من تاريخ كنيستنا
- 184 -


الكنيسة القبطية في القرن العشرين
البابا كيرلس الخامس
البطريرك الثاني عشر بعد المائـة
في عداد بطاركة الكرسي الإسكندري
(1874 - 1927م)
- 15 -


«وأبواب الجحيم لن تقوى عليها»
(مت 16: 18)


استكمالاً لما كتبناه في (عدد فبراير 2021):

القس منسى يوحنا (1899-1930م)(1)

وُلِدَ في أغسطس عام 1899 م. بقرية هور مركز ملوي من أبوين مسيحيين تقيين. مات والده وهو طفل فاعتنت أمه بتربيته، وتسلَّم منها حياة التقوى والبر. وتلقَّى تعليمه الأوَّلي بكُتَّاب القرية، ثم درس بالمدرسة الابتدائية. كان التعلُّم في ذلك الوقت قاصرًا على التعليم الابتدائي، إلَّا أنه علَّم نفسه بنفسه، فدأب على القراءة والدرس والمطالعة في سن مبكرة، حتى بلغ مستوىً رفيعاً من الثقافة والمقدرة على الكتابة والتعليم. محبته الشديدة للكنيسة وجَّهته لتكريس حياته للخدمة، فذهب إلى القاهرة في عام 1915 ليلتحق بالمدرسة الإكليريكية قبل أن يبلغ السادسة عشرة من عمره. أمَّا ناظر المدرسة يوسف منقريوس فقد رفض طلبه لصغر سنه لكن بعد إلحاح وما توسَّم فيه من النجابة، قَبِلَه في المدرسة. وبالرغم من صغر سنه كان متفوقًا في دراسته. ولما تخرَّج من المدرسة الإكليريكية عيَّنه الأنبا توماس مطران المنيا، الذي كان يقدِّر مواهبه، واعظًا لكنيسة السيدة العذراء بملوي، فوجد فيه الشعب واعظًا تقيًّا. واشتهر بعظاته الروحية وعلمه الغزير، فأحبه الجميع. وبناء على إجماع شعبي وتزكيته، قام نيافة الأنبا توماس برسامته قسًّا لكنيسة ملوي في 25 يناير سنة 1925م. وكان يوم رسامته احتفالًا شارك فيه أهل المدينة على اختلاف مذاهبهم.

كان كثير القراءة غزير المعرفة، استطاع أن يستوعب مئات الكتب وهو بعد في حداثة سنه. ونتيجة لغزارة علمه، مع روحانيته العميقة وأسلوبه الفريد في الكتابة، ترك للمكتبة القبطية ثروة من كتبه التي انتشرت بين الأقباط واستمر أثرها الروحي لمدى طويل حتى إنها ما زالت تُطبَع حتى الآن بعد أن مرَّ على صدورها قرب المائة عام! لقد ألَّف خمسة عشر كتابًا، غير العديد من المقالات في الصحف والمجلات، بالإضافة لعظاته القيمة. وكتب في موضوعات متعدِّدة، من روحية ولاهوتية وعقائدية، كما كتب عن الكتاب المقدَّس، وكتاب كبير قيِّم في تاريخ الكنيسة. لقد حقَّق كل ذلك الإنتاج الغزير خلال عمر قصير، حيث لم تدم سنوات خدمته الكهنوتية سوى خمس سنوات كانت غزيرة بالإنتاج الذي لا يقدر الشيوخ على تحقيق مثله.

القس منسى يوحنا أخبر بيوم رحيله، أنه سيكون في 16 مايو سنة 1930م. قال: ”أرجو أن تُصَلُّوا عليَّ في ملوي وتدفنونني في هور“. تنيَّح في تلك الليلة وسنه 31 عامًا. لقد أحبَّه الجميع حتى غير الأرثوذكس فبكوه بكاءً حارًا. وكان القس منسى يوحنا محبوبًا من المسلمين حتى أنهم كانوا يتهافتون على حمل الصندوق الذي به جسده الطاهر.

بطرس باشا غالي (1846-1910م)(2)

