من تاريخ كنيستنا
- 57 -


الكنيسة القبطية في القرن العاشر
البابا أبرآم السرياني
البطريرك الثاني والستون
في عداد بطاركة الكرسي الإسكندري
(975 - 978م)
(وآية نقل جبل المقطَّم)

لما تنيح البطريرك أنبا مينا عام 974م، وبَقِيَ كرسي الإسكندرية خالياً لمدة سنة أو أكثر؛ اجتمع الأساقفة من إيبارشياتهم من الوجهين البحري والقبلي والقاهرة، ومعهم كُتَّاب (وهم الأراخنة الذين يعملون في دوائر الحكومة) وكهنة الإسكندرية (المدينة التي سيُرسم عليها المرشَّح ليكون أسقف الإسكندرية وبالتالي بابا الإسكندرية)، ومكثوا عدة أيام يبحثون ويتباحثون، لكنهم لم يجدوا مَن يرتضوه كفؤاً ليُقدِّموه للرسامة.
وكان بالقاهرة إنسان يعمل تاجراً، وكان سريانياً (أي من سوريا) اسمه إبراهيم ابن زرعة. وكان من التجَّار الكبار في ذلك الوقت، وقد اكتسب تجارته من التردد على مصر، ثم استقرَّ بها. وكان يمدُّ الخليفة المعزَّ لدين الله الفاطمي وكبار رجال الدين والدولة بما يحتاجونه من السلع النفيسة. ومن هنا نشأت صداقة وثيقة بين هذا التاجر وبين الخليفة ورجال دولته. وفي الوقت نفسه كان له صدقات يُقدِّمها للأرامل والمساكين والضعفاء والمستورين (أي السقماء والأيتام والأرامل). ويصفه كاتب كتاب ”تاريخ البطاركة“، والذي كان مُعاصراً له، بأنه ”كان شيخاً، ولحيته نازلة على صدره مثل أبينا إبراهيم أبي الآباء“. وكان جميع أراخنة مصر يحبُّونه ويكرمونه.

اجتماع الشعب والإكليروس لانتخاب

مَن يصلح للكرسي البطريركي:

وبمناسبة الاحتفال بعيد الميلاد المجيد اجتمع الشعب بكل فئاته وممثليه في كنيسة الشهيدين سرجيوس وواخس بمصر القديمة بقصر الشمع، التي كانت تُسمَّى ”الكاثوليكا“، أي الكنيسة الكبرى (أي البطريركية)، ورفعوا كلهم قلوبهم مُصلِّين من أجل اختيار البطريرك.

وفي هذه الأثناء دخل إلى الكنيسة ”إبراهيم“ السرياني هذا ليُصلِّي. فانتبه إليه أحد الأراخنة، وأومأ إلى أحد الأساقفة قائلاً له: ”أنتم تطلبون مَن يصلح للبطريركية، وهوذا الذي يستحقها قد أرسله الله لنا“.

وسمع ذلك جماعة من الحاضرين، فأرضاهم قوله، ولكنهم لم يُظهِروا ذلك. ثم بعد الصلاة دعاه أحد أصدقاء الأراخنة كأنه يريد أن يُخاطبه في شيء، فلما تقدَّم وصار في صحبتهم، صاحوا جميعهم: هذا هو الذي اختاره الرب. وأمسكوه وقيَّدوه بالحديد، فصرخ وبكى وقال: ”ما أستحِق هذا الأمر“. فحملوه للوقت وساروا به إلى الإسكندرية، وقسموه (أي رسموه بوضع الأيادي على كرسي الإسكندرية).

