تأملات روحية



«لا تُدخلنا في تجربة»
(لو 11: 4)

«لم تُصبكم تجربة إلاَّ بشرية»:

يقـول بولس الرسول: «لَمْ تُصِبْكُمْ تَجْرِبَةٌ إِلاَّ بَشَرِيَّـةٌ»، ثم يستكمل كلامـه قائـلاً: «وَلكِـنَّ اللهَ أَمـِينٌ، الَّذِي لاَ يَدَعُكُـمْ تُجَـرَّبُـونَ فَـوْقَ مَا تَسْتَطِيعُونَ» (1كـو 10: 13). ومعنى كلامه أنه ليست تجربـة أو محنة تُصيب الإنسان فوق طاقة احتماله. ولا ننسى أن الرب يسوع في مَثَل الوزنات، قـال: «وَكَأَنَّمَا إِنْسَانٌ مُسَافِرٌ دَعَا عَبِيدَهُ وَسَلَّمَهُمْ أَمْوَالَهُ، فَـأَعْطَى وَاحِـداً خَمْسَ وَزَنَاتٍ، وَآخَرَ وَزْنَتَيْنِ، وَآخَرَ وَزْنَـةً. كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى قَدْرِ طَاقَتِهِ. وَسَافَـرَ لِلْوَقْتِ» (مـت 25: 15،14). أي كما أنَّ الرب يوزِّع الوزنات على قَدْر طاقة كـل إنسان؛ هكـذا التجارب التي يسمح بها هي أيضاً على قَـدْر احتمال الإنسـان وليست فوق قدرتـه على الاحتمال.

فـلا توجـد استثناءات في حياة البشـر، إذ «الْجَمِيعُ زَاغُوا وَفَسَدُوا مَعاً» (رو 3: 12)، حتى أنَّ الأمـور التي أصابت اليهود - قديماً - بسبب غلاظـة قلوبهـم وعـدم طاعتهم لوصيـة الله، «أَصَابَتْهُمْ مِثَالاً، وَكُتِبَتْ لإِنْذَارِنَا نَحْنُ الَّذِينَ انْتَهَتْ إِلَيْنَا أَوَاخِرُ الدُّهُورِ» (1كو 10: 11).

إذن، فـالله لم يتغيَّر، ووصايـاه لم تتبـدَّل، والإنسان أيضاً - تحت وطـأة ظروفـه الداخلية والخارجية - ما يزال هو نفس الإنسان لم يتغيَّر.

ولكن ابـن الله الحي الذي سُـرَّ أن يتجسَّـد ويصير إنساناً من أجل خلاصنا، ارتضى أن يحمل خطايانا في جسده على الخشبة، وهـو «مُجَرَّبٌ فِي كُـلِّ شَيْءٍ مِثْلُنَا، بِـلاَ خَطِيَّةٍ»، بـل هـو «يَرْثِيَ لِضَعَفَاتِنَا» (عب 4: 15)، «لأَنَّهُ فِي مَا هُوَ قَدْ تَأَلَّمَ مُجَرَّباً يَقْدِرُ أَنْ يُعِينَ الْمُجَرَّبِينَ» (عب 2: 18).

فالرب يسوع، ابن الله المتجسِّد، قد اختبر كل ما يختبره الإنسان على مدى أيام حياته؛ بل قـد سمح للمُجرِّب أن يُجرِّبه بكـلِّ تجربة يمكن أن يُجرِّب بها الشيطانُ الإنسانَ، ويُسقطه فيها نتيجة ضعف الإنسان. لكن الرب يسوع، المُجرَّب مثلنا في كل شيء، وهو بـلا خطية، انتصر لحسابنا على كـل تجربـة مـن إبليس، وسلَّمنا - نحن المؤمنين بـه - سـرَّ النصرة والغلبة على كـلِّ تجربة شيطانية باسمه القدوس!

ولكن لابد أن نُفرِّق بين البشر الذين لم يؤمنوا بعد بالرب يسوع ابـن الله المتجسِّد، ولم يقبلوا خلاصه؛ وبين الذيـن آمنوا بـالرب يسوع ربّاً ومُخلِّصاً، وبالتالي قَبِلوا ثمـار وبركـات عمله الخلاصي بالروح القدس المُعطَى لهم. فكـلاهما يُجرَّب من إبليس عدو كلِّ بر.

+ ويُوضِّح القديس مقاريوس الكبير نوعيـة هذه التجارب، قائلاً:

[إنَّ للمسيحيين عـالماً آخـر؛ فنَهْج حياتهـم وفكرهم وكلامهم وسلوكهم يختلف عـن نَهْج حياة أهـل العالم وفكرهم وكلامهم وسلوكهم. فأولئك شيء وهؤلاء شيء آخر، وشاسعٌ هو البون بينهما. فـإنَّ ساكني الأرض وأبناء هذا الدهـر أَشبه بحنطةٍ مُلقاة في غربـال هـذه الأرض، إذ تُغربَل نفوسهم بأفكار هـذا العالم التي لا تهدأ، وباضطراب الأمـور الأرضية والميول الماديَّة المُتشابكة الذي لا يَكُفُّ. فإنَّ الشيطان يُزعـزع، كما بأمواجٍ، كـل الجنس البشري الخاطئ، ويُغربله بغربـال الأمـور الأرضية... فـأولئك الذين يتبعون غوايـات الشريـر ومشيئاتـه قـد أَظهرهم الرب أنهم يحملون صورة شرِّ قايين... فكما أنـه مـن واحـدٍ، أي آدم، قـد امتـدَّ كـلُّ الجنـس البشـري على الأرض؛ هكـذا أيضـاً قـد انغـرس شـرُّ الأهـواء الواحـد في كـلِّ الجنس البشـري الخاطـئ، وتمكَّـن رئيس الشـر مـن غربلة الجميع بـواسطة الأفكار الماديـة القَلِقة الباطلة المُضطربة.

وفي هـذا يختلف المسيحيون الحقيقيون عن باقي الجنس البشري كله... في أنَّ المسيحيين يكونـون على الدوام، بفكرهـم وذهنهـم، في الاهتمام السماوي... وذلك بسبب شركة الروح القدس ومؤازرته، إذ قـد وُلدوا ثانيةً مـن الله، واستحقُّوا أن يصيروا أولاد الله بالحـقِّ والقوَّة، وبلغوا - عَبْر جهاداتٍ وأتعابٍ كثيرة لأزمنةٍ طويلة - إلى القيام والرُّسوخ وعدم الاضطراب، ولم يعـودوا بعـد يُغربَلـون ويتزعـزعـون بأمواج الأفكار الباطلة المُضطربة...

وهكذا فإنَّ تمايُز المسيحيين، ليس هو في الشكل ولا المظهـر الخارجي، كمـا يتوهَّم الكثيرون أنَّ اختلافهم وتمايُـزهم عـن العالم إنما هـو في الشكل والمظهر، في حين أنهم بالفكر والذهن مُشابهون للعالم... (ولكن) في تجديـد الذهن وسـلام الأفكار، ومحبة الرب والعشـق السماوي نحوه، يكمُـن الفارق بين الخليقة الجديـدة التي للمسيحيين وبين أهـل العالم](1).

«صلُّوا لكي لا تدخلوا في تجربة»:

الإنسان وهـو في حالة صلاة يكون مُتسلِّحاً باسم الرب ضـد تجارب العدو، وبصفةٍ خاصة التجارب التي تمسُّ إيماننـا المسيحي وعقيدتنـا المستقيمـة. فـالعدو، بكـلِّ وسيلة، يحـاول أن يضـرب إيماننا في مقتـلٍ، ويُصيبنـا بالشـكِّ والارتياب، الذي قـال عنه يعقوب الرسول: إنَّ «الْمُرْتَابَ يُشْبِهُ مَوْجاً مِـنَ الْبَحْرِ تَخْبِطُهُ الرِّيحُ وَتَدْفَعُهُ. فَلاَ يَظُنَّ ذلِكَ الإِنْسَانُ أَنَّهُ يَنَالُ شَيْئاً مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ» (يع 1: 7،6).

وبالتالي، علينا أن نرقـب ونرصد محاولات العـدو وأفكـاره الشريـرة، التي بها يُريـد أن يُزحزحنا عـن إيماننا بصخر الدهور ربنا يسوع المسيح. فـإنَّ إهمالنا الصلاة كـل حين، يُعطي فرصةً لعدو كلِّ بـرٍّ أن يتسلَّل إلى عقلنا وكياننا، بل وحياتنا كلها؛ وبالتالي يُفسِد كـل علاقـة بيننا وبين الله، بل وبيننا وبين إخوتنا والمُحيطين بنا.

«لا تُدخلنا في تجربة، لكن نجِّنا من الشرير»:

+ يُـوضِّح القديس كيرلس الكبير معنى هـذه الكلمات في شرحه للصلاة الربَّانية، قائلاً:

[ينبغي، إذن، أن يكـون لنا غيرة روحية دائمة وطول أناة، وأن يكون لنا فكرٌ ثابت لا يتزعزع في الملمَّات مهما كانت... ولا نتصوَّر أننا دائماً سنتغلَّب على كـلِّ التجارب بالضرورة. لأنـه يحدث أحيانـاً أن يُداهِم عقل الإنسان فـزع لا يُحتمَل، ينزل بـه إلى خوفٍ ساحق، كما يفعل الشيطان المُبغض لكلِّ خير. وإنَّ عُنف التجربة قـد يهزُّ أحياناً عقل أشد الناس شجاعةً... لذلك، فلنُصلِّ أن لا نُجرَّب، لأنـه أمرٌ صعب أن نفرَّ من التجربة، كما أنه أمرٌ صعب بالنسبة لمُعظم الناس أن يصمدوا إلى النهاية. ولكن إذا ما دَعَت الضرورة وأُلقينا فيها (أي في التجربـة) رغماً عنَّا، فلابـد أن ندخـل المعركة باذلين أقصى جهدنا، ونُصارِع مـن أجل نفوسنا، غير هيَّابين البتَّة... كما كَتَبَ أيضاً ذلك الرسـول القديـس (يعقوب) الذي قال: «طُوبَى لِلْرَّجُلِ الَّذِي يَحْتَمِلُ التَّجْرِبَةَ، لأَنَّهُ إِذَا تَزَكَّى يَنَالُ ”إِكْلِيلَ الْحَيَاةِ“ الَّذِي وَعَدَ بِهِ الرَّبُّ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ» (يع 1: 12).

هناك، على أيِّ حـال، أنواع عديـدة مـن التجـارب، منها اثنتـان عـامَّتان وشـائعتان ومنتشرتان جداً في كلِّ مكان، ومن اللائق بنا أن نُخبركم بهما: إذ توجد في العالم هرطقات كثيرة، ويوجـد رُسُل كَذَبَـة، ومُعلِّمون كَذَبة، الذين إذ يجمعون البِدَع التافهة ويُثقلون أنفسـهم بها، وإذ يفتخـرون بفنـون حكمة هـذا الدهـر؛ فإنهم يُزيِّفون لُغـة الكرازة المقدَّسة، ويُكثرون مـن أقـوال التجديـف مُغالطين أنفسهـم... وهؤلاء إذ يُقاومـون المُناضلين مـن أجـل الحـقِّ، يضطهِـدون أولئك الذيـن اختـاروا التمسُّـك بالتعليم الصحيح، والذيـن يُدافعون عـن المجد الإلهي... لذلك عندما تُقابلك تجربة مـن هـذا النوع، فـلا تطـرح عنك دِرْعـك، ولا تكُـن كجندي يفرُّ مـن المعركة... ولا تشتهي سلاماً في غير أوانـه، يكـون سبباً في دمـارٍ في المستقبل؛ بل تذكَّر أنَّ المسيح مُخلِّص الكل، قد قـال: «لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأُلْقِيَ سَلاَماً عَلَى الأَرْضِ. مَـا جِئْتُ لأُلْقِيَ سَلاَماً بَلْ سَيْفاً» (مت 10: 34). وحتى إذا مـا كـان للمُضطهِديـن سلطانٌ دنيـوي، فـلا تَخَف مـن الأذى الذي يُمكنهم أن يلحقـوه بـك... لكـن تذكَّـر أيضاً نصيحة الرسول القديس (بطرس) الذي يقـول: «إِذاً، الَّذِيـنَ يَتَأَلَّمُـونَ بِحَسَـبِ مَشِيئَـةِ اللهِ، فَلْيَسْتَوْدِعُوا أَنْفُسَهُمْ، كَمَا لِخَالِـقٍ أَمِينٍ، فِي عَمَلِ الْخَـيْرِ» (1بـط 4: 15)... فهـذه، إذن، هي الصراعات الموضوعة لكـلِّ الذين يتَّقون الله، لإعطاء الدليل على مَـن يعـرف كيف يحتمل الضيقات بصبرٍ!

ثم إنَّ هناك أنواعاً أخرى مـن التجارب، بجانب هـذه، يمكننـا أن نقـول إنها عامـة على الكـلِّ، ولكنها تختلف مـن واحـدٍ إلى آخـر... (فـ) يوجـد، إذن، جهاد وخطـر جسيم، قـد وُضِـعَ على كـل واحـد حتى لا يسقط في الخطية، وينحـرف عـن جادَّة الصـواب، ويتـوه في ارتكـاب الأعمـال الخاطئة... لـذلك، يليـق بنـا حسناً، نحـن المُعرَّضين لمثـل هـذه الشـرور الخطيرة - حتى وإن لم نكن قد سقطنا فيها بعد - أن نُصلِّي قائلين: «لاَ تُدْخِلْنَا فِي تَجْرِبَةٍ لكِنْ نَجِّنَا مِـنَ الشِّرِّيـرِ» (لـو 11: 4)، لأنـه جيِّد للإنسان أن يكون بمنأى مـن كل شرٍّ. أمَّا إن هاجمتك التجربـة، فكُـن شُجاعـاً ولا تقبل الهزيمة، وأَقمع الجسد، وأَلجم العقل، واطلب المعونة مـن الله؛ فتحـوز الأمـان بالقـوَّة الممنوحة لك من الأعالي.

تشدَّد وتقـوَّ، ولا تكُـن ضعيفاً أو سهـل الوقوع في فخاخ العدو؛ بل كُـن حَذِراً، كُن مُحبّاً لله أكثر مـن حُبِّك لأيِّ لذَّةٍ أخرى. فهو حينئـذ سـوف يُعينك ويهبك النصرة، لأنـه مُخلِّص الكل ورب الكل، الذي بـه لله الآب التسبيح والسلطان، مـع الروح القدس، إلى دهر الدهور، آمين](2).

+ وكذلك يشـرح الأب متى المسكين معنى هذه الآية من الصلاة الربَّانية، قائلاً:

[بَـدَأَ المسيح يُلقِّـن تلاميـذه هنـا ”صرخـة الاستغاثة“، يفزعـون بها إلى الله لحظة الخطر عند مجيء ساعة التجربـة العتيدة أن تأتي على العالم، لتبتلي كـل ذي جسد. وهـذه الصرخة تحمـل سـرَّ النجاة، إنْ أحسـن الإنسان لحظة نُطْقها، فهي صرخة فعَّالة قبل أن تقع التجربة!

”لا تُدخلنا“: فنحن ندرأ التجربة بصراخنا للقادر أن يُنجِّي. ولكـن، إنْ توانينا، بـاغتنا العدو وأصـاب منَّا مقتلاً: «فَـاخْضَعُوا للهِ. قَاوِمُـوا إِبْلِيسَ فَيَهْرُبَ مِنْكُمْ. اِقْتَرِبُوا إِلَى اللهِ فَيَقْتَرِبَ إِلَيْكُمْ» (يع 4: 8،7). فنحـن نقترب إلى الله حقّاً وفعـلاً بصراخنـا إليـه أمـام التجربـة. فـإن اقتربنـا إلى الله بصراخنا، ابتعـد العدو مدحوراً وولَّى هارباً...

والتجربـة حتماً آتيـة على العالم لا محالة، سواء في صورتها المُتجزِّئـة التي تصدمنا كل يوم في كلِّ ما يخصُّنا؛ أو في صورتها الخَطِرة التي تهـدف إلى انتزاع الإيمـان مـن قلـوبنا بضربتها المُفاجئـة المُرعبـة، فنبيع المسيح في لحظةٍ!! وهذه هي عينها نوع التجربة التي يُشير إليها المسيح. من أجل هذا وَضَعَ المسيح مُسْبقاً في أفواهنا نداء الاستغاثة عن حكمةٍ...

ولكي يتيقَّن القارئ مـن دقَّـة المعنى الذي سُقناه إليه في هـذه الآية ليزداد تأكيداً، نُقدِّم إليه قـول المسيح في هـذا الأمر عينه: «(هؤلاء) لَيْسُوا مِنَ الْعَالَمِ، كَمَا أَنِّي أَنَا (أيضاً) لَسْتُ مِنَ الْعَالَمِ. لَسْتُ أَسْأَلُ أَنْ تَأْخُذَهُمْ مِنَ الْعَالَمِ بَلْ أَنْ تَحْفَظَهُمْ مِنَ الشِّرِّيرِ» (يـو 17: 15،14). هذا (هـو) همُّ المسيح الأول مـن جهـة ”أولاده الصغار“ الذين تركهم في العالم يُجاهدون مـن أجل حِفْظ الوديعة، وهـو عالمٌ أنهم في مواجهة مستمرة مع عدوٍّ مُتمرِّس. لذلك لم يتركنا بدون كلمة سـرٍّ نقولها فننجو. فطوبى لمَن تعلَّم أن لا يكفَّ عـن طلب النجاة: «الَّذِي نَجَّانَا مِنْ مَوْتٍ مِثْلِ هـذَا، وَهُـوَ يُنَجِّي. الَّذِي لَنَا رَجَاءٌ فِيهِ أَنَّهُ سَيُنَجِّي أَيْضاً فِيمَا بَعْدُ» (2كو 1: 10)](3).

(1) ”الأعمـال الكاملـة للقديس أنبـا مقار - العظات الخمسون“، العظة الخامسة: 5،4،3،1.
(2) ”تفسير إنجيل لوقا“، عظة 77، لو 11: 4.
(3) ”الإنجيـل بحسب القديس لوقـا - دراسـة وتفسير وشرح“، الطبعة الأولى: 1998، ص 479،478.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis