|
|
|
الشعب الذي كان مَدْعوّاً، صار هو الداعي للآخرين: فجماعة ”العهد“ التي ظَهَرت في العهد القديم، هم أنفسهم أصبحوا من ”الدُّعاة“ في العهد الجديد باسم الكنيسة Ekklesia، كما ذَكَر القديس إيرينيئوس(1). فبقيَّة إسرائيل التي آمنت بالرب يسوع، هي نفسها التي أصبحت ”إسرائيل الجديد“: «لأَنَّهُ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ لَيْسَ الْخِتَانُ يَنْفَعُ شَيْئاً وَلاَ الْغُرْلَةُ، بَلِ الْخَلِيقَةُ الْجَدِيدَةُ. فَكُلُّ الَّذِينَ يَسْلُكُونَ بِحَسَبِ هذَا الْقَانُونِ عَلَيْهِمْ سَلاَمٌ وَرَحْمَةٌ، وَعَلَى إِسْرَائِيلِ اللهِ» (غل 6: 16،15).
? فالأشخاص المُختارة (أي التي آمنت بالرب يسوع)، هي التي تحمل الثمار لكلِّ البشرية. وهذه هي حياة إسرائيل التي أرسل لها الله الدعوة منذ القديم، منذ دعوته لإبراهيم أبي الآباء، لتُكمِّل دعوة الله - من خلالها - إلى جميع الأُمم.
? وكما أنَّ الله لم يترك نفسه مُطلقاً بلا شاهد في العالم؛ هكذا لم يترك نفسه أبداً بدون سَبْق دعوة أهل بيت الله وتجمُّعهم معاً في حياة الكنيسة.
? وما قبل تجسُّد ابن الله، فإنَّ شعب العهد القديم كانوا يجتمعون معاً في شكل ”التوقُّع“؛ وأمَّا بعد تجسُّد ابن الله، فالذين آمنوا بالرب كانوا يجتمعون معاً في شكل تحقيق هذا التجسُّد(2).
? إذا تأمَّلنا في التاريخ البشري، فلن نجد سوى شعبٍ واحد دُعِيَ ليكون ”شعب الله“. هذا الشعب تكوَّن من دعوةٍ واحدة من الله، عندما دعا الله إبراهيم، وقد مرَّ هذا الشعب بمراحل عديدة من التطوُّر التاريخي. ولذلك يوجد خيطٌ واحد مُمتدٌّ ومستمرٌّ من هذا الشعب، أُكمِلَ به تدبير الخلاص(3).
ما كان يُنظَر إليه للجماعة المُبكِّرة (في العهد القديم)، يمكن أن يُنظَر إليه – بنفس النظرة – للجماعة الجديدة (شعب الله الجديد): فالطُّرُق والوسائل التي استخدمها الروح القدس في تعامُله مع شعب الله في القديم الذي كان يقوده، قبل التجسُّد؛ كانت مُتوقَّعة - ضمناً – وقـادت الشعب (في القديـم) في اتِّجاه معرفة الله نفسه.
وكانت هذه الوسائل - التي سادت في العهد القديم - قد أَخَذَت شكلاً خارجياً من خلال طقوسٍ، وناموس (أي قوانين)، وترتيبٍ للكهنوت.
? أمَّا بعد تجسُّد ابن الله، فقد استمرَّ انتقال هذا التراث وتسليمه إلى ”شعب الله الجديد“؛ ولكـن، يُنظَر إليه في ضـوء قيامة المسيح (عب 7: 1-23).
وبعد قيامة المسيح، بدأ الرسل يُقدِّمون الأسفار الجديدة في مُمارسة روحيَّة، من أجل فَهْم معنى مجيء ابن الله إلى العالم (مُتجسِّداً).
? وبهذه الطريقة، وبهذا التدبير الإلهي، كان لعمل الله الروح القدس معنى جديد لأولئك الذين اختبروا انسكابه عليهم في يوم الخمسين.
? وفي احتفالات التقاليد الموسويَّة (أي نسبة إلى موسى النبي)، وَجَدَ المسيحيون نماذجَ لعبادتهم الخاصة. فما زال المؤمنون المسيحيون يقرأون الوصايا العشر ويحفظونها عن ظَهْر قلب، تلك الوصايا التي تُظهِر للمؤمنين أهمية طاعة وصايا الله. وهكذا ظلَّ المسيحيون يقتدون بإيمان إبراهيم، وسارة، وإشعياء، وراعوث، وأيوب، وداود، وعاموس، وأستير، ويوئيل (اقرأ رو 4: 9؛ عب 11 كله).
استمراريَّة العهد من القديم إلى الجديد: فاللقب الذي كان يُشير إلى شعب الله القديم (قبل مجيء المسيح)، يُستخدم أيضاً في العهد الجديد ليُشير إلى المؤمنين بالمسيح، منذ يوم العنصرة (حلول الروح القدس). هذه الاستمرارية كانت واضحة بشهادة الأنبياء، كما هي في رجال الله في العهد الجديد.
وهذا هو قَصْد الله كما أعلنه المسيح في إنجيل يوحنا: «وَقُلْتُ لَكُمُ الآنَ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ، حَتَّى مَتَى كَانَ تُؤْمِنُونَ» (يو 14: 29).
ونحن، بقوَّة الروح القدس، ننتفع من هذه المواعيد ونتذكَّرها دائماً ونُعلِنها، ما يُقوِّي إيماننا بالرب يسوع (إش 41: 23؛ 42: 9؛ 43: 19؛ عب 11: 3-38).
? وكمثل الشعب الذي تمَّ استدعاؤه قبل تجسُّد ابن الله، والذي سيكون له نصيب في خلاص الله القادم - في ملء الزمان - على رجاء وَعْد الله؛ هكذا فإنَّ الشعب المدعو، بعد التجسُّد، سيُشارك في الإيمان بخلاص الله، الذي تمَّ في مجيء الله نفسه في الجسد، وذلك لكلِّ الذين كانوا ينتظرون مجيء الله - مُتجسِّداً - بعد طول انتظار.
? هذه هي الحركة المركزيَّة لوحدة الكنيسة: فروح الله القدوس نفسه هو الذي يُجمِّع ويُوقِظ جسد المسيح الواحد، حين يأتى كمال (ملء) الزمان، لتحقيق مشيئة الله الآب من خلال تجسُّد ابن الله وانسكاب الروح القدس.
? ومن هنا بدأ شعب الله الجديد في الظهور وفي التجمُّع، بعد صعود المسيح - رأس الجسد أي الكنيسة - إلى السماء، وجلوسه بالجسد عن يمين الآب، وانسكاب الروح القدس على المؤمنين به لتكوين وتشكيل الكنيسة: «وَأَخْضَعَ كُلَّ شَيْءٍ تَحْتَ قَدَمَيْهِ، وَإِيَّاهُ جَعَلَ رَأْساً فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ لِلْكَنِيسَةِ، الَّتِي هِيَ جَسَدُهُ، مِلْءُ الَّذِي يَمْلأُ الْكُلَّ فِي الْكُلِّ» (أف 1: 23،22).
? لقد كان الروح القدس هو نفسه الروح الذي تكلَّم من خلال الأنبياء (في العهد القديم)، ومن خلال الذين عملوا في خدمة الرب يسوع والكنيسة (في العهد الجديد) (أع 7: 50)(4).
? ويُوضِّح العهد الجديد، بشكلٍ صريح، أن العهد القديم يُشير إلى ”روح الرب“، الذي هو نفسه أقنوم ”الروح القدس“ المُعزِّي (أع 2: 16-21).
المؤمنون على الرجاء، قبل مجيء المسيح: كان المؤمنون على الرجاء (في العهد القديم) في توقُّع دائم بمجيء ابن الله (المسيَّا) قبل تجسُّده في ملء الزمان، وكانوا شركاء في وَعْد الله. ومن هذا المنطلق، فهُم مُشاركون - كأعضاء - في الكنيسة، بصورةٍ استباقيَّة، من خلال الانتظار والترقُّب.
ولذلك فعند تأسيس الكنيسة يوم الخمسين (يوم العنصرة)، بانسكاب الروح القدس، صار تحوُّلٌ في التاريخ: من توقُّع الانتظار بصبرٍ، إلى حقيقة تجسُّد ابن الله ومجيئه إلينا في الجسد، وتكوين ”الكنيسة“ التي هي جسد المسيح.
? قبل تجسُّد ابن الله، كان الروح القدس يعمل في كل مكانٍ داخل إسرائيل لتهيئتهم لمجيء الرب في الجسد.
أمَّا بعد تجسُّد ابن الله، فبدأ عمل الروح القدس، ليس فقط داخل إسرائيل، ولكن أيضاً خارج إسرائيل؛ وذلك لدعوة الأُمم الأخرى إلى الإيمان، وليضمَّ الكثيرين منهم إلى الجماعة المؤمنة: «وَكَانَ الرَّبُّ كُلَّ يَوْمٍ يَضُمُّ إِلَى الْكَنِيسَةِ الَّذِينَ يَخْلُصُونَ» (أع 2: 47).
? التاريخ المحوري (الأساسي): إن التعاقُب السريع للأحداث، والذي تلا صَلْب المسيح وقيامته وصعوده إلى السموات؛ مهَّد الطريق لانسكاب الروح القدس.
? فالمسيح بعد موته على الصليب من أجل خلاصنا، دُفِنَ في القبر، ونزل إلى الجحيم بنفسه البشرية المُتَّحدة بلاهوته، ثم قام من بين الأموات، وصعد إلى السموات، وجلس عن يمين الآب بالجسد، وذلك ليشفع فينا بذبيحته الكفَّارية لدى الآب: «لَنَا شَفِيعٌ عِنْدَ الآبِ، يَسُوعُ الْمَسِيحُ الْبَارُّ. وَهُوَ كَفَّارَةٌ لِخَطَايَانَا» (1يو 2: 2،1).
? فكل هذا العمل الإلهي، بدأ وتمَّ - في العهد الجديد – بالتتابُع، كالآتي:
انسكاب الـروح القـدس يـوم ”البنتيقُطسي“ (الخمسين)؛ ودعوة شعب الله الجديد؛ ثم تكوين وتأسيس ”جسد المسيح“ أي ”الكنيسة“.
وأصبح ناموس أو ”شريعة“ العهد الجديد، هي شريعة ”المحبة“، التي أصبحت هي قانون العهد الجديد، الذي يتوافق ويتناسب مع المُتغيِّرات الهامة التي حـدثت بتجسُّـد ابـن الله وتكميله تدبير الخلاص.
وبعد انسكاب الروح القدس على الكنيسة، بَدَأ عمل البشارة بالإنجيل في كل أنحاء العالم: «اذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ» (مت 28: 19)، «اذْهَبُوا إِلَى الْعَالَمِ أَجْمَعَ وَاكْرِزُوا بِالإِنْجِيلِ لِلْخَلِيقَةِ كُلِّهَا» (مر 16: 15).
? كل هذا حَدَث في أعقاب موت الرب يسوع وقيامته وصعوده إلى السموات. وتُسمَّى هذه السلسلة المُكثَّفة من الأحداث باسم: ”محور التاريخ الحديث“ أو ”محور العهد الجديد“.
عِلْم الأيام الأخيرة (الإسخاتولوجي):
”محور العهد الجديد“ هذا، يجب أن ننظر إليه فيما يتعلَّق بمحور آخر مُتوقَّع منذ ذلك الوقت، وهو نهاية العصر الحالي؛ حيث ستكون لهذا العصر نهاية، وهو ما يُسمَّى ”عِلْم الأيام الأخيرة“؛ حيث ستكون السلسلة المُتوقَّعة من الأحداث، خاطفة وهائلة، مثل:
عودة تجمُّع بني إسرائيل، بعد إيمانهم بالمسيح؛ ومجيء المسيح الثاني إلى الأرض في مجده؛ والدينونة العتيدة؛ ورَبْط الشيطان؛ وافتتاح ملكوت المسيَّا؛ وتملُّك عروس المسيح - أعضاء جسده أي الكنيسة - وهم المؤمنون الذين عاشوا وجاهدوا واحتملوا، والذين سيملكون مع ابن الله في ملكوته.
? ووَصْف الأيام الأخيرة، ظَهَر في آيات الكتاب المقدَّس، ممزوجـاً بالمفهوم الوحيد لخلاص الله للبشرية في الأزمنة الأخيرة (إش 51: 6-8؛ لو 19: 9؛ أع 16: 17؛ رو 1: 16؛ 1بط 1: 9).
رموز الروح القدس في الكتاب المقدس
تشتمل رموز الروح القدس، والتي تتكرَّر في الكتاب المقدس، وتُشير إلى: الرياح، والنار، والماء، والحمامة، وزيت الدهن المقدَّس.
? هذه الرموز والإشارات تتجمَّع معاً، وبشكلٍ كبير، في مناسبة عيد العنصرة (أع 2: 2-14)؛ حيث تلقَّى الرسل والمؤمنون الوَعْد بمعمودية الروح القدس، والتي سبق وأنبأ عنها يوحنا المعمدان قائلاً:
+ «أَنَا أُعَمِّدُكُمْ بِمَاءٍ لِلتَّوْبَةِ، وَلكِنِ الَّذِي يَأَتِي بَعْدِي هُوَ أَقْوَى مِنِّي، الَّذِي لَسْتُ أَهْلاً أَنْ أَحْمِلَ حِذَاءَهُ. هُوَ سَيُعَمِّدُكُمْ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ وَنَارٍ» (مت 3: 11).
وقد بدأ الرسل يُبشِّرون أولاً بمعمودية التوبة، مثل يوحنا المعمدان: «مِنْ نَسْلِ هذَا، حَسَبَ الْوَعْدِ، أَقَامَ اللهُ لإِسْرَائِيلَ مُخَلِّصاً، يَسُوعَ. إِذْ سَبَقَ يُوحَنَّا فَكَرَزَ قَبْلَ مَجِيئِهِ بِمَعْمُودِيَّةِ التَّوْبَةِ لِجَمِيعِ شَعْبِ إِسْرَائِيلَ» (أع 13: 24،23)؛ لكنهم نالوا مسْحة الـروح القدس الـذي وَعَـد الله أن يسكبه على المؤمنين في الأيام الأخيرة (أع 2: 33،17؛ تي 3: 6،5).
”الروح القدس“ كمياهٍ مُطهِّرة: يتمُّ سرُّ الروح القدس بواسطة الماء. والماء يُستَخْدَم كأداةٍ رمزية للتطهير والتجديد؛ حيث إنه في الحياة اليومية، لا يمكن أن تستمر الحياة لفترةٍ طويلة بدون الماء(5).
? والماء هو العنصر المثالي والمُبهج والبسيط والمُطهِّر، بحدِّ ذاته. وهو واسطة لحلول وانسكاب الروح القدس من قِبَل الله الآب بيسوع المسيح مُخلِّصنا. والروح القدس هو المياه الحيَّة التي تُجدِّد المؤمن بشكلٍ مضطرد، كما يقول القديس أثناسيوس الرسولي(6).
(يتبع)
(1) St. Irenaeus, Ag. Her. I.V.5; ANF I, p. 467. (2) Hippolytus, On the Consummation of the Word; MPG 10: 903-952. (3) St. Irenaeus, Ag. Her. IV.33.7; COG II, p. 16. (4) St. Cyril of Jerusalem, Catech. Lect. XVII.5; NPNF 2 VII, p. 125. (5) St. Cyril of Jerusalem, Catech. Lect. XVI.125; NPNF 2 VII, p. 115. (6) Athanasius, Defence of Dionysius; NPNF 2 IV, pp. 182-85.