دير القديس العظيم أنبا مقار
الصفحة الرئيسية  مجلة مرقس الشهرية - محتويات العدد

مقالات تعليمية

المصادر الأساسية

لتعاليم الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية

-2-

الليتورجية

العبادة الليتورجية

 

1 - الاستعلان الإلهي (الوحي): أ - الكتاب المقــدس، ب - التقليد؛ 2 - الليتورجية؛
3 - المجامع؛ 4 - آباء الكنيسة؛ 5 - القديسون؛ 6 - القوانين الكنسية؛ 7 - الفن المقدس (الأيقونات).

استدراك:

نعود إلى مواصلة الترتيب المذكور عاليه. فبعد البند ”ب“ أي المقالات المتحدثة عن التقليد أو التسليم الإلهي الرسولي، اخترنا البند رقم ”4“ - آباء الكنيسة (الذي نُشر في مجلة مرقس عدد فبراير وعدد مارس سنة 2006)، ونعود في هذا العدد (أبريل سنة 2006) إلى الترتيب حيث نتحدث عن البند رقم ”2“ - الليتورجية.

مقدمة:

تتميز الكنيسة الأرثوذكسية بكافة أنواع انتسابها الوطني بتقليدها الليتورجي الزاخر. والليتورجيا الأرثوذكسية تتضمن قصائد شعرية في تسبيح الله وصلوات وطلبات وابتهالات عن كل فروع الحياة وأنواع تسبيح مختلفة متعددة، واحتفالات بأعياد المسيح وتذكارات القديسين، وغير ذلك مما يعرفه القارئ ويشترك فيه على مدى العام الليتورجي الكنسي الذي يبدأ مع حلول أول توت رأس السنة القبطية وحتى شهر النسيء بأيامه الخمسة أو الستة في نهاية العام الكنسي.

العبادة الليتورجية تسجيلٌ للتعليم المسيحي:

وما صار غير مشروح ولم يَعُدْ يلقى اهتماماً من الدراسات والتعليم في مدارس الأحد والكنيسة، هو أن العبادة الليتورجية في الكنيسة تحوي تسجيلاً أميناً لإيمان الكنيسة وتعاليمها بمنتهى الدقة والأصالة التاريخية.

فالعبادة الليتورجية ليست مجرد ألحان وهزَّات محددة في إلقائها، أو مجرد مهارة في معرفة طقوس القداس بحركاته الدقيقة المُبدعة ذات المعاني الرمزية، أو مجرد الدقة في تحديد زمن اللحن الفرايحي وزمن اللحن الشعانيني أو اللحن الحزايني؛ بل إن ما هو رائع أيضاً، هو أن كلمات الخدمات الليتورجية سواء القداس الإلهي أو التسبحة السنوية أو الخدمات الكنسية لأسرار الكنيسة السبعة وخدمات غير هذه الأسرار السبعة مثل قداس اللقان وقداس تقديس الزيت وطقس السجدة وغيرها؛ تحوي تسجيلاً دقيقاً للتعليم الروحي والتحديد العقائدي والكنسي للإيمان المسيحي، بل إن اختيار الميامر (أي عظات آباء الكنيسة) التي تُقرأ في المناسبات الكنسية المختلفة، وترتيب القراءات الكنسية على مدار العام كله، تُعتبر وكأنها مدرسة لاهوتية تُعلِّم الشعب أعمق أسرار الإيمان المسيحي.

المواظبة على العبادة الليتورجية هي سر حياة الأقباط:

فلا عجب إن كان أقباط مصر متمسكين بإيمانهم بالمسيح طوال هذه العشرين قرناً بالرغم من تتابُع الاضطهادات والتضييقات عليهم! فالسرُّ يكمن في إخلاصهم لحضور الكنيسة بعبادتها الليتورجية ومناسباتها المتنوعة، حتى في الأزمنة التي عزَّت فيها أبنية الكنائس بسبب هدمها وعدم إمكان إعادة بنائها على مدى العصور، فكان الشعب يتكبَّد السير على أقدامه مئات الكيلومترات ليصل إلى أقرب كنيسة يوم الأحد. هذا هو أيضاً سرُّ الحرب الشيطانية من أجل تعطيل بناء الكنائس في كل الأجيال منذ عصر الرومان (فكان الأقباط يصلُّون في سراديب تحت الأرض) وحتى اليوم.

فالعبادة الليتورجية بكل فروعها هي مدرسة لتلقين الإيمان وتعميق المفاهيم الليتورجية وتثبيت المؤمن في شركته مع القديسين الذين انتقلوا من هذا العالم منتصرين.

العبادة الليتورجية عبادة إنجيلية:

وأيُّ مؤمن يفتح الكتب الكنسية الليتورجية يتحقق في الحال أنها مليئة بالاقتباسات الإنجيلية والأقوال الآبائية، وقد تحوَّلت إلى صلاة وتسبيح وابتهالات. لذلك، لا يجد أحد مانعاً في تلقيب العبادة الأرثوذكسية بأنها ”عبادة إنجيلية“، لأن الاقتباسات في الصلوات هي من كِلاَ العهدين القديم والجديد، والقراءات الوافرة من أسفار العهدين القديم والجديد تملأ الطقس القبطي سواء في موسم الصوم الأربعيني أو في أسبوع الآلام أو في الخدمات الكنسية المختلفة.

بل إن احتفالات الليتورجية القبطية بأسرار الإيمان المسيحي التي تتمركز حول قيامة المسيح، مليئة بالمقاطع التعليمية العقائدية؛ إما من تعاليم المجامع المسكونية والمجامع المكانية المعترف بها، أو من تعاليم آباء الكنيسة المشهورين بتصريحاتهم المشهورة التي واجهوا بها الهرطقات في الكنيسة في العصور الأولى، حتى أن الشعب القبطي صار يحفظ مقاطع منها ويُحوِّلها إلى تسبيح وترنيم كما في الأبصلمودية المقدسة.

الروعة الأدبية للعبادة الليتورجية:

والسمة الأخرى التي تميِّز العبادة الليتورجية الأرثوذكسية هي القالب الأدبي الرائع الذي كُتبت به بعض الصلوات والتراتيل على هيئة قصائد شعرية (بالقبطية)، كما في الإبصاليات (التراتيل) اليومية والثيئوتوكيات (مدائح للعذراء)؛ (أو باليونانية) كما في بعض التسبحات الكيهكية (أي التي تُرتَّل في ليالي شهر كيهك). وهذه الطريقة تُقدِّم بطريقة ماهرة التعاليم المسيحية في قالب شعري يخلب لبَّ القارئ القبطي البسيط، فيحفظها ويدندن بها حتى في أوقات عمله في الحقل أو المكتب أو أثناء حياته اليومية، فيُحوِّل حياته بعد العبادة الليتورجية إلى ليتورجية قلبية، وهذا يُسمَّى: ”ليتورجية ما بعد الليتورجية“.

قانون الصلاة هو قانون الإيمان:

وكل هذه السمات قائمة على أساس مبدأ هام في علم اللاهوت الأرثوذكسي يقول إن ”قانون الصلاة هو قانون الإيمان“. لذلك نعجب اليوم من إهمال التعليم الليتورجي في صفوف مدارس الأحد وفصول الشباب ما يدفعهم إلى الخروج أثناء القداس الإلهي ليقفوا خارجاً للأحاديث والسمر! مع أننا كنا في مدارس الأحد نسبق فصول التعليم باصطفافنا في صف من صفوف الكنيسة، نتابع القداس مع مدرسينا وفي يد كل واحد منا الخولاجي الخاص به، ونتابع الصلوات من خلال عدَّاد يحوي رقم صفحة الخولاجي التي نتابع فيها صلوات القداس الإلهي، ثم طبَّقنا نفس التقليد حينما نلنا بركة تدريس الأجيال الجديدة بنفس الطريقة. هذه المتابعة للقداس في حدِّ ذاتها هي الأساس لِمَا كنا سنتعلَّمه (أو سنُعلِّمه) في الفصل أو في الاجتماع الذي يلي خدمة القداس الإلهي. إنها تُعتبر بمثابة ”تقوية البُعْد التسبيحي“ للإيمان المسيحي في نفوس الأطفال والشباب.

+ هل يمكن أن نستعيد عصر الازدهار لخدمة مدارس الأحد، فنُعيد التربية الليتورجية لأطفالنا وشبابنا، كما كان حادثاً منذ أكثر من 60 سنة أو يزيد!

أهمية استنباط أساسيات الإيمان المسيحي من العبادة الليتورجية:

وعلى ضوء كل ما أوضحناه سابقاً، أصبح لازماً لزوماً حتمياً على علماء الكنيسة ودارسيها أن يلتفتوا إلى هذا الكنز المفعم بالتعليم المسيحي وأساسيات الإيمان الأرثوذكسي، لكي يستنبطوا منه أصول التعليم المسيحي الأرثوذكسي في كافة فروع المعرفة والاختبار الروحيَّيْن. وعلى الأخص أن الليتورجيات الأرثوذكسية ترجع إلى أيام الرسل، وبعضها احتفظ بقداس الرسل الأصلي، كما في القداس القبطي الذي انفرد بالاحتفاظ بقداس ”تقديم الحمل“ المُعتَبَر - بحسب طقسه - أنه قداس ذبائحي كامل، كما أوضح ذلك لأول مرة الأب متى المسكين في بحثه الليتورجي: ”إفخارستيا عشاء الرب، قداس الرسل الأول، وهو نواة جميع القداسات“، مطبعة دير القديس أنبا مقار، سنة 2000.

فتعليم الكنيسة الأرثوذكسي يرجع في أصوله لعصر الرسل، والليتورجيا بمختلف أنواعها تشهد بذلك. فهيا إلى العمل أيها الباحثون والعلماء!

العبادة الليتورجية من خلالها تُقرأ الأسفار المقدسة،

حقيقة هامة تدحض شكوك علماء النقد الحديث في شخص المسيح:

إن الحقيقة الدامغة التي تؤمن بها الكنيسة الأرثوذكسية وتمارسها فعلاً أن الأناجيل تُقرأ من خلال العبادة الليتورجية، لتقدِّم شخص المسيح المبارك الحي إلى الأبد من خلال ممارسة سرِّ الإفخارستيا، وتقديم الرب جسده ودمه الأقدسين خلاصاً وغفراناً للخطايا وحياة أبدية لمَن يتناول منه. فالإنصات للأسفار المقدسة (”قفوا بخوفٍ من الله لسماع الإنجيل المقدس“) يتم من خلال اجتماع المؤمنين حول كلمة الله المسموعة (الإنجيل) والمأكولة (جسد الرب ودمه الأقدسين).

هذا هو نمط الحياة في الكنيسة الأرثوذكسية على مدى 20 قرناً من الزمان. فالقراءة الصحيحة للأسفار المقدسة في الكنيسة الأرثوذكسية هي عمل يتسم بالطاعة والتسبيح والعبادة وإعطاء المجد لله على استعلان أسراره الإلهية. فالمؤمن يسمع الأسفار المقدسة كخطاب إلهي مُقدَّم للمؤمنين وقد التهبت فيهم الرغبة لطاعة الله بجعل إيمانهم يتحقق بالمحبة. والمؤمنون الأرثوذكس يجاهدون لكي يجعلوا الكلمة المكتوبة بمثابة خميرة تتجسَّم في حياتهم، مؤيَّدة بالشهادات النبويَّة والرسولية كما استلمناها من المعلِّمين القدامى من جيل إلى جيل. فهي بمثابة نعمة آتية من فوق، وليست نتيجة أبحاث علماء مهرة، وبالتالي ليست نابعة من حرية في البحث أو النقد أو الرفض.

إن المؤمن الأرثوذكسي، وهو يسمع كلمة الله تُتلى من على المنبر أثناء العبادة الليتورجية، لا يملك إلاَّ أن يصرخ مع والد الطفل الذي به روح أخرس أصم: «أومن يا سيد، فأَعِنْ عدم إيماني» (مر 9: 24)، أو مع العشار: «اللهم ارحمني أنا الخاطئ» (لو 18: 13).

المسيح الحقيقي - مسيح التاريخ والحياة الأبدية - في العبادة الليتورجية هو الذي يردُّ على حركة النقد الحديث والتشكيك skepticism التي كانت وليدة الثورة الفرنسية منذ عام 1789م، والتي تقوم على التشكيك في كل ما هو قديم في المسيحية مقابل الثقة في كل معطيات العلم الحديث في الحُكْم على تاريخية شخص المسيح المبارك. لقد ردَّت هذه الحركة على نفسها بنفسها لأنها تركت المسيحية والحضارة الغربية بلا جذور فأصابها ما أصابها اليوم من ضعف وتآكل نتيجة الانصراف عن الإيمان.

أما المسيحي الأرثوذكسي فهو يعيش كل يوم مع مسيح التاريخ، المسيح الحي، من خلال عبادته الليتورجية وتناول المسيح كله، وصراخه ”آمين“ على نداء الكاهن: ”هوذا كائن معنا اليوم على هذه المائدة (المذبح) عمانوئيل إلهنا“، ”هذا هو بالحقيقة آمين“. لذلك فهو لا يأبه ولا يلتفت ولا ينزعج من محاولات بعض الغربيين تشويه صورة المسيح أو التشكيك في تاريخيته، له المجد في كنيسته الآن، وإلى الأبد آمين.

(يتبع)

********************************************************

استمع إلى عظات الأب متى المسكين في مناسبة أسبوع الآلام

من 73 / 6 - 73 / 10، 73 / 14، ومن 74 / 4 - 74 / 9

ومن 74 / 11 - 74 / 13، ومن 75 / 10 - 75 / 12، 75 / 15، 75 / 16، 75 / 17

76 / 1 - 76 / 2، 77 / 2

من 78 / 3 - 78 / 4، ومن 79 / 1م - 79 / 8، ومن 80 / 3 - 80 / 4