|
|
|
مقدِّمة عامة(1):
وُجِدَ البيان الآتي باللغتين القبطية والعربية في كتاب بصخة (مخطوط) بتاريخ 10 بشنس سنة 1510ش/ 1794م. ويُفهَم منه أن طقس أسبوع الآلام في العصور المُتقدِّمة كان يُجرَى بناءً على أحداث هذا الأسبوع، وأنَّ أحد الآباء البطاركة رتَّبه بشكله الحالي، وهو:
? لما كان القانون الرسولي يأمر بقراءة أسفار العهدَيْن العتيق والحديث في أسبوع البصخة المقدَّسة، فقد كان هذا واجبٌ على كل مسيحي، حتى جلس البابا غبريال بن تُرَيْك البطريرك الـ 77 على كرسي مار مرقس سنة 974ش/ 1258م، فرأى أنَّ النـاس، بسـبب انهماكهم في أعمالهم اليوميـة، لا يمكنهم إتمام هـذا القانون الرسولي، فجَمَعَ علماء من ذوي المعرفة والفهم ورهباناً كثيرين من دير القديس أنبا مقار، وأخذوا من العتيقة والحديثة ما يُلائم ووضعوه في كتاب البصخة المقدسة لاستعماله في أسبوع الفصح كل سنة؛ وذلك حتى صار أنبا بطرس أسقفاً على مدينة البهنسا، فرأى أنَّ بعض ساعات البصخة لها نبوَّات وأنـاجيل أكثر مـن غيرها، فجعلها متساوية، كما وضع لكل يوم عظتين من أقوال الآباء: واحدة للصباح، وأخرى للمساء.
أحد الشعانين:
حضر الربُّ يسوع العشاءَ الذي أُعِدَّ له يوم السبت الموافق 9 نيسان سنة 5534 للخليقة في القرية المعروفة ببيت عنيا (أي بيت العناء أو البؤس) في بيت سمعان الأبرص (الغيور)، حيث كان لعازر الذي أقامه من بين الأموات، وحيث دهنت مريم قدَمَي يسوع بالطِّيب الخالص الكثير الثمن ومسحتهما بشعر رأسها، كما جاء في إنجيل القديس يوحنا: «ثم قبل الفصح بستة أيام، أتى يسوع إلى بيت عنيا حيث كان لعازر...» (يو 12: 1). وبالطبع فإنه قبل الفصح بستة أيام كان السبت. ثم قام في الغد قاصداً الدخول إلى أورشليم علانيةً، فيكون الغد هو الأحد الموافق 10 نيسان، وهو اليوم الذي كانت تأخذ فيه كل أسرة من بني إسرائيل خروف الفصح من القطيع ويحفظونه إلى اليوم الرابع عشر من هذا الشهر ثم يذبحونه في عشية هذا اليوم.
وكما كان خروف الفصح يُفرَز ويُجعَل تحت الحفظ بضعة أيام في المدينة المقدسة؛ هكذا بَقِيَ حَمَل الله الذي يرفع خطية العالم بين جدران أورشليم متردِّداً بين الهيكل وبيت عنيا. ولما قرب الوقت المُعيَّن لإتمام العمل الذي أرسله الآب من أجله، دخل أورشليم باحتفالٍ عظيم، كما تنبَّأ عنه زكريا النبي قائلاً: «ابتهجي جداً يا ابنة صهيون، واهتفي يا بنت أورشليم. هوذا ملككِ يأتي إليكِ، هو عادلٌ ومنصورٌ، وديعٌ وراكبٌ على حمار وعلى جحش ابن أتان» (زك 9: 9).
لقد أراد مُخلِّصنا له المجد أن يدخل أورشليم علانيةً في الوقت الذي كانت فيه مزدحمة بالزائرين الذين كانوا يؤمُّونها ليحتفلوا بالفصح. وقد ذَكَرَ يوسيفوس أنَّ عدد الجموع هناك كثيرٌ ما كان ينيف على المليونين. ولما اقترب المسيح من المدينة، هتفت تلك الجماهير بأصوات التهليل حتى بلغ هتافهم إلى عنان السماء، وكانوا يُشيرون في هتافهم إلى الرب يسوع بعباراتٍ تخصُّ المسيَّا المنتَظَر: «أُوصنَّا لابن داود، مباركٌ الآتي باسم الرب، أُوصنَّا في الأعالي» (مت 21: 9)، «مباركةٌ مملكة أبينا داود الآتية باسم الرب، أوصنَّا في الأعالي» (مر 11: 10)، «مباركٌ الملك الآتي بـاسم الـرب. سلامٌ في السماء، ومجدٌ في الأعالي» (لو 19: 38).
ولم يكن هتاف تلك الجموع من تلقاء نفوسهم، بل كانوا مدفوعين بقوةٍ غير عادية، لأن ما فاهوا به، وإنْ لم يفهموه، فقد كان حقّاً. وقد قَبِلَه المسيح ولم يُحرِّم عليهم النُّطق به، كما كان يفعل قبلاً عندما كان يمنع تابعيه وأيضاً الشياطين من أن يُظهِروه، لأن الوقت الآن قـد حلَّ. وقد حاول الفرِّيسيون – إذ قد امتلأت صدورهم حسداً وغيرةً – أن يُسكِتوهم فلم يُفلِحوا، فاستعانوا بالمسيح على إسكاتهم، فقال لهم: «إنَْ سَكَتَ هؤلاء، فالحجارة تصرخ» (لو 19: 40).
أما اختيار مُخلِّصنا أن يمتطي جحشاً لم يَعْلُهُ (أي لم يركبه) أحدٌ، وكَوْن البشيرين ينصُّون صريحاً على أنَّ المسيح ركب جحشاً ابن أتان غير متمرِّن على الحمل، فلا ريب أنه كان لهذا معنًى رمزي. فالمسيح كـان رئيساً جديداً لعهدٍ جديد، لذلك فقد امتطى حيواناً جديداً، كما أنه لما مات وُضِعَ في قبرٍ جديد، وهذا يُطابق ما جاء في العهد القديم، أنَّ البقرتين اللتين لم يَعلُهما نيرٌ جرَّتا العَجَلَة الجديدة التي حملت تابوت العهد (1صم 6: 10). وبما أنَّ الجحش لم يركبه أحدٌ، فكان يحتاج أن تصحبه أُمُّه.
يوم الاثنين من البصخة المقدَّسة:
خرج الرب يسوع من بيت عنيا الواقعة على سفح جبل الزيتون الشرقي التي اشتهرت بأنها وطن لعازر وأُختاه مريم ومرثا، وهي على بُعْد خمس عشرة غلوة، أي نحو ثلاثة أرباع الساعة من أورشليم (يو 11: 18)، قاصداً الهيكل، لأنه كان يقضي نهاره في هذا الأسبوع في الهيكل، وفي المساء كان يرجع إلى بيت عنيا ليبيت هناك: «وكان في النهار يُعلِّم في الهيكل، وفي الليل يخرج ويبيت في الجبل الذي يُدعَى جبل الزيتون، وكان كل الشعب يُبكِّرون إليه في الهيكل ليسمعوه» (لو 21: 38،37). وبينما كان يمرُّ من بيت عنيا إلى الهيكل صباح يوم الاثنين لَعَنَ شجرة التين غير المثمرة، كما جاء في إنجيلَي متى ومرقس (مت 21: 18-21؛ مر 11: 20-24).
والسبب الذي لأجله لَعَن المسيح تلك الشجرة هو أنها كانت مورقة، والعادة أن تظهر براعم الثمر مع الورق. وأحياناً تنضج بعض ثمار التين قبل غيرها بأيامٍ ليست بقليلة، وهو المعروف عند بعض العامة بـ ”الديفور“. وجاء في إنجيل مرقس أنه لم يكن وقت نُضج التين، ولذلك كان ينبغي ألاَّ يكون فيها ورق. فوجود الورق قبل حينه في تلك التينة معناه: كأنها تدَّعي أنها مُثمرة قبل أوانها، بينما لم يوجد فيها شيءٌ من الثمر ولا دليل على أنها ستُثمر. فتلك الشجرة الكثيرة الورق الخالية من الثمر المُبكِّر والمتأخر، كانت تُمثِّل حالة الأُمَّة اليهودية التي ادَّعت أنها هي المنفردة بالقداسة على وجه الأرض، لأنه كان لها الشريعة والهيكل والطقوس الدينية من أصوام وأعياد وذبائح صباحية ومسائية، ومع ذلك فقد خَلَت من الإيمان والمحبة والقداسة والتواضُع والاستعـداد لقبـول المُخلِّص وطاعـة وصايـاه، فافتخرت بكونها هي شعب الله المختار، ولكنها رفضت ابنه الذي أرسله حسب نبوَّات الأنبياء.
فهُم بذلك كانوا يتكلَّمون بغير ما يُبطِنون، ولذلك فقد أعطاهم المُخلِّص له المجد الويل قائلاً: «ويلٌ لكم أيها الكَتَبة والفرِّيسيُّون المُراؤون، لأنكم تُشبهون قُبوراً مُبيَّضة تظهر من خارج جميلة، وهي من داخل مملوءة عظام أموات وكل نجاسة. هكذا أنتم أيضاً: من خارج تظهرون للناس أبراراً، ولكنكم من داخل مشحونون رياءً وإثماً» (مت 23: 28،27). كما قال عنهم الرسول بولس: «لهم صورة التقوى ولكنهم مُنكرون قوَّتها» (2تي 3: 5).
بل إنَّ هذا الكلام موجَّه إلينا نحن الذين كلنا عيوب، فقد نتظاهر بالتقوى والقداسة والعفَّة والقناعة والمحبة والوداعة واللطف والإحسان والاستقامة وحِفظ وصايا الله، ولا نعمل بواحدةٍ منها. أليس هذا كذباً ورياءً ونفاقاً وغروراً بالنفس وتضليلاً بالأذهان؟ أليس كل مَن يُخطئ يصلب لنفسه ابن الله مرةً ثانية؟ «والآن قد وُضِعَت الفأس على أصل الشجر، فكل شجرةٍ لا تصنع ثمراً جيداً تُقطع وتُلقَى في النار» (مت 3: 10). فهذا إنذار من الله لكل الناس في كل زمان ومكان في جميع أنحاء المسكونة بوقوع دينونة الله عليهم إن لم يأتوا بأثمار القداسة.
فالمسيح لَعَن التينة ليس لأنها بلا ثمرٍ فحسب؛ بل لكثرة أوراقها، كأنها ادَّعت الإثمار كذباً. هكذا يُعامِل الله الإنسانَ غير المثمر ويُبكِّته بما جاء في رسالة يهوذا قائلاً: «غُيومٌ بلا ماء تحملها الرياح. أشجارٌ خريفية بلا ثمرٍ ميِّتة مُضاعفاً، مُقتلعة. أمواجُ بحرٍ هائجة مُزْبِدَةٌ بخِزيهم. نجومٌ تائهة محفوظٌ لها قتام الظلام إلى الأبد» (يه: 13،12).
«ولما دخل يسوعُ الهيكلَ ابتدأ يُخرِج الذين كانوا يبيعون ويشترون في الهيكل، وقَلَبَ موائد الصيارفة وكراسي باعة الحمام. ولم يَدَع أحداً يجتاز الهيكل بمتاعٍ» (مر 11: 16،15). وقد ذَكَرَ القديس مرقس حوادث كل يوم من الأسبوع الأخير بحسب ترتيب وقوعها، فيذكر في بشارته أنَّ المسيح في أول يوم من دخوله أورشليم، دخل الهيكل، «ولما نظر حوله إلى كل شيء، إذ كان الوقت قد أَمسى، خرج إلى بيت عنيا» (مر 11: 11)، هذا من حوادث يوم الاثنين. وأتى من بيت عنيا إلى أورشليم صباحاً، وفي أثناء سيره حدث ما يخص شجرة التين. وكان الله قد وبَّخ اليهود أيام إرميا النبي على تدنيسهم بيته قـائلاً: «هـا إنكم مُتَّكلون على كلام الكذب الذي لا ينفع. أتسرقون وتقتلون وتـزنون... ثم تأتـون وتقفون أمامي في هذا البيت الذي دُعِيَ باسمي عليه؟... هل صار هـذا البيت الذي دُعِيَ باسمي عليه مغارةَ لصوصٍ في أعينكم؟ هأنذا أيضاً قد رأيتُ، يقول الرب» (إر 7: 8-11).
وقد تبيَّن للمسيح له المجد، أنَّ صراخ الباعة والمشترين وأصوات البهائم ورُعاتها في الهيكل تليق بمغارة لصوص يقتسمون فيها المسروقات بالخصام، وليس بيت أبيه ومَقْدسه الموقَّر. فكأنه قال لهم: ”دنَّستم بيتي بتجارتكم فيه حتى صار مثل مغارة اللصوص المدنَّسة بالفظائع“، وذلك لأنهم سلبوا الله حقَّه بجعلهم المعبد الإلهي سوقاً للكسب البشري، وسلبوا العابدين الفرصة التي اغتنموها ليرفعوا قلوبهم إلى الله بالصلاة في مَقدسه، وسلبوا الغرباء أموالهم بأنْ خدعوهم وغبنوهم ببيع مواد التقدمة وبصرافة النقود.
وقد أمضى السيِّد له المجد كل هذا النهار في الهيكل يمنع الناس من تدنيسه، حتى أنه لم يَدَع أحداً يجتاز الهيكل بمتاعٍ، وشَغَلَه بالتعليم وعمل المعجزات. وكان رؤساء الكهنة وحُرَّاس الهيكل في كل تلك المدَّة ينظرون إليه بالغيظ ويتآمرون على قتله غير قـادرين أن يُتمِّموا ما تُكِنُّه صدورهم له من الشر.
يوم الثلاثاء من البصخة المقدَّسة:
لما رجع المسيح من بيت عنيا في صباح يوم الثلاثاء إلى المدينة ورأى التلاميذ أنَّ التينة التي لعنها قد يبست، تعجَّبوا، فكلَّمهم عن الإيمان. ولما دخل الهيكل سأله الفرِّيسيون بمكرٍ: «بأيِّ سلطان تفعل هذا؟ ومَن أعطاك هذا السلطان؟». فسألهم عن مصدر معمودية يوحنا المعمدان الذي لم يسمعوا له وأحرجهم، ثم ضرب لهم مَثَل الابنَين، ومَثَل الكرَّامين الأشرار، ومَثَل عُرس ابن الملك. وبعد ذلك سأله الفرِّيسيون عن جواز إعطاء الجزية لقيصر، وسأله الصدُّوقيون عن القيامة، وسأله الناموسي عن الوصية العُظمى، ثم سأل هـو الفرِّيسيين عـن اعتقادهم فيـه وأَظْهَر لهم رياءهم، ثم حذَّر الجموع وتلاميذه من خبث الكَتَبـة والفرِّيسيين، ثم أعطى الويـل للكَتَبَة والفرِّيسيين، ورثَى لحال أورشليم، ومَدَحَ الأرملة ذات الفلسَيْن، ثم أتى بعض اليونانيين وطلبوا أن يَرَوْه، ثم تكلَّم قليلاً مع الجموع.
وفيما هو خارجٌ من الهيكل، أشار له تلاميذه إلى فخامة وعظمة أبنية الهيكل، فأنبأهم بخرابه واضطهاد الأُمم لهم، إذ رَثَى أورشـليم لأجـل خرابها المزمع.
ولما صعد إلى جبل الزيتون، جلس هناك وابتدأ يشرح لتلاميذه القدِّيسين بطرس ويعقوب ويوحنا وأندراوس ترتيب الحوادث وعلامات مجيئه وخراب أورشليم، وقلب الأُمَّة اليهودية وإزالة نظامها، ومجيئه الأخير في يوم الدينونة، وحث الجميع على السَّهَر، ثم ضرب لهم مَثَل العشر العذارى ومَثَل الوزنات، وكان ذلك على جبل الزيتون: «ولما أكمل يسوع هذه الأقوال كلها، قال لتلاميذه: تعلمون أنه بعد يومين يكون الفصح وابن الإنسان يُسلَّم ليُصلب» (مت 26: 2،1). ثم مضى إلى بيت عنيا ليستريح، وفي هذا المساء تشاور رؤساء اليهود على قتله. (يتبع)
(1) المصادر التي رجع إليها هـذا المقال قبطياً وعربياً، هي بعض نُسَخ خطِّيَّة من الأديرة والقاهرة وجهات أخرى، منها واحدة بتاريخ 1499ش/ 1783م، وأخرى سنة 1540ش/ 1824م، وغيرهما. هذا عدا الكُتُب المطبوعة باللغتين اللاتينية والقبطية معاً، والبشائر القبطية المطبوعة سنة 1567ش/ 1851م، والمزامير المطبوعة سنة 1613ش/ 1897م.