بمسحة اللاهوت. وبذلك فهو يكشف عن نفس تعيش مع المسيح في داخلها بالإيمان. فأية أعياد هذه التي نجدها في كل حدث من أحداث حياته، وأيُّ سر عجيب نجده في حياتنا الداخلية! وهو يُوضِّح ذلك لتلاميذه بقوله: «أنتم فيَّ وأنا فيكم.» (يو 14: 20)

والمسيح في معموديته يغمر آدم العتيق ويدفنه بالكامل في المياه المطهِّرة. وعندما يخرج من الماء يُقيم العالم كله في ذاته ويُعاين فتح السماء مرةً أخرى بعد أن أغلقها آدم لنفسه ولنسله. وبذلك يسمع أعضاء جسده صوت الآب يشهد لهم في ابنه أنهم ”أبناؤه الأحبَّاء الذين سُرَّ بهم“!

ويقول أيضاً القديس غريغوريوس عن الاقتداء بالمسيح:

[وكتلميذ للمسيح اسلك بلا لوم على مدى السنين (متمسِّكاً) بفضائل حياة الرب. تطهَّر واختتن... علِّم في الهيكل، واطرد الباعة والمشترين، وإن لزم الأمر فلتُرجَم. إنك ستفلت من الحجارة وستعبر في وسطها مثل الرب لأن الكلمة لا يمكن أن تُرجَم. وسيوحي صمتك بتوقير أعظم من أحاديث الآخرين المسهبة.]

والمسيح لا يزال يتألم يومياً بسبب خطايانا، كما أن آلامه لا زالت فعَّالة فينا، وهي تتجدَّد على الدوام إذ نتألم معه لكي نتمجَّد معه. وكما يقول القديس نفسه:

[انظروا أية آلام لا زال يُعانيها كلمة الله حتى الآن! فالبعض يُكرِّمون لاهوته، ولكن الآخرين يحتقرون ناسوته.]

كما أن هذا القديس يُظهر في حياة المسيح نموذجاً لحياتنا، فيقول:

[وأخيراً، فلتُصلَب مع المسيح وليُحكَم عليك بالموت معه، ولتُدفن معه لكي تقوم معه لتتمجَّد معه، ولكي تملك معه.]

ويُداوم الرب على توحيد نفسه أكثر فأكثر بحياة الناس. وهكذا فإن المناسبات والأعياد السيدية إنما هي أكثر من كونها مجرد تذكارات لأحداث في الماضي، إنها احتفالات بحقائق حاضرة، أو قُلْ إنها حقيقة واحدة هي: حياة المسيح ممتدة في حياتنا. فقيامة الرب التي نحتفل بها كل عام إنما هي لنا نحن الآن حيث يقول القديس غريغوريوس أيضاً:

[بالأمس عُلِّقتُ على الصليب مع المسيح، واليوم تمجَّدتُ معه. بالأمس كنتُ أموت معه، واليوم عُدتُ إلى الحياة معه. بالأمس دُفنتُ معه، واليوم أقوم معه. فلْنَصِر مثل المسيح طالما أنه صار مثلنا. فلْنَصِر آلهة لأجله حيث إنه صار إنساناً لأجلنا.]

وهكذا توحي لنا كلمة الله بخصوص بقية الأعياد، فنقول عن صعوده مثلاً كما قال الرسول بولس وهو يربط بين القيامة والصعود: «ونحن أمواتٌ بالخطايا أحيانا مع المسيح... وأقامنا معه، وأجلسنا معه في السماويات في المسيح.» (أف 2: 5، 6)

(يتبع)