وُلِدَ بطرس نيروز غالي في بلدة الميمون ببني سويف يوم 12 مايو عام 1846. كان والده نيروز غالي ناظرًا للدائرة السنية لشقيق الخديوي إسماعيل في الصعيد. فتلقَّى تعليمه في مدرسة الأقباط الكبرى التي أنشأها البابا كيرلس الرابع، ثم تعيَّن مدرسًا بها. وأثناء ذلك درس في مدرسة البرنس مصطفى فاضل حيث تعلَّم فيها اللغتين الإنجليزية والتركية. ثم سافر لأوروبا لدراسة الحقوق. ولما رجع عمل مترجمًا في الإسكندرية في مجلس التجار، ثم انتقل للعمل بنظارة الحقانية، حيث ترقى بسرعة، فتعيَّن سكرتيرًا لها في عام 1879، ثم وكيلًا في 10 أكتوبر 1881. وحين قامت الثورة بقيادة أحمد عرابي كان بطرس غالي من المناصرين لها، وكان ضمن الوفد الذي ذهب للتفاوض مع الخديوى باسم العرابيين. رشَّحه عرابي لرتبة الباشاوية فحصل عليها عام 1882، فكان أول شخصية قبطية تحصل على لقب الباشاوية في تاريخ مصر. ثم عُيِّن وزيرًا للخارجية في عهد المعتمد البريطاني لورد كرومر (1885 - 1908). واستمر في هذا المنصب 13 عامًا، من 12 نوفمبر 1885 حتى 1908. وهي أطول فترة يشغلها ناظر في هذا المنصب الرفيع. وتولى وزارة المالية عام 1893م في بداية عهد الخديوي عباس حلمي الثاني في وزارة رياض باشا، ثم وزارة الخارجية في الوزارة الثالثة التي شكلها مصطفى فهمي باشا. وبعد سقوط الوزارة أسند إليه الخديوي عباس حلمي الثاني رئاسة الوزراء في 12 نوفمبر عام 1908 واستمر بها حتى تم اغتياله في 20 فبراير 1910.

قيل عنه إنه كان نادر الذكاء والعبقرية. أتقن عدَّة لغات منها القبطية والإنجليزية والتركية. عاصر اللورد كرومر المعتمد البريطاني، الذي كان يعادي الأقباط بسبب ثقلهم الثقافي والحضاري في المجتمع المصري، فكان يمنع توظيفهم في الحكومة حيث استبدلهم بسوريين حضروا لمصر في ظروف بلادهم الصعبة. رأى اللورد كرومر أن يستفيد من بطرس غالي ومواهبه العظيمة في الإدارة التي برع فيها الأقباط، حيث لم يكن يجاريهم أحد في ذلك. في نفس الوقت أراد أن يستغل وجود بطرس غالي في موقع المسئولية ليفرض كل قرارات الاستعمار المسيئة للشعب وينسبها له، ثم يقوم رجاله بتحريك الدهماء والجهلة لمقاومته. وبذلك يمكن إحداث أكبر فتنة ممكنة بين الأقباط والمسلمين. بطرس غالي الرجل المخلِص المتمكن والمتفاني في عمله لم يكن على وعي بتلك الخطة الخطيرة فكانت قرارات المستعمر البريطاني تُفرَض عليه ثم تصدر باسمه دون أن يتنبَّه لخطر الفتنة التي تهدِّد المجتمع القبطي كله! وتقوم صحافة المستعمر بالصيد في الماء العكر لإثارة الفتن وتحريض المأجورين ضده. من ذا الذي استطاع أن يقاوم قرارات المستعمر البريطاني في أي وقت من قبله أو من بعده، حتى يُحمَّل بطرس غالي المسئولية عن قرارات المستعمر المعادية لمصر والمصريين؟

إتُّهِم بطرس باشا غالي بمحاباة الإنجليز حين صدَّق نيابة عن وزير العدل على أحكام محكمة دنشواي بإعدام 6 فلاحين مصريين، تحرَّشوا بجنود بريطانيين، أول ملاحظة هي أن المستعمر صَدَّره ليتحمل مسئولية ليست له، حيث لم يكن هو وزير العدل المسئول على التصديق على أحكام المحكمة! لكن تم تكليفه بعمل وزير العدل في ظروف غير معروفة! وكان دور مصر شكليًّا بحتًا، لم يزد على توقيع الاتفاق حين يُقدَّم لها. لم يكن يملك الامتناع عن التصديق أو تغيير قرار محكمة! ولقد أشارت الوثائق الإنجليزية التي جرى الإفراج عنها بعد زمن من مقتله، أن بطرس غالي فاوض الإنجليز محاولًا تخفيف الأحكام الجائرة في حادث دنشواي، لكن رُفِض طلبه! فأُرغم على التصديق على قرار محكمة! بطرس باشا غالى كان رجل دولة تحمَّل على عاتقه فترة من أصعب فترات التاريخ المصري في ظل غطرسة الاحتلال البريطاني، ومحاولاته في اختلاق الوقيعة والفتن الطائفية لشرذمة المصريين. لقد تصدَّر غالي المشهد السياسي، ما جعله في واجهة الحياة السياسية، وتعاون معه الكثير من الوطنيين مثل سعد زغلول، وشهدوا له بالكفاءة في إدارة النظارات (الوزارات) التي أُسنِدَت له، وبالكفاءة كرجل دولة تولى رئاسة الوزارة. ولم يلقَ اختياره كرئيس للوزراء اعتراضًا بصفته قبطيًّا بل لقي ترحيبًا من كل المصريين الوطنيين، أقباطًا ومسلمين.

في الساعة الواحدة ظهر يوم 20 فبراير 1910، خرج بطرس غالي من مكتبه، وما أن همَّ لدخول عربة رئاسة الوزراء حتى دوت 6 رصاصات، استقرت ثلاث منها في رقبته، واثنتان في كتفه، فغرق في دمائه. أمسك الحراس بالشاب الذي أطلق الرصاص، ونُقِلَ بطرس غالي للمستشفى وهناك أجروا له عملية جراحية، لكنه فارق الحياة في نفس اليوم.

عندما سُئِلَ إبراهيم الورداني في التحقيق المبدئي عن السبب الذي دفعه لقتل رئيس وزراء مصر، قال: ”لأنه خائن للوطن“. في اللحظات الأخيرة حاول بطرس باشا تبرئة نفسه من تلك التهم وهو يحتضر في المستشفى قبل وفاته بدقائق، فقال: [يعلم الله أنني ما أتيت ضررًا ببلادي، ولقد رضيت باتفاقية السودان رغم أنفي وما كان باستطاعتي أن أعترض عليها. إنهم يسندون إليَّ حادث دنشواي، ولم أكن منها ولا هي مني، ويعلم الله أنني ما أسأت إلى بلادي].

إبراهيم الورداني، صيدلي شاب كان عائدًا من إنجلترا بعد إتمام دراسته، قام باغتيال بطرس باشا غالي، حيث تظاهر بأنه يريد أن يقدِّم له عريضة ثم أطلق عليه الرصاصات القاتلة. ويعتبر ذلك هو أول حادث اغتيال لسياسي مصري. لقد شاعت حوادث الاغتيالات السياسية بعد الحرب العالمية الثانية في أربعينات القرن العشرين. تلك الاغتيالات التي قام بها الإخوان المسلمون مع حزب مصر الفتاة، بتحريض الاستعمار البريطاني، لتعويق مطلب الشعب الخاص باستقلال البلاد. ويُعتَبر اغتيال بطرس باشا غالي هو أول بدء الإرهاب في مصر وكل ملابساته وأسبابه الحقيقية، حيث يتلخص في عبارة واحدة: ”الوقيعة التي يقوم بها الاستعمار“!

مَثُلَ الورداني أمام المحكمة في أبريل 1910م برئاسة الإنجليزي دلبر وجلي، وكان من المحامين الذين حضروا للدفاع عنه ”أحمد بك لطفي“. قام بالتحقيق في القضية عبد الخالق ثروت باشا، حيث كان يشغل منصب النائب العام في ذلك الوقت. وقد ذكر في مرافعته أن الجريمة المنظورة أمام المحكمة جريمة سياسية وليست من الجنايات العادية، وأنها ”بدعة ابتدعها الورداني بعد أن كان القطر المصري طاهرًا منها“ ثم طالب بالإعدام للورداني. ويوم 18مايو1910م أصدرت محكمة الجنايات حكمها بالإعدام، وأرسل الحكم إلى المفتي الشيخ بكري الصدفي لإقراره، لكنه رفض لمانعٍ شرعي! ولمح لما في الدفاع من طلب إحالة المتهم إلى لجنة طبية لمراقبة قواه العقلية! إلا أن المحكمة لم تأخذ برأيه، وكانت تلك سابقة أن يعترض المفتي على حكم محكمة الجنايات. ونفذ الحكم في 28 يونيو 1910م.

كان الورداني وقت قيامه باغتيال بطرس غالي في الرابعة والعشرين من عمره. وكان قد درس في سويسرا الصيدلة وعاش بها عامين ثم سافر إلى إنجلترا وقضى بها عامًا حصل خلاله على شهادة في الكيمياء ثم عاد إلى مصر. وكان الورداني عضوًا في الحزب الوطني، كما كان له ارتباط بجمعية "مصر الفتاة"! تلك الجمعية صارت حزبًا، وكان لها دورًا رئيسيًّا في الاغتيالات السياسية في أربعينات القرن العشرين! بعد عودة الورداني لمصر أسَّس جمعية أسماها ”جمعية التضامن الأخوي“ التي نص قانونها على أن من ينضم لها يلزم أن يكتب وصيته، وكان أحد أعضاء جمعية اليد السوداء السرية.

(يتبع)

__________________________________________

(1) كتاب قصة الكنيسة القبطية لإيريس حبيب المصري، الكتاب الخامس ص 96.

(2) كتاب الخريدة النفيسة الجزء الثاني ص 524

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis