|
|
|
كيف تكون المثابرة في الرجوع عن الخطأ،
دون صغر نفس أو ضجر أو يأس؟
- ”كان إنسانٌ له بقيع (حقل متَّسع فيه أشجار مختلفة)، فمن توانيه امتلأ ذلك البقيع شوكاً، وإنه بعد ذلك انتبه، وأراد أن يُنقِّي ذلك البقيع من الشوك، فقال لابنه: "يا بُنيَّ، اذهب إلى البقيع ونقِّهِ واقلع شوكَـه". فلما ذهب ابنـه وأبصر كثرةَ الشوكِ، سئم وملَّ، ونـام. وبعد أيامٍ كثيرة، أتاه أبوه لينظر ماذا عمل الغلام، فلما رآه لم يعمل شيئاً، قال له: "حتى الآن لم تُنقِّ شيئاً"؟ فقال الغلامُ: "أُخبرك، يا أبتاه، كلما عزمتُ على البدء في العمل، أُبصر كثرةَ الشوك فأحزن، ومن كثرة الحزن كنتُ أضع رأسي وأنام". فقال له أبوه: "لا يكون الأمرُ هكذا، يا ابني، ولكن نقِّ كلَّ يومٍ قدرَ مِفْرَشِك (المفرش الذي ينام عليه) فقط، وذلك قليلاً قليلاً". ففعل الغلام كما أمره أبوه، وداوم على ذلك حتى فرغ الشوكُ من ذلك البقيع“.
وقال الشيخ لتلميذه: ”وأنت كذلك، يا حبيبي، ابدأ بالعمل شيئاً فشيئاً ولا تضجر، والله بطيبهِ ونعمتهِ يردُّك إلى سيرتك الأولى“. فذهب ذلك الأخُ وعمل وصبر كما علَّمه الشيخُ، فوجد عزاءً وأفلح.
قصة الراهب الرحيم:
+ قيل عن شيخٍ إنه كان كثيرَ الرحمة، فحدث غلاءٌ عظيمٌ، ولكنه لم يتحوَّل عن فعل الرحمة، حتى نفدَ كلُّ شيءٍ له، ولم يبقَ عنده سوى ثلاثِ خبزاتٍ، فحين أراد أن يأكلَ أحبَّ الله امتحانه، وذلك بأن قرع سائلٌ بابَه، فقال الراهب لنفسِه: ”جيِّدٌ لي أن أكونَ جائعاً، ولا أَردَّ أخَ المسيحِ خائباً في هذا الغلاء العظيم“. فأخرجَ خبزتين له، وأبقى لنفسه خبزةً واحدةً، وقام وصلَّى وجلس ليأكل.
وإذا سائـلٌ آخر قـد قرع البابَ، فضايقته الأفكارُ من أجل الجوع الذي كان يُكابده داخله، ولكنه قفز بشهامةٍ، وأخذ الخبزةَ وأعطاها للسائل قائلاً: ”أنا أومِن بالمسيح ربي، إني إذا أطعمتُ عبدَه في مثل هذا الوقت الصعب، فإنه يُطعمني هو من خيراته التي لم تَرَها عينٌ، التي أعدَّها لصانعي إرادته“. ورقد جائعاً، وبَقِيَ هكذا ثلاثةَ أيامٍ لم يَذُق شيئاً، وهو يشكرُ الله.
وبينما كان يصنع خدمته (صلاة الأجبية) بالليل، جاءه صوتٌ مـن السماء يقول له: ”لأجـل أنك أكملتَ وصيتي، وغفلتَ عن نفسِكَ، وأطعمتَ أخاك الجوعان؛ لا يكون في أيامِك غلاءٌ على الأرض كلِّها“. فلما أشرق النور، وَجَدَ على الباب جِمالاً مُحمَّلةً خيراتٍ كثيرة. فمجَّد الله، وشكر الربَّ يسوعَ المسيح. ومن ذلك اليوم عمَّ الرخاءُ الأرضَ كلَّها.
رؤيا للقديس أنبا سلوانس:
+ وكان الأب سلوانس جالساً مرةً مع إخوةٍ، وفجأةً أُخِذَ مبهوتاً وسقط على وجهه، ومن بعد حينٍ قام باكياً، فقال له الإخوة: ”ما الذي أبكاك يا أبانا“؟ فسكت باكياً. فلما أكرهوه على الكلام قال: ”إني اختُطِفتُ إلى موضع الدينونة، ورأيتُ كثيرين من جنسنا يُساقون إلى العذاب، وكثيرين من العَلمانيين مُنطلقين إلى الملكوت“. وناح الشيخُ ولم يشأ أن يخرج من القلاية.
حكمة آباء البرية وإفرازهم تقوم على المحبة:
+ حدث مرةً أيضاً أن زار أنبا قاسيانوس (يوحنا كاسيان) والقديس جرمانوس (شيخان من رهبـان فلسطين) القديس أنبا شيشوي، فـاحتفل بضيافتهما. فسألاه: ”لأيِّ سببٍ لا تحفظون قوانينَ صومكم في وقت ضيافتكم الإخوة الغرباء، على ما قد عرفناه في بلدنا فلسطين“؟ فأجابهم قائلاً: ”إنَّ الصوم معي دائمـاً، وأمـا أنت فلستَ معي دائماً، والصومُ شيءٌ نافعٌ لازمٌ، وهو من نيَّتنا ومـن إرادتنـا، وأما إكمالُ المحبة فيُطالبنا به ناموسُ الله بلازم الاضطرار؟ فَبِكُم أَقبلُ المسيحَ، ويوجِب عليَّ دَيْناً لازماً بأن أخدمَه بكلِّ حرصٍ. فإذا شيَّعتُكم (ودَّعتُكم) أمكنني استعادة صومي، وذلك أن «أبناءَ العُرسِ لا يستطيعون أن يصوموا ما دام العريسُ معهم، فمتى رُفع الخَتَن فحينئذٍ يصومون بسلطانٍ» (متى 9: 15)“.
روح الوحدة في الفضائل المسيحية
كانت تسود بين الرهبان جميعاً:
+ قيل عـن القديس مقاريوس الوسطاني(1) إن إنساناً أتاه بعنقودٍ مُبكِّرٍ. فلما رآه سبَّح الله وأَمَرَ أن يُرسلوه إلى أخٍ كان عليلاً. فلما رآه الأخُ فَرِحَ، وهمَّ أن يأخذَ منه حبةً واحدةً ليأكلها، لكنه قمع شهوته، ولم يأخذ منه شيئاً، وقال: ”خذوه لفلان الأخ، لأنه مريضٌ أكثر مني“. فلما أخذوا العنقودَ إليه رآه وفَرِحَ، لكنه قَمَعَ شهوته، ولم يأخذ منه شيئاً. وهكذا طافوا بـه على جماعة الإخوة، فكان كلُّ مَن أخذوه إليه يعتقدُ أن غيرَه لم يَرَهُ بعد. وهكذا لم يأخذوا منه شيئاً. وبعد أن انتهوا من مطافهم على إخوةٍ كثيرين، أرجعوه إلى الأب. فلما وجد أنه لم تَضِعْ منه حبةٌ واحدةٌ، سبَّح الله من أجل قناعة الإخوة وزهدهم.
+ وكـان القديس(2) يقول: ”كما أنَّ بستانـاً واحداً يستقي من ينبوعٍ واحد، تنمو فيه أثمارٌ مختلفٌ مذاقُها وألوانُها؛ كذلك الرهبان فإنهم يشربون مـن عينٍ واحدة، وروحٌ واحـدٌ ساكنٌ فيهم، لكن ثمرهم مختلفٌ، فكلُّ واحدٍ منهم يأتي بثمرةٍ على قدر الفيض المُعطَى له من الله“.
(يتبع)
(عن كتاب: ”بستان الرهبان“)
(1) هو القديس مقاريوس الكبير حسب النص اليوناني لكتاب: Historia Monachorum. أمـا الترجمة التي قام بها روفينوس لهذا الكتاب إلى اللغة اللاتينية، فقد نقل هذه القصة ووضعها تحت اسم القديس مقاريـوس الإسكندري: Hist. Lat. XXIII, col. 453.
(2) يبدأ هذا القول، حسب النص السرياني، هكذا: ”اعتاد الأب يوحنا (القصير) أن يقول“.