بداية حبريته: توزيع ماله على الفقراء،

وبناء الكنائس والأديرة:

- وكان أول عمل عمله هذا البابا هو إبطال العادة السيئة التي دخلت إلى الكنيسة منذ عشرات السنين، وهي ”السيمونية“ (نسبة إلى سيمون الساحر الذي أراد أن ينال موهبة الله بدراهم)، التي كانت تُفرض على كل مَن يُرسَم أسقفاً بأن يدفع للبطريرك مبلغاً من المال مقابل الرسامة(1). وهذا يعني أن هذه العادة السيئة كانت مثار اشمئزاز واعتراض من المُحبين للكنيسة وقوانينها الرسولية.

- وأما الثروة التي كانت في حوزة البابا أبرآم قبل توليه، فيقول كتاب ”تاريخ البطاركة“ إنه وزَّع نصفها على الفقراء والمساكين، والنصف الآخر صرف منه على ترميم الكنائس المتهدمة وبناء غيرها.

- ولما رأى البابا أن جماعةً من الأراخنة يحتفظون لديهم بسراري ويُنجبون منهم أبناءً، أصدر حرماً على مَن يفعل ذلك، فأطاعوه كلهم إلاَّ أرخن واحد (هو أبو السرور الكبير) من الذين يعملون في دواوين الخليفة، فلم يُخرِج هذا السراري من عنده. فاستدعاه الأب البطريرك وترجَّاه بأدب وذوق إلى حدِّ أن ضرب له مطانوه، ومع ذلك لم يُطعه، وبَقِيَ على سوء فعله.

وحينئذ توجَّه البابا البطريرك إلى هذا الرجل ليُخاطبه في داره، وقال في نفسه: ”لعلِّي إذا سعيتُ إليه يخجل مني“. فلما أعْلَموا الرجل أن البابا واقفٌ يقرع على الباب، استمر في غيِّه ولم يُجبه من الداخل بكلمة. فنفض الأب البطريرك قدميه على عتبة الباب (كقول الإنجيل: مت 10: 14). ويقول كتاب ”تاريخ البطاركة“: إنه بعد أيام، سُمِعَ أن هذا الأرخن هلك وكل ما له.

الحوار مع أصحاب الأديان الأخرى:

كان للملك المعز رجلٌ يهوديٌّ اسمه ”أبو يعقوب ابن كلس“. وكان قد وصل مع المعزِّ من المغرب وأسلم على يديه. وحدث أن صديقاً يهودياً لهذا الوزير اسمه ”موسى“ قد نال من المعزِّ حظاً وافراً بسبب صداقته لوزيره. فلما رأى محبة الملك للأب البطريرك وتكريمه له، حسده ودبَّر له مؤامرة، إذ قال للمعزِّ: ”أنا أريد أن تستدعي بطريرك النصارى لأُجادله بين يديك ليُظهِر لك دينه“. ومن أدب المعزِّ واحترامه للأب البطريرك لم يواجهه المعزُّ بذلك صراحة، لكنه قال له: ”إن رأيتَ أن تُحضِر أحد أولادك الأساقفة ليُجادل اليهودي، فافعل“! ففهم الأب البطريرك الأمر، وقرروا يوماً معلوماً يكون فيه اجتماعهم.

وكان من بين الأساقفة الأسقف ساويرس أسقف كرسي الأشمونين(2). وكما قلنا إن الله أعطاه نعمة وقوة في اللغة العربية، وقد جادل من قبل قضاة من شيوخ المسلمين بأمر الملك المعزِّ. ولكنه لم يكن يتطرَّق إلى تجريح أحد أو تسفيه عقائدهم؛ بل كان يلجأ للمقولات الرمزية، كما سجَّل كتاب ”تاريخ البطاركة“ موقفاً يوضِّح هذا. إذ حدث أن الأسقف ساويرس كان جالساً يوم جمعة مع جماعة من الأصدقاء من بينهم قاضي القضاة، فأراد هذا الأخير أن يستهزئ به وكان كلب يعبر أمامهم، فسأل الأسقف ساويرس: ”ماذا تقول يا ساويرس في هذا الكلب: أنصراني هو أم مسلم“؟! فقال له الأنبا ساويرس بأدب بالغ: ”اسأله وهو يجيبك“! فقال له القاضي: ”وهل الكلب يتكلَّم؟ وإنما نريدك أنت أن تقول لنا“. يجب أن نلاحظ أن الأسقف ساويرس كان لا يحب أن يردَّ على الاستهزاء بالإساءة (كما سنرى أيضاً في قصة أخرى مع يهودي يريد أن يُجادله). فردَّ الأنبا ساويرس بحذق: ”إذن، يجب أن نختبر هذا الكلب. فاليوم يوم الجمعة، والمسيحيون يصومون ولا يأكلون فيه لحماً؛ وأما المسلمون فلا يصومون يوم الجمعة، فيمكن أن يأكلوا اللحم. فقدِّموا أمام الكلب لحماً وانظروا هل سيأكله أم يصوم عنه، واحكموا أنتم“. فلما سمعوا كلامه، تعجَّبوا من قوة جوابه وتركوه.

أخلاقيات المجادلات:

نعود إلى طلب صديق الوزير اليهودي، الذي طلب من المعزِّ أن يتجادل مع الأب البطريرك في حضوره. فأخذ البطريرك الأسقف ساويرس في اليوم الذي استقرَّ عليه حضوره، ومضيا معاً إلى القصر حيث الملك المعزُّ. وحضر موسى اليهودي والوزير يعقوب بن كلس، فجلسا وقتاً طويلاً صامتين. فقال لهم الملك المعزُّ: ”تكلَّموا فيما اجتمعتم لأجله“. ثم توجَّه بالكلام للأب البطريرك قائلاً: ”تكلَّم يا بطريرك وقُل لنائبك أن يقول ما عنده“. فقال البطريرك للأسقف ساويرس: ”تكلَّم يا ولدي، والله يوفِّقك“. فقال الأسقف للملك المعزِّ: ”ما يجوز مخاطبة رجل يهودي في حضرة أمير المؤمنين“. فاحتجَّ الرجل اليهودي: ”أنت تُعيبني بهذا، وكأنك تقول بحضرة أمير المؤمنين ووزيره إني جاهل“! (وطبعاً لم يَقُل الأسقف ساويرس إن الرجل اليهودي جاهل، بل هذه أيضاً استثارة للأسقف أن يردَّ عليه). ولكن الأسقف، بسرعة بديهة، قال للملك المعزِّ: ”إذا ظهر الحق لأمير المؤمنين، هل يغضب أحد من الحق“؟ فردَّ الملك المعز قائلاً: ”أظن أنه لا يجوز لأحد أن يغضب في المجادلة، بل ينبغي للمجادلين أن يقول كل واحد منهم ما عنده، ويوضِّح حجَّته كيفما شاء“.

(من هذه المجادلة يتضح أن المعزَّ - حسبما ذُكِرَ عنه - كان يجري في قصره حوارات كثيرة، ويُكافئ الذين تكون ردودهم مُقنعة مُفحمة تعجب الملك).

وعندما سمع الحاضرون رد الملك المعز، قال الأسقف ساويرس: ”ما أنا الذي شهدتُ عليك الآن أيها اليهودي بالجهل، بل نبيٌّ كبير جليل عند الله هو الذي شهد عليك بذلك“. فقال له اليهودي: ”ومَن هو النبيُّ“؟ فقال له الأسقف: ”هو إشعياء الذي قال في أول كتابه: «إن الثور عرف صاحبه، والحمار يعرف مذود صاحبه؛ أما إسرائيل فلم يعرفني» (إش 1: 3)“. (وهكذا أيضاً امتنع الأسقف ساويرس عن تلقيب اليهودي بالجهل كما أراد اليهودي أن يستدرجه لكي يُخطئ في الكلام). فسأل الملك المعز الرجل اليهودي موسى: ”أليس هذا القول صحيحاً“؟ فردَّ اليهودي: ”نعم، هذا هو مكتوب“. فقال الأسقف: ”أليس الله هو الذي قال إن البهائم أكثر فهماً منكم؟ وما يجوز لي أن أُخاطب في مجلس أمير المؤمنين مَن تكون البهائم أعقل منهم، والله هو الذي وصفهم بالجهل“. وأُعجب الملك المعزُّ بذلك القول، وأمرهم بالانصراف.

التجربة الخطيرة:

اختبار الإيمان الذي يُزحزح الجبل:

إن الجدل بالكلام في أمور الإيمان قد ثبت أنه لا يفيد شيئاً. لكن اختبار الإيمان بوعود المسيح هو دائماً الشهادة الدامغة على الحق أقوى من كل جدال. وهذا درس لكل الأجيال. وقد سمح الله بهذه التجربة لمنفعة ذلك الجيل الذي بدأت فيه المسيحية تتوارى أنوارها وتنحجب قوتها بسبب عِظَم الاضطهادات والضيقات التي جابهت ذلك الزمان.

لذلك فقد سمح الله أن تتمكن العداوة بين الفريقين، ويقوى غضب الوزير، وصار يطلب عثرة على البابا البطريرك بسبب هذا الحوار الأخير؛ ولكن المسيح - له المجد - كان دائماً يحفظ مختاريه وعبيده حينما يحذرون من الانسياق لغوايات الشيطان فيُخطئون.

التجربة الكبرى:

فبعد جهد كبير وجد اليهودي الطريق للوقيعة، فقال للمعزِّ: ”مكتوب في إنجيل النصارى: «مَن كان عنده إيمان مثل حبة خردل، فإنه يقول للجبل انتقل واسقط في البحر، فيكون» (انظر مت 17: 20)، فيرى أمير المؤمنين مطالبتهم بإثبات هذا القول حتى يعلم أنهم على خطأ وكذب. فإن لم يفعلوا وَجَبَ أن يُفعل بهم ما يستحقونه من كذبهم“. فوافقه الملك على هذا الكلام، وأرسل في طلب الأنبا أبرآم البطريرك، وقال له: ”ماذا تقول في هذا الكلام: هل هو في إنجيلكم أم لا“؟ فردَّ الأب البطريرك: ”نعم، إنه موجود في الإنجيل“. فقال له: ”فهوذا أنتم نصارى، ألوف وربوات في هذه البلاد (كان الأقباط المسيحيون ما زالوا أغلبية في ذلك الوقت)، وأريد أن تُحضِر لي واحداً منهم تظهر هذه الآية على يديه. وأنت، أيها المتقدِّم عليهم، يجب أن يكون عندك القدرة على إجراء هذا الفعل، وإلاَّ أفنيتكم بالسيف“!

حينئذ بُهت الأب البطريرك وأصابه خوف عظيم، ولم يدرِ ما يُجيبه به. فألهمه الله أن يقول للملك: ”أمْهِلْني ثلاثة أيام حتى أبحث وأطلب من الرب - جلَّ اسمه - أن يُطيِّب قلب أمير المؤمنين على عبيده“، فأمهله.

وعاد الأب البطريرك إلى مقرِّه بالقاهرة، واستدعى الكهنة والأراخنة وجميع الشعب المؤمن، وعرَّفهم الأمر بينما كان يبكي. وكان هناك بعض رهبان وادي هبيب (وادي النطرون). وجعل على جميعهم قانوناً أن لا يمضي أحد إلى منزله في هذه الثلاثة الأيام، بل أن يجتمعوا لمداومة الصلاة في الكنيسة الليل والنهار. ففعلوا ذلك طيلة الثلاثة الأيام ولياليها. وأما الأب البطريرك فلم يأكل فيها البتة، بينما كان البعض يفطر من الليل إلى الليل على خبز وملح وماء يسير.

وظلَّ الأنبا أبرآم البطريرك قائماً يبكي بين يديِّ الله حتى لم تَعُد فيه قوة. وكان هذا الاجتماع المبارك في كنيسة العذراء بقصر الشمع المعروفة بالمعلَّقة.

الرؤيا المباركة:

ولما كان صباح اليوم الثالث، سقط البطريرك القديس على الأرض من حزن قلبه وصومه وتعبه، وغفا غفوةً يسيرة، فرأى في رؤيا السيدة الطاهرة العذراء مريم وهي تقول له بوجه فَرِح: ”ما الذي أصابك“؟ فقال لها: ”أََمَا تنظرين حزني يا سيدتي؟ فإن ملك البلاد قال لي إنْ لم تُظهِر لي في هذا اليوم آية نقل الجبل، فسأقتل جميع أهل النصرانية بديار مصر وأبيدهم من مملكتي بالسيف“. فقالت له العذراء: ”لا تخف، فإني ما أغفل عن الدموع التي سكبتها في كنيستي هذه. قُمْ الآن وانزل من ههنا، واخرج من باب درب الحديد الذي يؤدِّي إلى السوق الكبير. ففيما أنت خارج، ستجد إنساناً على كتفه جرَّة مملوءة ماءً، ومن علامته أنه بعين واحدة. فأمسِكْه، فهو الذي تظهر هذه الآية على يديه“.

العثور على الأخ المبارك:

فاستيقظ الأب البطريرك للوقت وهو مذهول، وكان وقت الفجر، ونهض بسرعة ولم يَدَع أحداً يعلم بذلك، حتى وصل إلى الباب بدرب الحديد، فوجده مغلقاً. فشكَّ في قلبه، وقال: ألعلَّ الشيطان لعب بي؟ ثم دعا البوَّاب، ففتح له. وإذا بأول مَن دخل من الباب الرجل الذي قيل له عنه. فأمسكه وهو يضرب مطانوه للرب، قائلاً: ”ارحم يا رب هذا الشعب“. ثم أخبر الرجل بالسبب في مجيئه إليه. فقال له الرجل: ”اغفر لي يا أبي، فإني خاطئ، ولم أبلغ إلى هذا الحد“.

فعند ذلك أخبره الأب البطريرك بما قالته له العذراء الطاهرة عند ظهورها له. ثم قال له: ”ما صناعتك“؟ فأراد أن يخفي أمره، فرشم الأب البطريرك عليه علامة الصليب وألحَّ عليه أن لا يخفي عنه شيئاً من أمره.

فقال للأب البطريرك: ”يا أبي، سأخبرك بحالي على أن تكتمه. فأنا رجل دبَّاغ، وهذه عيني التي تراها، أنا قلعتُها لأجل وصية الرب عندما نظرتُ نظرة شهوة لِمَا ليس لي، فأحسستُ أني ماضٍ إلى الجحيم بسبب هذه النظرة، ففكَّرتُ وقلتُ: الأفضل لي أن أمضي إلى الحياة بعين واحدة، كما قال المسيح، أخْيَر من أن أمضي إلى الجحيم بعينين اثنتين. وأنا أعمل هنا أجيراً لدى رجل دبَّاغ. وما يفضل عندي من الأجر الذي أعمل مقابله بعد أن آكل خبزي، أُعطيه للمستورين المنقطعين من الإخوة رجالاً ونساءً. وهذا الماء الذي أحمله أُقدِّمه لهم كل يوم قبل أن أمضي إلى عملي، وأمضي به إلى قوم فقراء منهم مِمَّن لا قدرة لهم على شراء الماء من السَّقَّا. فنهاري كله أعمل في المدبغة، وليلي أكون فيه قائماً في الصلاة. وهذه هي قصتي، وهذا هو حالي.

وأنا أسألك يا أبي أن لا تُظهِرني لأحد، فليس لي قدرة أن أحتمل مجد الناس. ولكن الذي أقوله لك، فافعلْهُ: أُخرج أنت وكهنتك وشعبك كله إلى الجبل (جبل المقطم القريب والمشرف على القاهرة القديمة) الذي قال لك الملك عنه، ومعكم الأناجيل والصلبان والمجامر والشمع الكبير، وليقفْ الملك وعسكره وجماعته في جانب، وأنت وشعبك في جانب آخر، وأنا خلفك واقف في وسط الشعب بحيث لا يعرفني أحد، واقرأ أنت وكهنتك وصيحوا قائلين: "يا رب ارحم - كيرياليصون" ساعة بأكملها، ثم أُؤمرهم بالسكوت والهدوء وتسجد ويسجدون كلهم معك، وأنا أسجد معكم من غير أن يعرفني أحد. وهكذا تفعل ثلاث مرات. وفي كل مرة تسجد وتقف وتصلِّب على الجبل، فسترى مجد الله“.

فلما قال هذا القول، طاب قلب الأب البطريرك بما سمعه منه. ثم قام الأب البطريرك هو وجميع الشعب معه وذهبوا إلى الملك وقالوا له: ”هيا إلى الجبل“. فأمر الملك عساكره وخواصه ووجوه دولته بالخروج. وضُربت الأبواق، وخرج الملك المعزُّ ووزيره معه، وتقدَّم اليهودي موسى.

ظهور الآية:

وفعل الأب البطريرك كما قال له ذلك القديس، ووقف الملك المعزُّ وأصحابه في جانب، وجميع المؤمنين المسيحيين والأب البطريرك في الجانب الآخر. ووقف الرجل القديس خلف الأب البطريرك، ولم يكن في الجمع مَن يعرفه إلاَّ الأب البطريرك وحده، وصرخوا: ”يا رب ارحم“ دفعات كثيرة، ثم أمرهم البابا بالسكوت. وسجد الأب البطريرك على الأرض، وسجدوا جميعهم معه ثلاث مرات. وفي كل مرة يرفع الأب البطريرك وجهه ويُصلِّب على الجبل، يرتفع الجبل عن الأرض. فإذا سجدوا، نزل الجبل إلى حدِّه.

فخاف الملك المعزُّ خوفاً عظيماً، وصاح الملك والذين معه: ”الله أكبر، لا إله غيرك“. ثم قال الملك المعز للبطريرك بعد ثالث دفعة: ”كفاك يا بطريرك، قد عرفتُ صحة دينكم“. فلما تفرَّق الناس، التفت الأب البطريرك ليطلب الرجل القديس، فلم يجده.

ثم قال الملك للبطريرك أنبا أبرآم: ”تمنَّى عليَّ بشيء أفعله لك“. فقال له: ”ما أتمنَّى شيئاً إلاَّ أن يُثبِّت الله دولتك، ويُعطيك النصر على أعدائك“. فقال الملك للأب البطريرك ثانيةً: ”تمنَّى يا بطريرك“. وأعاد عليه القول دفعة ثالثة، قائلاً له: ”لابد أن تتمنَّى عليَّ شيئاً“. فقال له الأب البطريرك: ”إذا كان ولابد من التمنِّي، فأنا أسأل مولانا أن يأمر - إن أمكن - ببناء بيعة القديس "مرقوريوس أبو سيفين" بالقاهرة (مصر القديمة)، لأنه منذ أن هدموها لم يُمكِّنونا من إعادة بنائها، بل جعلوها شونة للقصب؛ وكذلك الكنيسة المُعلَّقة بقصر الشمع، فإنه انهدم من جدرانها الشيء الكثير، وتصدَّع بعضها“، وسأل الملك التصريح بتجديدها أيضاً. فأمر الملك للوقت أن يُكتب للأب البطريرك مرسوم بتمكينه من ذلك. وصرف الملك من بيت المال ما يصرفه الأب البطريرك في عمارة هذه الكنائس. فأخذ الأب البطريرك المرسوم، وأعاد المال قائلاً للملك المعزِّ: ”بيت المال أحق بهذا المال“.

فلما قرأ الأنبا أبرآم المرسوم عند كنيسة القديس مرقوريوس، اجتمع الباعة والغوغاء الذين هناك، وقالوا: ولو قُتلنا أجمعين بسيف واحد، ما نسمح لأحد أن يجعل هنا حجراً على حجر في هذه الكنيسة. فعاد الأب البطريرك إلى الملك المعزِّ وأفاده بالخبر، فغضب لذلك، وأتى وجميع عساكره إلى المكان ووقف وأمر بحفر الأساس. فتم الحفر بسرعة، واستُدعِيَ عدة بنَّائين، وجُلِبت الحجارة من كل مكان بأمر الملك المعز، وبدأوا البناء.

ولم يجسر أحد أن ينطق بكلمة إلاَّ شيخ واحد كان يصلِّي بأولئك الباعة في المسجد الذي هناك، وهو الذي كان يُحرِّضهم. فألقى بنفسه في الأساس، وقال: أريد اليوم أن أموت على اسم الله ولا أدع أحداً يبني هذه الكنيسة. فعَلِمَ الملك المعز بذلك، وأمر أن تُرمَى عليه الحجارة ويُبنَى فوقه. فلما أُلقيت عليه الحجارة والجير، وأراد أن يقوم؛ لم يُمكِّنه أعوان الملك، لأن المعزَّ كان قد أمر بدفنه في الأساس الذي طرح نفسه فيه.

فلما رأى الأب البطريرك ذلك، نزل عن دابته، وتوسل لدى الملك المعز وتشفَّع من أجل هذا الرجل، حتى أمر الملك بإصعاده من الأساس. ولم يُصدِّق الرجل أنه خرج سالماً من الأساس بعد أن أشرف على الموت.

وعاد الملك المعزُّ إلى قصره. ولم يجسر أحدٌ بعد ذلك أن ينطق بكلمة واحدة حتى كملت عمارة الكنيسة.

وكذلك كملت عمارة كنيسة المُعلَّقة، وتم بناء كل الكنائس التي تحتاج إلى العمارة، ولم يعترض أحد الأب البطريرك في شيء من هذا.

وكذلك في الإسكندرية، بنى فيها الأنبا أبرآم كنائس في أماكن كثيرة كانت قد تهاوت، وأنفق في ذلك مالاً عظيماً.

(يتبع)

+++

تعليق:

يُلاحَظ أن هذه الحادثة هي ”آية“ أي ”علامة“ واضحة كل الوضوح عن صدق كلمة الله ووعود المسيح لمَن يُنفِّذ وصاياه، وعلى الأخص أمام غير المؤمنين:

+ فأول كل شيء واجه الأب البطريرك مع أساقفة الكنيسة والرهبان والكهنة والأراخنة تحدِّي الملك بالصلاة والصوم.

+ إن الله اختار هذا الرجل الدبَّاغ العامي (ولم يذكر ”تاريخ البطاركة“ اسمه) ليكون واسطة إظهار هذه الآية. ويُلاحَظ من قصته أن الله اختاره بسبب كونه أميناً في حِفظ وصية المسيح.

+ إن صِدق هذه الحادثة تاريخياً تظهر في أن كاتب هذه الحادثة كان شاهداً عياناً، وهو الأسقف ساويرس بن المقفَّع مؤلف كتاب ”تاريخ البطاركة“، وفي الوقت نفسه كان مرافقاً دائماً للبابا.

فليتمجَّد اسم الله القدوس في قديسيه على مدى الدهور. آمـين.


(1) بدأت في عهد البابا خائيل الثالث (انظر عدد نوفمبر 2007، من صفحة 32-36).
(2) وقد عرضنا سيرته ونشاطه العلمي العدد الماضي (مارس 2008، من صفحة 29-34).

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis