مفاهيم كنسية



الخدمة الاجتماعية من منظور مسيحي
- 2 -
سمات الخدمة الاجتماعية المسيحيَّة


دوافع الخدمة الاجتماعيَّة المسيحيَّة:

تختلف الخدمة الاجتماعيَّة المسيحيَّة في دوافعها اختلافًا جذريًّا عن الخدمة الاجتماعيَّة في العالَم، التي هي في أفضل أحوالها تعبير عن التـزام دستوري إنساني وأخلاقي برعاية الدَّولة للفئات الضَّعيفة في المجتمع بالضَّمان الاجتماعي والتَّأمين الصحِّي والتَّعليم المجَّاني وبيوت الإيواء، وذلك لضمان سلامة المجتمع وتماسكه وحماية أمنه مِن التوتُّرات، ورفع مستوى المعيشة، والحفاظ على سُمعة الدَّولة بين الدُّول الأُخرى. والخدمة هنا يتولاَّها موظَّفون مُقابل أجور دون أن يكون هناك علاقة شخصيَّة بينهم وبين مَنْ يقدِّمون له هذه الخدمات، ويحْكمهم في ذلك قوانين وروتين وأوراق وبصورة حياديَّة، إلاَّ ما يمكن أن ينشأ مِن مشاعر إنسانيَّة على المُستوى الفردي، أو ربما على العكس مِن بعض الضَّجر والتَّعالي على مَن يتلقَّون المساعدات.

بالطَّبع، فإنَّ المجتمع المدني يُسْهم أيضًا تطوُّعًا بدافع إنساني في خدمة القطاعات الدُّنيا، وجهده مقدَّرٌ دون شك، ولكنَّه قد لا يخلو مِن الإحساس بالرِّضا عن الذَّات، أو بالمنِّ على المحتاج، أوْ التَّمييز بين مَن تُقدَّم لهم الخدمات، وربَّما الاستفادة الماديَّة، مع غياب الشُّعور بالمحبَّة والشَّركة الحقيقيَّة.

الخدمة الاجتماعيَّة المسيحيَّة، على الجانب المقابل، هي في حقيقتها عمل روحي تمامًا ، وهي ثمرة المحبَّة المسيحيَّة التي تَسْمو فوق كلَّ ما عداها، كما ترتبط ارتباطًا عضويًّا بالإيمان بشخص المسيح والحياة الأبديَّة، ومِن ناحية ثالثة أنَّ مَن يُعطي ومَن يأخذ هم أعضاء في جسد واحد هو الكنيسة التي هي جسد المسيح (كو1: 24)، والمسيح هو رأسها (في1: 22 و23؛ كو1: 18)، فالكل إخوة، والذين يقومون بالخدمة يؤدُّونها إيمانًا وحبًّا وليس شفقة أو إحسانًا أو تفضُّلاً، ويأخذون في المقابل بركة ونعمة غالية ليست مِن هذا العالَم، ولا تقدَّر بثمن. وإلى بعض التَّفصيل.

(1) عن ارتباط الخدمة الاجتماعيَّة المسيحيَّة بالمحبَّة:

+ فالوصيَّة الأولى والعُظمى في النَّاموس هي: "تُحب الربّ إلهك مِن كلِّ قلْبك ومِن كلِّ نفسك، ومِن كلّ قدْرتك ومِن كلِّ فكرك" (تث 16: 5)، والثَّانية مثلها: "تُحبُّ قريبك كنفسك" (لا 19: 18؛ مت 22: 37؛ مر12: 31؛ لو 10: 27).

والقدِّيس يوحنا يكشف ارتباط الوصيَّتَيْن، فتنفيذ الوصيَّة الثَّانية هو شهادة على اتِّباع الوصيَّة الأولى، والعكس بالعكس: "مَن لا يُحِب لم يعْرف الله لأنَّ الله محبَّة... إنْ قال أحد إنِّي أُحِب الله وأبْغض أخاه فهو كاذب، لأنَّ مَن لا يُحبّ أخاه الذي أبصره، كيف يقْدر أنْ يحبَّ الله الذي لم يُبْصره؟ ولنا هذه الوصيَّة أنَّ مَن يُحِبَّ الله يُحِب أخاه أيضًا" (1يو4: 8 و20 و21).

+ وعندما أراد النَّاموسيّ أنْ يُبرِّرَ نفْسه بسؤاله للربِّ عمَّن يكون قريبه حتى يُحبَّه، قال له الرَّبُّ مثلاً عن إنْسان كان في طريقه مِن أورشليم إلى أريحا، فوقع بيْن اللصوص الذين عرَّوْه وجرحوه وتركوه بيْن حيِّ وميِّت. وعَرَضَ أنْ مرَّ به كاهن ولاوي، ولكنَّهما لم يلتفتا إليه وجازا مُقابِلَه، ولكن سامريًّا مرَّ به، ولمَّا رآه تحنَّن، وأتى إليه وضمَّد جراحاته رغْم العداء التَّقليدي بيْن اليهود والسَّامريِّين، وأركبه على دابَّته وأتى به إلى فندق( 1) وأمضى معه اللَّيل. ولمَّا غادر في الغد أعطى صاحب الفنْدق دينارَيْن ليعتني به، وتعهَّد أنْ يُسدِّد ما ينْفقه أكْثر عند رجوعه.

وفي نهاية القصَّة سأل الرَّب النَّاموسي: "تُرَى أي مِن هؤلاء الثَّلاثة صار قريبًا للذي وقع بين اللصوص؟ فقال: الذي صنع معه الرَّحْمة. فقال له يسوع (ولكلِّ مؤْمِن): اذهب أنتَ أيضًا واصنع هكذا" (لو10: 25- 37).

فمَن يُحِبُّ الله يُحبُّ القريب بالضَّرورة؛ والقريب ليس هو فقط القريب بالجسد، ولكنه كلَّ مَن تضعه الظُّروف بالقُرب منَّا (جار، زميل عمل، رفيق طريق، عابِر سبيل)، حتَّى لو كان عدوًّا يحتاج المساعدة، وتصير وصيَّة المحبَّة النَّابعة مِن محبَّة المسيح هي المدخل لسائر الوصايا، فهي بالفعْل "رباط الكمال" (كو 3: 14):

"نحن نحبُّه لأنَّه هو أحبَّنا أوَّلاً" (1يو4: 19)؛

"أحبُّوا أعْداءكم، باركوا لاعنيكم، وصلُّوا لأجْل الذين يسيئون إليْكم ويطْردونكم... لأنَّه إنْ أحْببتم الذين يحبُّونكم فأيُّ أجْرٍ لكم، أليس العشَّارون يفعلون ذلك" (مت 5: 44، 46)؛

"لا تكونوا مديونين لأحد ٍبشيء إلاَّ بأنْ يحبَّ بعضكم بعضًا، لأنَّ مَن أحبَّ غيره فقد أكمل النَّاموس... فالمحبَّة هي تكميل النَّاموس" (رو13: 8، 10)؛

"بهذا قد عرفنا المحبَّة أنَّ ذاك (المسيح) وضع نفسه لأجلنا، فنحن ينبغي لنا أنْ نضع نفوسنا لأجل الإخوة، وأمَّا مَن كانت له معيشة العالَم ونظر أخاه مُحتاجًا وأغلق أحشاءه عنه، فكيف تثبت محبَّة الله فيه. يا أولادي لا نُحب بالكلام ولا باللِّسان، بل بالعمل والحق" (1يو3: 16-18).

(2) عن ارتباط الخدمة الاجتماعيَّة المسيحيَّة بالإيمان والحياة الأبديَّة:

في حديث المسيح لتلاميذه ليلة صليبه عن مجيئه الثَّاني (مت 25: 31-40)، نراه يُقرِن أعمال المحبَّة والرَّحمة بحياة الإيمان، وأنَّ عدم الرَّحْمة وإهْمال الآخَر المحتاج هو إنكار للإيمان وانسحاب مِن شركة المسيح. فهو جعل كل الجوعى والعطاش والمرضى والغرباء والمسجونين إخوته الأصاغر( 2)، وأنَّ كلَّ مَن يخدمهم فكأنَّه يَخْدِمه هو، فهي مهمة كرازية وبشارة بالإيمان ولكن بغير كلام. وجعل لهذه الخدمة بُعْدَها الأُخروي، بحيث صارت تشهد للمؤمنين في اليوم الأخير، وبابًا للدُّخول إلى فرح السيِّد، فهي لم تعُد أمْرًا بين المؤمن وشخص المحتاج للخدمة، وإنَّما بين المؤمن والمسيح. وارتباط عمل الرَّحمة بالإيمان يُجرِّدها مِن أنْ تكون فعلاً آليًّا لخدمة الذَّات، كما يحفظ المعطي مِن الاستعلاء وقساوة القلب.

وعلاقة الإيمان بالمحبَّة لا تحتاج إلى بيان، فالمحبَّة هي ذراع الإيمان ومجال عمله، وهكذا ضمَّهما معلِّمنا بولس الرَّسول معًا في رسالته إلى أهل غلاطية في قوله: "لأنَّه في المسيح يسوع لا الختان ينفع شيئًا ولا الغرلة، بل الإيمان العامل المحبَّة" (غل 5: 6).

(3) عن ارْتباط الخدْمة الاجْتماعيَّة المسيحيَّة بالجسد الواحد:

فوحدة المؤمنين كأعضاء أحياء في الكنيسة التي هي جسد المسيح وتناولهم معًا مِن جسد الرب ودمه تحتِّم التزام كلّ عضو نحو الآخَر (انظر في2: 4) خاصَّة نحو الأعضاء الضَّعيفة:

"هكذا نحن الكثيرين جسد واحد في المسيح وأعضاء بعضًا لبعض كل واحد للآخر، ولكن لنا مواهب مُختلفة بحسب النِّعمة المعطاة... المُعطي فبسخاء، الرَّاحم فبسرور... مُشتركين في احتياجات القدِّيسين... عاكفين على إضافة الغرباء" (رو12: 5، 6، 8، 13)؛

"بل تهتم الأعضاء اهتمامًا واحدًا بعضها لبعض. فإنْ كان عضو يتألَّم، فجميع الأعضاء تتألَّم معه ( 3)" (1كو12: 25و26)؛

"فإنَّه لم يُبْغِض أحدٌ جسده قط، بل يقوته ويربِّيه، كما الربُّ أيضًا للكنيسة، لأنَّنا أعضاء جسْمه، مِن لحْمه ومِن عظامه" (أف 5: 29و30).

وصايا الكتاب عن أعمال الرَّحمة:

"أليْس هذا صومًا أختاره: حلّ قيود الشَّر... أليس أنْ تكسر للجائع خبزًا، وأنْ تُدْخِل المساكين التائهين إلى بيتك. إذا رأيتَ عريانًا أنْ تكْسُوهُ، وأنْ لا تتغاضى عن لحْمك" (إش58: 6 و7)؛

"إنِّي أُريد رحمةً لا ذبيحة" (هو6: 6، مت 9: 13، 15: 7)؛

"احترزوا مِن أنْ تصنعوا صدقتكم قدَّام النَّاس لكي ينظروكم، وإلاَّ فليس لكم أجرٌ عند أبيكم الذي في السموات... وأمَّا أنتَ فمتى صنعتَ صدقة، فلا تعرِّف شمالك ما تفْعله يمينك، لكي تكون صدقتك في الخفاء، فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية" (مت6: 1-4).

فالصَّدقة هي مِن الله وإلى الله وأمامه: "لأنَّ مِنْك الجميع ومِن يدك أعطيناك... ولك الكل (داود في 1أي29: 14و16)، فرَّق، أعطى المساكين، بِرّه يبقى إلى الأبد" (مز12: 9، 2كو9: 9)؛

"وإنْ أقْرضتم الذين ترجون أنْ تستردُّوا منهم المِثل، فأيُّ فضل لكم. فإنَّ الخطاة يقرضون الخطاة لكي يستردُّوا منهم المِثل. بل أحبُّوا أعداءكم وأحسِنوا وأقرضوا وأنتم لا ترجون شيئًا، فيكون أجركم عظيمًا وتكونوا بني العليِّ، فإنَّه مُنعِمٌ على غير الشَّاكرين والأشرار، فكونوا رحماء كما أنَّ أباكم أيضًا رحيم" (لو6: 34-36)؛

+ بعد أنْ لبَّى الرَّب دعوة الفرِّيسي للطعام قال له: "إذا صنعتَ غداء أو عشاء، فلا تدعُ أصدقاءك ولا إخوتك ولا أقرباءك ولا الجيران الأغنياء لئلاَّ يدعوك هم أيضًا فتكون لك المكافأة. بلْ إذا صنعتَ ضيافة، فادْعُ المساكين الجُدع العُمي العُرج فيكون لك الطُّوبى إذ ليس لهم حتَّى يكافئوك، لأنَّك تُكافأ في قيامة الأبرار" (لو14: 12-14)؛

"اذْكروا المقيَّدين (المسجونين وأيضًا كل مَن هم في ضيقة) كأنَّكم مقيَّدون معهم، والمُذلِّين كأنَّكم أنتم أيضًا في الجسد... لا تـنسوا فِعْل الخَير والتَّوزيع، لأنَّ بذبائح مِثل هذه يُسرَّ الله" (عب13: 3و 16)؛

"الدِّيانة الطَّاهرة النقيَّة عند الله الآب هي هذه: افتقاد اليتامى والأرامل في ضيقتهم، وحِفظ الإنسان نفسه بلا دنسٍ مِن العالَم" (يع1: 27).

وقد دانَ القدِّيس يعقوب الاستهانة بفقراء الكنيسة والتَّمييز في المعاملة بينهم وبين الأغنياء، ولامَ المُخطئين مِن قادة الكنيسة وخدَّامها (انظر يع2: 11-13).

+ الله لا يحتاج عطايا الأشرار المُتَسَتِّرين بالرِّياء: "ذبيحة الأشرار مكرهة للربِّ" (أم 15: 28، 21: 27)، ويرفض الذي يعطي "عن حُزن أو اضطرار" (2كو9: 7) تحت ضغط الآخَرين أو سعيًا لرضاهم (حالة حنانيا وسفيرة في الكنيسة الأولى).

وصايا الكتاب المقدَّس عن بركة العطاء:

"مَن يرحم الفقير يقرض الرَّب، وعن معروفه يُجازيه" (أم 19: 17)؛

"هاتوا جميع العشور إلى الخزنة ليكون في بيتي طعام وجرِّبوني. بهذا قال ربُّ الجنود إنْ كنتُ لا أفتح لكم كُوَى السَّموات وأفيض عليكم بركة حتى لا توسَع" (ملاخي 3: 10)؛

"أعطوا تُعطوا، كيلاً جيدًا ملبدًا مهزوزًا فائضًا يعطون في أحضانكم. لأنه بنفس الكيل الذي به تكيلون يكال لكم" (لو6: 38)؛

"طوبى للرُّحماء لأنَّهم يُرْحمون" (مت 5: 7).

"هذا وإنَّ مَن يزرع بالشُّح، فبالشُّح أيضًا يحصد، ومَن يزرع بالبركات، فبالبركات أيضًا يحصُد... لأنَّ المُعطي المسرور يحبُّه الله" (2كو9: 6و7).

+ القدِّيس بولس يشير إلى خدمة القدِّيسين والعطاء للمُحتاجين على أنَّه نعمة متاحة للمؤمنين:

"ثمَّ نعرِّفكم أيُّها الإخوة نعمة الله المُعطاة في كنائس مكدونية ... مُلْتمِسين منَّا بطلبة كثيرة (بإلحاح) أنْ نَقبل هذه النِّعمة وشركة الخدمة التي للقديسين ... لكن كما تزدادون في كل شيء، في الإيمان والكلام والعلم وكل اجتهاد ومحبتكم لنا، ليتكم تزدادون في هذه النِّعمة أيضًا" (2كو8: 1و4و7).

+ عمل الرَّحمة وتعب المحبَّة وتقديم العشور والعطاء السَّخي ليْس إنفاقًا، وإنَّما هو في حقيقته نوعٌ مِن الادِّخار الذي يوافق مشيئة الله، والذي تتراكم فوائده في حسابنا الأبدي.

والله هو الذي حسَّن أنْ نكنز لأنفسنا في السَّماء، حيث لا يعتري كنزنا الفساد أو يتعرَّض للنَّهبِ والضِّياع (مت6: 20). وكل ما نعمله رحمة بإخوة المسيح إخوتنا، يُضاف إلى رصيدنا السَّماوي الذي سيُستعلن في اليوم الأخير (مت 25: 34و35).

(يتبع)
دكتور جميل نجيب سليمان

__________________________________________________________

(1) يوجد حاليًّا قريبًا مِن أريحا فندق باسم: "السَّامري الصَّالح"(!)
(2) مِن هنا نظرة العطاء المسيحي للمحتاجين إنَّهم قدِّيسون (رو15: 25و26؛ 1كو 16: 1و15؛ 2كو 8: 4 و9: 1و12؛ عب 6: 10).
(3)في قول للقدِّيس يوحنا فم الذهب: [إنَّ رضا المؤمن بخلاصه وحده قد يُفقده إيَّاه، كما في الحروب: فإنَّ الجندي الذي يسعى لإنقاذ نفسه بالهرب مِن المعركة يدمِّر نفسه ومعه رفاقه، بينما الجندي الشُّجاع الذي يقاتل مع غيره مِن أجل الآخّرين، فإنَّه ينقذ نفسه ومَن معه].

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis