«لأن فصحنا أيضاً المسيح قد ذُبح لأجلنا»
(1كو 5: 7)
نيافة أنبا إبيفانيوس
أسقف ورئيس دير القديس أنبا مقار الكبير

ملخَّص العظة التي ألقاها نيافته على إنجيل يوم خميس العهد 17 أبريل 2014م في كنيسة القديس أنبا مقار الكبير بديره العامر ببرية شيهيت.

معنى كلمة ”فصح“:

كلمة ”فصح“ باللغة العبرية تعني: ”عبور“. والفصح يُمثِّل محوراً رئيسياً هاماً في الإيمان والعقيدة في العهد القديم. وقد ارتبط الفصح، بهذا المعنى، بممارسات طقسية وليتورجية هامة (كوليمة الفصح السنوية لدى بني إسرائيل)، وكل ما تعلَّق بها من اشتراك وعمل وممارسات. وصارت ذبيحة الفصح وخدمتها علامةً مميِّزة لكل إيمان العهد القديم.

وقد ارتكز مفهوم الفصح ومعناه في العهد القديم على معنيَيْن أساسيَّيْن يوضِّحان المفهوم العميق لـ ”العبور“. وكِلا المعنيَيْن يُكمِّلان بعضهما إيمانياً. وهذان المفهومان والمعنيان للفصح وذبيحته في العهد القديم كانا: 1. المعنى اللاهوتي للفصح؛ 2. والمعنى الخلاصي للفصح.

أولاً: المعنى اللاهوتي للفصح في العهد القديم:

يَرِد عن خدمة الفصح في سِفْر الخروج ما يلي: «ويكون حين يقول لكم أولادكم: ما هذه الخدمة لكم؟ أنكم تقولون: هي ذبيحة فصح للرب، الذي عَبَرَ عن بيوت بني إسرائيل في مصر لَمَّا ضَرَبَ المصريين وخلَّص بيوتنا. فخرَّ الشعب وسجدوا» (خر 12: 27،26).

وأيضاً يَرِد ما يلي: «فإني أجتاز (أَعبُر) في أرض مصر هذه الليلة، وأضرب كلَّ بِكْرٍ في أرض مصر، من الناس والبهائم. وأصنع أحكاماً بكل آلهة المصريين، أنا الربُّ. ويكون لكم الدمُ علامةً على البيوت التي أنتم فيها. فأرى الدمَ وأَعْبُرُ عنكم. فلا يكون عليكم ضربةٌ للهلاك حين أضرب أرض مصر» (خر 12: 13،12).

هذا المعنى لذبيحة وخدمة الفصح، يفيد أنه كان علامةً وتذكاراً لعبور الرب نفسه على بيوت المصريين وقَتل أبكارهم؛ وعبوره على بيوت الإسرائيليين المرشوشة بدم خروف الفصح، ونجاتهم وفدائهم بتجاوزه لهم بسبب علامة الدم، فهو عبورٌ إلهي لله نفسه.

إذن، فإجابة الأبناء عن معنى خدمة الفصح هذه، هي أنها ذبيحة عبور (فصح) للرب الذي عَبَرَ على بيوت المصريين وأماتهم، وعَبَرَ على بيوت الإسرائيليين وأحياهم وافتداهم بسبب دم الحَمَل المذبوح والمرشوش على الأبواب. فذبيحة الفصح هي تذكار عملٍ فدائي وإلهي.

وقد ساد وتأصَّل هذا المفهوم والمعنى اللاهوتي للفصح، لا سيما في أوساط مُعلِّمي الناموس وكهنة الهيكل للأُمَّة اليهودية. وانتشر هذا المفهوم كذلك في كل ليتورجيات وصلوات الهيكل والمجمع اليهوديَّيْن، كطقسٍ مُقدَّس محفوظ ومتوارث تذكاراً لهذا العمل الإلهي. بل وصارت خدمة الفصح ذُخراً لتجديد الإيمان، واستعادة مجد هذه الأُمَّة ورجائها، كلما زادت ضيقاتها أو تابت إلى الرب إلهها (كما كان في أيام عزرا ونحميا ويوشيَّا الملك... إلخ)؛ بل وأكثر من ذلك، صارت خدمة الفصح التي حفظها هذا الشعب - ولو بصفةٍ رمزية - بذرة لتأسيس سرِّ الفصح الجديد فيما بعد.

ثانياً: المعنى الخلاصي للفصح في العهد القديم:

هذا المعنى الخلاصي لخدمة الفصح، هو الإدراك الشعبي السائد عند القطاع الأوسع من أبناء الأُمَّة اليهودية، والذي يؤخَذ مِمَّا وَرَدَ في سِفْر الخروج: «ويكون متى سألك ابنك غداً قائلاً: مـا هـذا؟ تقول له: بيدٍ قوية أخرجنا الربُّ من مصر من بيت العبودية. وكان لَمَّا تقسَّى فرعون عن إطلاقنا، أنَّ الربَّ قَتَلَ كل بِكْرٍ في أرض مصر، من بِكْر الناس إلى بِكْر البهائم. لذلك أنا أَذبح للربِّ الذكور مِن كل فاتح رَحِم، وأَفدي كلَّ بِكْرٍ من أولادي... لأنه بيدٍ قوية أخرجنا الربُّ من مصر» (خر 13: 14-16).

وأيضاً: «وتُخبر ابنك في ذلك اليوم قائلاً: مِن أجل ما صنع إليَّ الرب حين أخرجني من مصر... لأنه بيدٍ قويَّة أخرجك الربُّ من مصر. فتحفظ هذه الفريضة في وقتها من سنةٍ إلى سنةٍ» (خر 13: 8-10).

فنرى هنا أنَّ مفهوم خدمة الفصح، هو تكريسٌ لمعنى عبور بني إسرائيل من أرض مصر (أرض العبودية) إلى أرض الموعد؛ والخلاص من فرعون وجنوده، الذين أصبحوا في العهد الجديد رمزاً للشيطان وجنوده، الذين أغرقهم الرب في البحر الأحمر. وصار الفصح تذكاراً أبدياً لعبور الشعب البحر الأحمر، وخلاصهم من فرعون ومن عبودية أرض مصر، بحماية الله نفسه الذي ظلَّلهم في الطريق، وفَصَلَ بينهم وبين جنود المصريين، وشقَّ البحر وعبَّرهم فيه، وأغرق فرعون وقواته ومركباته في مياه البحر.

ولعل انتشار هذا المعنى وترسُّخه في ثقافة وذهنية الشعب اليهودي عن الفصح، بكونه عبور من أرض العبودية بذراع الرب القوية، واجتيازهم البحر الأحمر وغَرَق فرعون وجنوده، ونجاتهم؛ هو ما انتشر على مدى الأزمنة حتى وصل إلى يهود الشتات أنفسهم، ومنهم يهود الإسكندرية، الذين صاروا - فيما بعد - نواة الإيمان المسيحي في أرض مصر. وصار الفصح الجديد بالنسبة لهم هو المسيح نفسه، لأنه «ليس بأحدٍ غيره الخلاص» (أع 4: 12). فهو الفصح الذي عَبَرنا به من سلطان إبليس إلى حرية مجد أولاد الله، مِن قِبَل دمه المسفوك على الصليب، وبه عَبَرنا من الموت، وعُتِقنا من قبضة إبليس ومن الخطية وسلطانها إلى نور وحرية مجد أولاد الله، بالقيامة من بين الأموات والحياة الجديدة في المسيح يسوع.

وصارت المعمودية مثال الخدمة الجديدة التي نُمارسها لنَيْل شركة موت المسيح ودفنه وقيامته في جدَّة الحياة كأبناء مفديين لله الحي.

مفهوم الفصح (العبور) في العهد الجديد:

تلاقَى الفهم والإدراك لمعنى الفصح (العبور) في العهد الجديد بالمعنيَيْن اللاهوتي والخلاصي معاً. فحَمَل الفصح المذبوح (في العهد القديم) ودمه المرشوش على الأبواب، صارا رمزاً للحَمَل الحقيقي في العهد الجديد، الذي هو يسوع المسيح ربنا نفسه، وذلك حسب التعبير الكتابي: «لأن فصحنا أيضاً المسيح قد ذُبِحَ لأجلنا» (1كو 5: 7).

ويُمثَّل الفهم اللاهوتي للفصح الجديد، في الذبيحة غير الدموية المُقدَّمة على المذبح في سرِّ الإفخارستيا، والتي هي التجسيد الحي لذبيحة المسيح (خروف الفصح)، وموته على الصليب، والفداء الموهوب لنا بجسده ودمه الأقدسين، والحياة الأبدية المُعطاة لنا، بالاشتراك في هذه الذبيحة الإلهية القائمة كل حين (الفصح الجديد).

أما المعنى والفهم الخلاصي للفصح (أو العبور) في العهد الجديد، فيتمثَّل في سرِّ المعمودية، واجتيازنا شركة الموت والدفن مع المسيح، لنولَد روحياً كأبناء لله العَلي، بقيامة الحياة والميلاد الثاني بتجديد الروح القدس؛ حيث لا يكون للشيطان أو الخطية سلطانٌ علينا، لأننا عَبَرنا من بنويَّة الجسد والتراب إلى حرية مجد البنويَّة لله، وصرنا أبناء الملكوت السمائي والحياة الأبدية.

إنجيل لقَّان خميس العهد:

يُحدِّثنا القديس يوحنا في إنجيل لقَّان اليوم عن رؤية مُميَّزة للفصح الجديد، الذي صنعه الرب يسوع وتحدَّث عنه وأَتَمَّه، ليكون لنا مثالاً وأساساً لإيماننا وممارستنا أيضاً. ويُعبِّر الرسول يوحنا عن ذلك بقوله بالروح القدس:«أَمَّا يسوع قبل عيد الفصح، وهو عالِمٌ أنَّ ساعته قد جاءت لينتقل (يَعْبُر) من هذا العالم إلى الآب، إذ كان قد أحبَّ خاصَّته الذين في العالم، أحبَّهم إلى المُنتهى» (يو 13: 1).

من هذه الكلمات الإلهية الرائعة التي نطق بها الرسول يوحنا، يتضح لنا أمران:

الأمر الأول: هو أنَّ العبور الجديد الذي أتمه الرب يسوع، كان عبوراً من هذا العالم إلى الآب. وحيثما سيكون المسيح، فنحن نؤمن أننا سنكون معه، لأنه كان يُصلِّي إلى الآب قائلاً: «أُريد أنَّ هؤلاء الذين أعطيتني يكونون معي حيث أكونُ أنا، لينظروا مجدي...» (يو 17: 24)؛ وأيضاً قوله: «وأنا إنْ ارتفعتُ عن الأرض، أجذب إليَّ الجميع» (يو 12: 32)، وذلك بموته على الصليب.

الأمر الثاني: هو أنَّ هذا العبور من الأرض إلى السماء (أي حضن الآب)، إنما هو بسبب المحبة الكاملة التي أحبنا بها الله في المسيح يسوع إلى المنتهى.

فالعبور هو عبور من هذا العالم إلى الآب عَبْر موت المسيح على الصليب، كحَمَلٍ بلا عيب، وفصح جديد مُقدَّم من أجل حياة العالم كله: «لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل مَن يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية» (يو 3: 16).

أما سبب تقديم ذاته من أجلنا، فهو كما ذكرنا ”المحبة“، التي لا يوجد سببٌ آخر سواها يدعو الرب لهذا البذل غير المحدود للحَمَل الذي بلا عيب، وذلك بلا مقابل إلاَّ محبته لهذه الخليقة المحبوبة لديه إلى المنتهى. فالعبور هنا، بالصليب والموت، هو نحو الآب بدافع الحب غير المتناهي وغير المُدرك إلى المنتهى.

ما هي هذه الخدمة لنا في العهد الجديد؟

إنَّ شركتنا في ذبيحة المسيح (فصحنا الجديد)، أو شركة الإفخارستيا الحيَّة المُقدَّمة لنا كل يوم على المذبح؛ سوف تؤهِّلنا لشركة آلامه وقيامته والحياة الجديدة المُعطاة لنا من قِبَل موته على الصليب من أجلنا وقيامته. وبهذه الشركة في جسده ودمه الأقدسين (أي ذبيحته)، ننال عبوراً معه إلى السماء، لأنه «أقامنا معه وأجلسنا معه في السماويَّات» (أف 2: 6). وقد وعدنا أنه: «أنا إنْ ارتفعتُ عن الأرض (على الصليب)، (سوف) أجذب إليَّ الجميع» (يو 12: 32). فلا شكَّ أن عبور الرب يسوع إلى الآب، عَبْرَ موته على الصليب من أجلنا، إذ هو رأس الجسد، أي الكنيسة التي نحن أعضاؤها؛ سوف يرفع كل أعضاء جسده معه، ليُقدِّمنا إلى الآب كمفديين وممسوحين بدم صليبه، فننال القبول والرحمة أمام عرش الله. هذه هي الممارسة الأولى للعبور مع المسيح، بشركة ذبيحته (الإفخارستيا) والاتحاد به.

أما الممارسة الثانية الحياتية التي بها نَعْبُر من الموت إلى الحياة، فهي ”المحبة الأخوية“ التي على مثال محبة المسيح. فالقديس يوحنا يقول: «نحن نَعْلَم أننا قد انتقلنا من الموت إلى الحياة، لأننا نُحِبُّ الإخوة» (1يو 3: 14). فالمحبة التي بسببها عَبَرَ المسيح من العالم إلى الآب، بالموت من أجل العالم على الصليب، هي نفسها التي تَعْبُر بنا من الموت إلى الحياة، إنْ أحببنا بعضنا بعضاً على مثال محبة المسيح، أي ”محبة إلى المنتهى“. فهي ستكون لنا مثالاً للفصح الجديد (العبور)، والتي بها نَعْبُر نحو الحياة الأبدية.

إذن، فنحن مؤهَّلون للعبور مع المسيح، بتمسُّكنا بالمحبة الأخوية الكاملة، وبالإيمان والشركة الدائمة في ذبيحة المسيح الحيَّة (الإفخارستيا)، وبختم المعمودية المقدَّسة التي هي مثال موت المسيح ودفنه وقيامته. فهذه كلها تُعطينا شركة العبور مع المسيح لننال الجعالة (المكافأة) والخلاص، بسبب المحبة الكاملة، التي هي على مثال محبة المسيح. لذلك يقول المسيح في إنجيل القديس متى ويُشدِّد قائلاً: «فإنْ قدَّمتَ قُربانك إلى المذبح، وهناك تذكَّرتَ أنَّ لأخيك شيئاً عليك، فاترك هناك قُربانك قُدَّام المذبح، واذهب أولاً اصطلح مع أخيك، وحينئذ تعالَ وقدِّم قُربانك» (مت 5: 24،23). لأنه بدون المحبة لن تُقبَل قرابين، ولكن بالمحبة والشركة في ذبيحة المسيح (فصحنا الجديد)، ننال غفراناً للخطايا وقبولاً وعبوراً وخلاصاً أبدياً ونصيباً في الحياة الأبديـة.

ولربنا المجد الدائم إلى الأبد، آمين.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis
18 - مجلة مرقس أبريل 2015 مجلة مرقس أبريل 2015 - 19