|
|
|
تكملة سيرة الأسقف الأنبا يوساب الأَبح
(أسقف جرجا):
بعد جهادٍ مستمر لا ينقطع، وبعد توضيح العقيدة في صراحة، بلسانه وقلمه، خلال بابوية ثلاثة بطاركة من آباء الكرسي الإسكندري؛ أحسَّ الأنبا يوساب بضعف الشيخوخة يدبُّ في جسده. فبَقِيَ في الدار البابوية بضعة أيام، ثم قَصَدَ إلى دير الأنبا أنطونيوس بالصحراء الشرقية، حيث استقبله الرهبان بالفرح والتهليل لأنهم كانوا يَرَوْنَ فيه أباً حنوناً وزميلاً وديعاً.
ولكنه لم يقضِ بينهم غير أيامٍ قليلة، انتقل بعدها إلى فردوس النعيم، في 17 طوبة سنة 1542ش. فأقام الرهبان صلوات التجنيز على جثمانه، ودفنوه في هدوء وبساطة. وقد عرفت الكنيسة فضله، وأكرمته، فجعلت من يوم نياحته تذكاراً سنوياً.
علماء آخرون وكتابات كنسية أخرى:
كما أنَّ هناك مخطوطة أخرى مكتوبة بخط متناسق، وبعضها مُشَكَّل، والكلمات الأولى لكل فقرة مكتوبـة بـاللون الأحمر، وكـذلك النقط والفَصَلات. ولكـن، للأسـف، لا تحمل هـذه المخطوطة اسم كاتبها. والمخطوطة تتضمن تعليقات على بشارة القديس متى البشير، وَضَعَه أبو الفرج بن الطيِّب المشرقي. وقد عُني المربِّي يوسف منقريوس بنشرها سنة 1908م، بعنوان: ”تفسير المشرقي“(1).
? ومن روائع كنوز هذه الفترة أيضاً، حجاب هيكل كنيسة الرسل بدير القديس أنبا أنطونيوس، المصنوع من الخشب المُطعَّم بالعاج، وكذلك خـوارس الكنيسـة المصنوعـة مـن الخشب المخروط. ويقول رهبان الدير إنَّ هذه كلها قد صُنِعَت في مدينة أخميم بناءً على طلب الأرخن المعلِّم ”لُطف الله شاكر“ الذي أنفق على صُنْعها، ونقلها إلى الدير، كما جدَّد الكنيسة كلها سنة 1487ش/ 1771م.
ولقد اهتمَّ هذا المعلِّم الجليل بترميم كنيسة الأب الروحاني ”مرقس“ الأنطوني القائمة في هذا الدير.
? وتقول الأستاذة إيريس حبيب المصري في كتابها ”قصة الكنيسة القبطية“:
[ولئن كانت الأيام لم تحتفظ لنا بغير هذه الكتابات، فهذا لا يعني أنه لا يوجد غيرها؛ ولكننـا لا نعرف للآن إنْ كـانت هنـاك مخطوطات أخرى ضاعت نهائياً، أو أنَّ هناك بعضاً منها ما زال مخفيّاً في رُكن من أركان بلادنا التي احتفظت بالكثير من مُخلَّفات القرون الماضية. إنها احتفظت بما كان في أعماقها. أمَّا ما كان ظاهراً للعيان، فقد ضاع معظمه. فحتى هـذه التربة المصرية كـانت أمينـة على الأسـرار التي اسـتُودِعَت في داخلها](2).
شخصيات أخرى وأعمال أثرية أخرى:
? الأنبا بطرس أسقف منفلوط: كان راهباً بدير السيدة العذراء (الشهير بالسريان)، ثم رسمه البابا يؤانس الثامن عشر أسقفاً على منفلوط باسم ”بطرس“. وبالدير المذكور يوجَد كتاب خاص بتكريس الكنائس، جاء فيه: ”عُمِلَ برسم واضع العلامة فيه وقفاً مؤبَّداً وحَبْساً مُخَلَّداً على القلاية العامرة بالأسقفية، لأجل تكريز الكنائس. ولا أحد يتصرَّف فيه ببيع أو قبض ثمنٍ لأجل أجر الذي صرفه عليه، لأنه من مُخلَّفات المطران الأنبا أثناسيوس مطران القدس الشريف. وصار بيد الأنبا بطرس أسقف نقـادة ودرجـا في سـنة 1470ش/ 1754م. والشكر لله دائماً“.
ولا يُعرَف عن هذا الأسقف غير هذه السطور القليلة.
? القس عطيـة: أحسَّ بالـدعوة الروحيـة للرهبنة، فدخل دير القديس أنبا مقار الكبير، ثم اخْتِير لرئاسة ديره في بابوية البابا يؤانس الثامن عشر. وكان ذا خطٍّ جميل، فانشغل بنساخة الكُتُب التي كان يبيعها ليُنفق من ثمنها على احتياجات الرهبان ولوازم الديـر. ومن المخطوطات التي كتبها: قطمارس لشهر بابة، محفوظٌ بمكتبة دير السريان، مُؤرَّخ سنة 500 للشهداء الأطهار. وهو مُنَسَّق ومُزخرف بطريقةٍ تُلفِت الأنظار(3).
انتقال البابا يؤانس الـ 18 من هذا العالم:
وبعد وفاة المعلِّم إبراهيم الجوهري بما يقرب مـن السنة (انتقل المعلِّم إبراهيم الجوهري إلى عالم الخلود في 25 بشنس 1511ش/ 31 مايو 1795م. ارجع إلى مجلة مرقس، عدد فبراير 2015، ص 41)؛ انتقل البابا يؤانس الثامن عشر يوم 2 بؤونة سنة 1512ش الموافق 7 يونية سنة 1796م، بعد أن جلس على الكرسي الرسـولي المرقسي مـدة ستة وعشريـن سنة و7 أشهر و41 يومـاً. واحتُفِلَ بنقل جثمانه إلى مقبرة البطاركـة بكنيسة الشهيد مـرقوريوس (المُسمَّى ”أبو سيفين“) بمصر القديمة، وكان ذلك في أيام السلطان سليم الثالث (في الأستانة)، وفي مدة إمارة إبراهيم بك ومراد بك (في مصر).
البابا يؤانس (مرقس) الثامن
البطريرك الثامن بعد المائة في عداد بطاركة الكرسي الإسكندري
(1796-1809م)
نشأته ورهبنته:
كان أحد رهبان دير القديس أنبا أنطونيوس، وكان اسمه ”يؤانس“. فلما انتقل سَلَفَه، أجمع رأي الكهنة ورؤسـاء الكهنة وأراخنـة الشعب على تقديمه بطريركاً.
موطنه وتاريخ ميلاده وتربيته:
وُلِدَ هذا الأب في بلدة ”طما“ بمحافظة جرجا في أواسط القرن الثامن عشر الميلادي، ودُعِيَ اسمه ”يؤانس“، وتربَّى التربية المسيحية الحقَّة حتى مال من صغره إلى الحياة النسكية.
ولما ترعرع وكبر، زادت ميوله إلى الزُّهد والرهبنة، فبارَح بلدته، قاصداً ديـر القديس أنبا أنطونيوس بجبل العربة، ودخل الدير وترهبن فيه. ولما ظهرت فضائله ونُسكه وزُهده وانكبابه على الدرس والاطِّلاع؛ سيم قسّاً بيد البابا يؤانس الثامن عشر، وألحقه بحاشيته البطريركية. وقد شاهَدَ ما حلَّ بهذا البطريرك من الويلات.
اختياره للبطريركية:
لمَّا تنيَّح البابا يؤانس الثامن عشر في يوم 2 بؤونة سنة 1512ش/ 7 يونية سنة 1796م، وكما يقول كتاب ”تاريخ البطاركة“؛ أجمع رأي الكهنة ورؤساء الكهنة وأراخنة الشعب على تقديمه بطريركاً ورئيس أساقفة كرسي الإسكندرية الرسـولي، ورُسِمَ في ليلـة الأحـد 23 توت 1513ش/ أول أكتوبر 1796م، في كنيسة الشهيد مرقوريوس (المُلقَّب ”أبو سيفين“)، كما دوَّن ذلك خليفته البابا بطرس السابع في كتاب: ”التواريخ“ لابن الراهب بخطِّه الجميل، ولُقِّب باسم ”مرقس“ الثامن (وكأنه أَخَذَ اسم ”يوحنا مرقس“ صاحب الإنجيل المُسمَّى باسمه)، وذلك في عهد السلطان سليم الثالث العثماني، وشيخَي البلد ”إبراهيم بك“ و”مراد بك“.
سمات عهد البابا يؤانس ”مرقس“ الثامن:
وقد شارَك هذا البابا عهد سَلَفَه البابا يؤانس الثامن عشر في البلايا والنكبات التي أَحاطت بالبلاد، وقاسَمَ المؤمنين مصائب ذاك العهد المشؤوم التي قصمت ظهور المسيحيين، ولكن شدَّدت من صلابتهم وصلابة أبنائهم.
سوء معاملة إبراهيم بك ومراد بك
للأهالي والأجانب:
بعد أن استردَّ إبراهيم بك ومراد بك منصبيهما وأخذا يحكمان مصر بحزمٍ لا بأس به؛ تماديا في ابتزاز أموال الناس، وخصوصاً التُّجَّار، بغير وجه حقٍّ. ثم امتدَّ ظلمهما إلى الأجانب القاطنين بمصر، فكثرت شكاوى هؤلاء إلى دولهم، التي طالبت هذين الأميرين أن يَعْدِلا عن هذه الخطة الذميمة، وأن يُحسِّنا معاملة رعاياهما. لكنهما لم يسمعا نصيحة هذه الدول، الأمر الذي لفت نظر أوروبا إلى مصر، ما جعل الفرنسيين (وكانوا يُسمَّون في ذاك الوقت ”الفرنسيس“) يتَّخذون ذلك الأمر ذريعة لإغارتهم على مصر وغَزْوها.
الطبيعة تتضافر مع طغيان الإنسان:
ومن المؤلم أنَّ الطبيعة تضافرت مع طُغيان الإنسان؛ إذ قد حدث في نفس عام 1798م أن هطلت الأمطار مراراً بطريقةٍ غير معهودة في مصر، حتى أنَّ سيولاً من المياه انحدرت من الجبال وملأت الشوارع والبيوت والوكالات، إلى حدِّ أنَّ عدداً من البيوت في حي ”الحسينية“ (بالقرب من العباسية) سقط. وقد صحب هذه السيول رَعْدٌ قاصف وبروقٌ تخطف الأبصار، فامتلأت القلوب فزعاً. ثم تفشَّى الوباء في أعقاب هذه السيول بطريقةٍ مُزعجة، حتى لقد كان الناس يُـردِّدون في ذهابهم وإيـابهم مَثَلاً: ”يـا خَفِيَّ الألطاف، نجِّنا مِمَّا نخاف“!
انشغال الوالِيَيْن بمقاتلة المماليك
لم تَعُقْهما عن الاستبداد بالأقباط:
وعلى الرغم من السيول ومن الأوبئة، استمرَّ إبراهيم بك ومراد بك يُناوشان قوَّات ”حسن باشا“ المُعيَّن من قِبَل الباب العالي (السلطان العثماني بالأستانة) ويُقاتلان المماليك؛ ولم يَعُقْهم هذا عـن الاستبداد بالأقباط. وقد أصدر حسن باشا الأوامر الصارمة ضد الأقباط، وهي أوامر تُحتِّم عليهم دفع مبالغ باهظة له، كما تُحتِّم عدم ركوبهم الخيل وعدم ارتدائهم الملابس الفاخرة، وعدم استخدام المسلمين كخدَّام لهم؛ بل كانت الصرامة بالغة إلى حدِّ أنَّ مَن لا يلبس الملابس الخاصة التي أوجبها الوالي التركي، كان الجُند يرجمونه ويهيلون عليه التراب.
وحتى القضاء الشـرعي أصبح تـابعاً لهما (إبراهيم بك ومراد بك) وللأستانة حيث الخليفة العثماني، إذ كان السلطان التركي يُرسِل من عنده مَن يُسمَّى ”قاضي القضاة“ الذي كان يُطلَق عليه لقب: ”قاضي عسكر أفندي“! وكان من اختصاص هذا القاضي: تقسيم التركات. وبهذه الطريقة ابتزَّ التُّرك مال الأحياء، ثم استولوا على الجزء الأكبر من مال الموتى!
هجوم الفرنسيين على مصر:
في 19 مايو 1798م، قامت التجريدة (الحملة) الفرنساوية المختصَّة بمصر من مدينة طولون بفرنسـا، وفي 25 مـن نفس الشهر استولت التجريدة الفرنساوية على جزيرة مالطة. وفي 2 يـوليو، وصـل الجيش الفرنسـاوي إلى الإسكندرية، وفي اليوم التالي 3 يوليو استولى عليها. وفي 23 من نفس الشهر قَصَد الجيش الفرنساوي القاهرة، وفي 26 وصل الرحمانية، وفي 29 كانت موقعة ”شبراخيت“ وهي موقعة بين نابليون بونابرت وبين المماليك.
وبعد ذلك كانت موقعة الأهرام، ثم بعد 4 أيـام، دخلت الحمـلة الفرنساويـة القاهرة ”المحروسة“. وهنا هرب ”أبـو بكر باشا“ الوالي التركي إلى غـزة، وبعد شهر ابتـدأت محاربـة الجنود الفرنساويين للمماليك في الوجـه القبلي. وفي 26 ديسمبر، أَمَرَ بونابرت باستكشاف بـرزخ(4) بقصد حَفْر قناة تـربط البحر الأحمر بـالبحر المتوسط، بهدف مُعاكسة الإنجليز في إبحارهم إلى الهند.
ردُّ فعل عامة الناس،
وتضاعُف وطأة الهجوم على الأقباط:
في الفترة التي ظهرت فيها طلائع الفرنسيين عند الشاطئ المصري، تضاعفت وطـأة الظلم، فتجاسر العامـة ودخلوا بيـوت الأقباط وكنائسهم وأديرتهم بحثاً عن الأسلحة. على أنَّ الله ”مُعين مَن ليس له مُعين“، قـد جعل الأُمراء آنذاك يمنعون العامَّة من الفتك بالأقباط ومن تخريب كنائسهم(5).
شهادة شاهد عيان رأى
كيف تصرَّف الرعاع مع الأقباط!
ويشهد كاتب سيرة البابا يؤانس ما رآه حين دخول عساكر نابليون مصر سنة 1798م، فقال:
[إنَّ جنود فرنسا لمَّا وطأت أرض ”أبو قير“ و”الإسكندريـة“، هـاج في القاهرة رعـاع المسلمين وشرعوا يُجرِّعـون الأقباط كـأس المرارة، رغماً عن اجتهاد أُمرائهم الذين أخبروهم بأنَّ هؤلاء المسيحيين من جملة رعايا الدولة، وأنَّ مَن مَسَّ شرفهم فقد مسَّ شرف الدولة نفسها؛ ولكن لم يُرهب الرعاع ذلك ولم يَخْشَوْا سطوة بـونابـرت وجنوده الباطشة، وذلك أنَّ هؤلاء لمَّا حاربوا المماليك وانتصـروا عليهم ومَلَكوا القاهـرة، وظـنَّ المسيحيون أنَّ الجوَّ المُعكَّر صفا لهم؛ قام على أَثر ذلك معظم المسلمين، شيوخ الجامع الأزهـر، وتجمَّعـوا فيه، وأرسـلوا القُرَّاء يطوفون في الأسواق مُنادين: ”فليذهب كلُّ مَن يُوحِّد الله إلى الجامع الأزهر، هذا هو يوم الجهاد في محاربة الكُفَّار وأَخْذ الثأر“.
فهاجـت المدينـة لذلك وماجـت، وقَفَل المسلمون حـوانيتهم (دكـاكينهم) وتقلَّـدوا أسلحتهم، واجتمعوا في الجامع الأزهر، ثم جالوا ينهبون بيوت المسيحيين على اختلاف أجناسهم، ويقتلون كل مَن صادفوه بغير تمييز بين الرجل والمرأة والطفل والشيخ.
وكان الوجه القبلي، الذي صار عادةً ملجأً لكل مُتمرِّد ومَهْرَباً لكل عاصٍ، كان ليس بأقل وطأة؛ فإنه لمَّا هرب المماليك، أخذوا يعيثون في الناس ظُلماً وينهبون أموال المسيحيين.
وما ظنَّ المسيحيون أنهم نَجَوْا من تلك الكارثة حتى وقعوا بأشرِّ منها، وذلك أنه لما نُقِضَت المعاهدة بين كليبر الفرنساوي والصدر الأعظم بأَمر من الباب العالي، ودارت رحَى القتال بين الجانبين في المطرية؛ اغتنم المسلمون فرصة خروج عسكر فرنسا من القاهرة، وثاروا على المسيحيين.
وكـان ناصف باشـا أحـد قُوَّاد الجيش العثماني قـد جـاء إلى المدينة بجماعة من المماليك، ونادَى فيها بأنهم غلبوا الإفرنج. وأَمَرَ بقتل باقي الأقباط، فشرعوا يجزرونهم (أي يـذبحونهم)، غـير مُميِّزين بين القبطي والسوري والإفرنجي.
ولكن ناصف باشا استدرك الأمر قائلاً: ”ليس من العدالة أن تهرقوا دماء رعايا الدولة. فإنَّ ذلك مُخالف للإرادة السَّنيَّة (أي إرادة السلطان العثماني، الذي هـو خليفـة المسلمين)“. فأَمَـرَ عند ذلك بكفِّ أيـدي المسلمين من قتلهم]. (يتبع)
(1) مخطوطة رقم 110 (195 لاهوت) محفوظة بمكتبة المتحف القبطي؛ عن: إيريس حبيب المصري، ”قصة الكنيسة القبطية“، الكتاب الرابع، ص 167.
(2) المرجع السابق، ص 168.
(3) المرجع السابق، ص 184،183.
(4) ”البرزخ“: هو الحاجز بين شيئين. وفي علم الجغرافيا: هو قطعة أرض ضيِّقة، محصورة بين بحرَيْن، مُوصِّلة بين أَرضَيْن (المُعجم الوجيز). ويقصد هنا البحرَيْن الأحمر والأبيض المتوسط.
(5) عن: إيريس حبيب المصري، ”قصة الكنيسة القبطية“، الكتاب الرابع، ص 186-188.