|
|
|
تمهيد: يتوافق الآبـاء في شرحهم لمعنى معرفة الله - بالنسبة للإنسان - على إدراجها تحت مُسمَّيَيْن رئيسيَّيْن، هما:
? الثيئولوجيَّا: أي معرفة الله في ذاته وجوهره الإلهي.
? الإيكونوميَّا: أي معرفة الله في تدبيراته الخلاصية الظاهرة والمُعْلَنة في سرِّ تجسُّده وحياته على الأرض.
وعن المعرفة الأولى، نقول: إنَّ هـذا الأمر - أي معرفة الله في ذاته الإلهيَّة - يبقى أمراً فائقاً على قدرات الخليقة كلها. وإن كان الله قد سَمَحَ - أحياناً - ببعض ومضاتٍ منه، لكن تبقى هذه المعرفة سرّاً لا يُنطَق به، يصعُب استعلانه والتعبير عنه للكثيرين. وذلك على مثال ترائيه لإشعياء النبي وهو جالسٌ على عرشه الشاروبيمي (إش 6). وكما رآه بولس الرسول حينما أُصعِدَ للسماء الثالثة ليرى أموراً تَعذَّر عليه الإفصاح عن مكنوناتها وأسرارها، فقال عنها: «لاَ يَسُوغُ لإِنْسَانٍ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهَا» (2كو 12: 4)؛ ذلك لأننا الآن لسنا مؤهَّلين بعد لهذه المعرفة، أن نراه كما هو!
أمَّا عن المعرفة الثانية لله - من جهتنا نحن البشر – فيُمكننا القول إنها قد أُتيحت لنا، وأُعطينا نعمة حَلِّ ألغازها ورموزها، من خلال شخص ربنا يسوع المسيح وظهوره بالجسد (أي تجسُّده) من أجلنا؛ إذ صارت حياته وكلُّ تدبيراته الخلاصية التي أَكْمَلها بالجسد أمام عيوننا، استعلاناً ملموساً ومرئيّاً ومسموعاً يشهد عن كونه الإله الظاهر في الجسد، والرسم والمثال الحي المُعبِّر عن جوهر الله الآب غير المنظور، وصورة لبهاء مجده وسُلطانه؛ حيث قال الرب يسوع عن نفسه: «اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى الآبَ» (يو 14: 9)، وأيضاً الرسول بولس يقول عنه: «فَإِنَّهُ فِيهِ يَحِلُّ كُلُّ مِلْءِ اللاَّهُوتِ جَسَدِيًّا» (كو 2: 9). إذن، قد صار التجسُّد باباً لاستعلان الآب لنا في شخص ابنه، وحَلاًّ إلهيّاً لإمكان إعادة الأُلفة بين الخالق وخليقته، بواسطة مشاركة ابن الله لنا في اللحم والدم بالروح القدس. ومِن قِبَل اتِّحادنا بجسد ودم ربنا يسوع المسيح مُخلِّصنا، ننال نعمة البنوَّة، ونصير أبناء وورثة لملكوته الأبدي.
ما بين سرِّ التجسُّد وسرِّ الإفخارستيا:
بنظرة روحيَّة هادئة، يمكننا أن نُدرك أنَّ العنصر الفاعل في كلٍّ من سرِّ التجسُّد (أي سر التقوى) وسرِّ الإفخارستيا، هو الروح القدس. فهو بنعمته وقوَّته مَنْ أتمَّ تدبير التجسُّد وحَبَل العذراء وولادتها للكلمة المُتجسِّد منها، وهو أيضاً مَن يُتمِّم كل يوم عملية التحوُّل الحقيقي (بالإيمان) للخبز والخمر الموضوعَيْن على المذبح إلى جسد ودم المسيح الحقيقيَّيْن، اللَّذين باتِّحادنا بهما - في سرِّ الإفخارستيَّا - ننال الحياة والخلاص.
ففي سرِّ التجسُّد، حلَّ الروح القدس على العذراء مريم، المُعتَبَرة - في الليتورجيَّا - عجينة البشرية، وقدَّسها وأَخَذَ منها جسداً لابن الله؛ فصار الربُّ مولوداً من امرأة حسب الجسد، مع كونه ابنَ العَليِّ بطبيعته.
وفي سرِّ الإفخارستيَّا، يقوم الروح القدس أيضاً، مِن قِبَل حلوله على الخبز والخمر، بتحويلهما إلى جسد الرب ودمه، إتماماً لِمَا سبق أن بَدَأَه مع العذراء مريم في تجسُّد ابن الله؛ إذ أنَّ ابن الله - في تجسُّده - أَخَذَ الذي لنا وأعطانا الذي له، فصرنا مُتمتِّعين بحضوره الحقيقي وشركتنا معه في الجسد والدم الأقدسين، اللَّذين يُعطيان الحياة لكلِّ مَن يتقدَّم إليهما بإيمانٍ واستحقاق.
وتذخر صلوات التحوُّل وحلول الروح القدس، التي يُردِّدها الكاهن في القداس الإلهي على الذبيحة الإلهيَّة، بتعبيرات وكلمات البشارة التي بشَّر بها الملاك جبرائيل سيدتنا العذراء مريم، بحلول الروح القدس عليها وتقديسها، وتجسُّد ابن الله في رَحِمها.
وبنفس هذا الإيمان عينه، الذي قَبِلَت به العذراء بشارة التجسُّد الإلهي، فنالت نعمة هذه العطية؛ به أيضاً يتمُّ تحويل الخبز والخمر الموضوعين على المذبح، إلى جسد الرب ودمه، بسرٍّ عظيم لا يُنطَق به، لكلِّ مَن يؤمن.
«اصنعوا هذا لذِكْري»
(لو 22: 19؛ 1كو 11: 24):
وَعَد الربُّ تلاميذَه القدِّيسين - قبل صعوده إلى السماء - قائلاً: «هَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْرِ» (مت 28: 20). وها نحن نرى ملامح تحقيق هذا الوعد الإلهي كلَّ يوم وكلَّ مرَّة تُقدَّم فيها هذه الذبيحة غير الدمويَّة على المذبح، وذلك بقوَّة فعل هذا الأَمر الإلهي الذي نطقه الرب يسوع لتلاميذه: «اِصْنَعُوا هذَا لِذِكْرِي»؛ حيث يتمُّ هذا التحوُّل - بفعل الروح القدس - كشهادة حيَّة ومُدرَكة بالإيمان، قائمة ومُمتدَّة بقدر حقيقة امتداد وفاعلية سرِّ التجسُّد نفسه؛ مؤكِّدة على استمرارية تدبير الخلاص الذي أكمله الرب يسوع إبَّان تجسُّده الطاهر، في هذا السرِّ (سر الإفخارستيا)، وفي كلِّ تدابير الفداء والموت والقيامة والولادة الجديدة وسُكنَى الروح القدس فينا، بل وميراث الحياة الأبدية لكلِّ مَن يؤمن به ويشترك في هذه المائدة السمائيَّة.
لقد صار تعبير: «اِصْنَعُوا هذَا لِذِكْرِي» يُمثِّل قوَّة الحضور الفعلي والدائم، بكلِّ الزَّخَم والمفاعيل التي تمَّت يوم تأسيسه الأول، في ليلة عشاء الرب الأخير مع تلاميذه يوم خميس العهد.
وصار هذا التعبير بمثابة استحضار حقيقي لكلِّ النِّعَم والعطايا التي وُهِبَت للتلاميذ وللبشرية، وآلت إلينا نحن أيضاً مثلهم كما في ذلك اليوم عينه، وبُرهاناً على ديمومة هذا الفعل الخلاصي لنا - كما للرسل الأطهار - وامتداداً لكلِّ آثار وبركات سرِّ التجسُّد حتى نهاية الدهور. وصارت لنا وليمة الإفخارستيا المقدَّسة التي نُمارسها اليوم، خَتماً على صِدْق وَعْد الرب لتلاميذه، بحضوره الدائم معهم كل حين وإلى مدى الأيام؛ وذلك بنعمة روحه القدوس الفاعل في هذا السرِّ الفائق للعقول.
وعلى هذا لم يَعُدْ فَهم تعبير: «اِصْنَعُوا هذَا لِذِكْرِي» يقف عند حَدِّ اعتباره تذكاراً زمنيّاً لحدثٍ وقع في الماضي مرَّةً واحدة؛ بل هو وَعْدٌ صادقٌ بدوام امتداده وحضوره وفاعليته كل الأيام، بل وفي كلِّ مرَّةٍ يُقدَّم فيها، حسب تعبير القدَّاس الإلهي. كما يحمل في طيَّاته تأكيداً منطوقاً بفم الرب يسوع نفسه، الذي دعانا لهذه الشركة المقدَّسة في جسده ودمه الأقدسين، وحذَّرنا من عدم الشركة فيهما التي يمكن أن تحرمنا الحياة الأبدية، داعماً لإيماننا بأنَّ هذا الخبز وهذه الخمر قد صارا بالحقِّ جسده ودمه الأقدسين، بفعل الروح القدس الحال عليهما، كما حلَّ على العذراء أولاً عند تجسُّد ابن الله، الأمر الذي جعل بولس الرسول يهتف قائلاً: «... اللهُ ظَهَرَ فِي الْجَسَدِ» (1تي 3: 16).
سرُّ الإفخارستيا وسرُّ الصليب:
كما ذَكَرنا سابقاً، إنَّ الفرق بين سرَّي التجسُّد والإفخارستيَّا، هو في المظهر فقط، حيث إنَّ القوَّة الفاعلة في كِلا السرَّين هو الروح القدس بذاته. كذلك فإنَّ الإيمان بعمل الروح القدس - في هذين السرَّين - هو الذي يُعطي الإنسان أن يكون شريكاً فيهما، ويتمتَّع ببركاتهما، وينال ثمار الخلاص الكائنة فيهما. وبنفس هذه الرؤية الإيمانية نقول: إنَّ سرَّ الصليب هو نفسه سرُّ الإفخارستيَّا؛ ذلك لأن الرب يسوع، إن كان قد أعطانا في سرِّ الإفخارستيا جسده ودمه - سرّاً - لنحيا بهما ونرث الحياة الأبدية؛ فإنه في سرِّ الصليب قد أسلم الرب نفسه جهاراً، وأطاع حتى الموت، موت الصليب، مُقدِّماً جسده ودمه علانية ذبيحة لأجل العالم كله، ليفدينا بموته، ويُقيمنا بقيامته المجيدة، ويؤهِّلنا لميراث الحياة الأبدية.
كيف نتهيَّأ لسرِّ الإفخارستيا؟
توجد أهمية كبيرة لموضوع الاستعداد والتهيئة للنفس قبل التقدُّم لسرِّ الإفخارستيَّا. وسنُركِّز هنا على أهم القواعد التي علَّمها الرب يسوع لتلاميذه ليسلكوا فيها لتهيئة أنفسهم لتقبُّل هذا السر العظيم، وذلك بمُمارستها قدَّامهم حتى ترسخ هذه القواعد والأُسس في قلوبهم وحياتهم، وذلك قبل بَذْله ذاته فعليّاً على الصليب.
أولاً: غَسْل القدمين (التوبة):
هذه حركة رأسيَّة تتمُّ ما بين الإنسان والله، وتتمثَّل في التقدُّم بروح التوبة والخضوع والانسكاب أمام الله، إذ أنه بدون توبة وانسحاق قلب واتِّضاع كامل أمام العَليِّ، لن يستطيع أحدٌ ان يتراءى أو يتأهَّل لهذا السرِّ العظيم. فالرب يسوع، وهو الرب والسيِّد والمُعلِّم، قد انحنى ليغسل أقدام تلاميذه، لكي يُعطينا مثالاً للمعنى الحقيقي للاتِّضاع والإخلاء والانسكاب أمام الله، الذي «يُقَاوِمُ... الْمُسْتَكْبِرِينَ، وَأَمَّا الْمُتَوَاضِعُونَ فَيُعْطِيهِمْ نِعْمَةً» (يع 4: 6).
ثانياً: غَسْل أقدام بعضنا بعضاً
(الغفران والمُصالحة):
هذه العملية هي الحركة الأُفقيَّة للاستعداد للتقدُّم للسرِّ، أي العلاقة بيني وبين إخوتي. فهي تطبيقٌ عملي لقول المسيح: «... اتْرُكْ هُنَاكَ قُرْبَانَكَ قُدَّامَ الْمَذْبَحِ، وَاذْهَبْ أَوَّلاً اصْطَلِحْ مَعَ أَخِيكَ، وَحِينَئِذٍ تَعَالَ وَقَدِّمْ قُرْبَانَكَ» (مت 5: 24).
فالمُصالحة والغفران هما ختم التطهير والاستعداد الذي نُقدِّمه لله، عندما نتقدَّم للأسرار المُقدَّسة. ونتذكَّر هنا أنَّ ”صلاة الصُّلْح“ هي أول ما يُقال في بدء قدَّاس المؤمنين.
ثالثاً: المحبة الكاملة
على مثال محبة المسيح:
المحبة التي يجب أن نُقدِّمها - لله والناس - لابد أن تكون محبة كاملة على مثال محبة الرب يسوع لنا، فلابد أن تكون محبتنا قويَّة حتى الموت، دائمة إلى المنتهى، محبة باذلة وغير مُتزعزعة، وللجميع بلا استثناء.
فالمسيح قد أحبَّنا فضلاً وإلى المنتهى، وأَسلم نفسه من أجلنا، وسَكَب للموت حياته ليفتدينا مجاناً.
لذلك فبدون هذه المحبة الكاملة التي تملأ قلوبنا، لن يكون لنا شركة في هذا السرِّ، بل سنجلب على أنفسنا دينونةً وعقاباً مُخيفَيْن.
ثمار الشركة في سرِّ الإفخارستيا:
سرُّ الإفخارستيَّا هو سر حياة الكنيسة والمؤمنين، فهو الذي يهبنا نفحات الحياة المقدَّسة والاتِّحاد بالله والخلود، وهو أيضاً الذي يُعطينا كل بركات البنوَّة لله. وهذه العطايا ينطق بها الكاهن، جهاراً، في الاعتراف الأخير، حيث يقول:
”يُعطَى عنَّا خلاصاً، وغفراناً للخطايا، وحياةً أبدية، لمَن يتناول منه“.
? خلاصاً: للنفس والجسد والروح.
? غفراناً للخطايا: لكلِّ الخطايا والضعفات، بل والأمراض.
? حياة أبدية: لكلِّ مَن يتناول منه، بإيمانٍ واستحقاق.
لهذا صار من الضروري لنا أن نُتمِّم توبتنا واستعدادنا للتقدُّم لهذا السرِّ المُقدَّس، حتى نستحق رحمة إلهنا ونعمته، ونتمتّع بعطاياه، ونجني ثمار الخلاص الموهوبة لنا بشركتنا في هذا السرِّ المُقدَّس، ولا نكون بعد مُدانين أمام الله بالتقدُّم بدون استحقاق لنوال هـذه العطايـا الإلهية، بينما الصوت يُنادي في مسامعنا: ”القُدسات للقدِّيسين“.
كذلك من المهم أيضاً، أَلاَّ نتوانى عن التقدُّم والتهيُّؤ لنوال شركة هذا السرِّ العظيم بأيِّ عُذر أو مُبرِّر للتخاذُل، وذلك بادِّعاء عدم الاستحقاق أو عدم الاستعداد؛ لأن هذا كله يُشير بإصبع الاتِّهام والدينونة إلى أننا لم نَتُبْ بعد، أو أننا مُتكاسلون عن التوبة.
فكل هذا لا يعدو كونه مجرَّد هواجس يدفعها الشيطان، لكي يُصعِّب علينا أَمر الإسراع للتوبة والتقدُّم لهذه الأسرار المُقدَّسة؛ في الوقت الذي فيه يفتح لنا الرب ذراعيه، ويدعونا للتقدُّم لمائدته الإلهيَّة، لأن «هُوَذَا الآنَ وَقْتٌ مَقْبُولٌ. هُوَذَا الآنَ يَوْمُ خَلاَصٍ» (2كو 6: 2)، إنْ أتينا إليه بقلبٍ مُنسحق وخاشع، وبتوبةٍ صادقة، وقلبٍ نقي، فـ «دَمُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابْنِهِ يُطَهِّرُنَا مِنْ كُلِّ خَطِيَّةٍ» (1يو 1: 7).