|
|
|
الأسفار التاريخية
أولاً: سِفْر يشوع
مقدِّمــة:
سِفْر يشوع هو أول الأسفار التاريخية، ويُمثِّل الحلقة بين خمسة أسفار موسى أي التوراة، وبين باقي أسفار إسرائيل التاريخية.
ومن خلال ثلاث مواجهات، قادها يشوع، اختبر شعب إسرائيل درساً عصيباً تكلَّل بالنجاح، وتعلًَّم منه الشعب أنَّ النجاح يأتي بواسطة الإيمان بالله وطاعة كلمته، وليس بالكثرة العددية أو التفوُّق الحربي. وقد استُعلِن هذا المفهوم من خلال اسم السِّفْر نفسه. فاسم ”يشوع“ الذي معناه ”يهوه هو المُخلِّص“، هو رمز للحقيقة، أنه رغم أن يشوع هو قائد إسرائيل عندما انتصروا؛ إلاَّ أنَّ الله هو المُعين.
مؤلِّف السِّفْر:
مع أنَّ السِّفْر يحمل اسم ”يشوع“، إلاَّ أن ذلك لا يدلُّ دلالة قاطعة على أنَّ كاتبه هو يشوع؛ كما أنه لا يوجد شك في أنَّ بعض أجزاء السِّفْر منسوبة له: من الأصحاح 18: 9 وحتى 24: 26، حيث يبدو أنَّ سِجِلاَّت مدوَّنة قد كُتِبَت بواسطة يشوع ومُعاصريه.
والعبارة: ”إلى هذا اليوم“، التي تتكرَّر كثيراً في السِّفْر، تدلُّ على أن زمان كتابة المذكِّرات جاء بعد وقوع تلك الأحداث. ولكنه يبدو بالتأكيد أنَّ التدوين كان في بعض الأحيان، على الأقل، ليس بعد الأحداث بوقتٍ طويل. فمثلاً: في (16: 10) حيث تُذكَر الحادثة التي فيها يقول: «فلم يطردوا الكنعانيين في جازر. فسكن الكنعانيون في وسط أفرايم إلى هذا اليوم، وكانوا عبيداً تحت الجزية»؛ إلاَّ أننا نجد أن هذا الوضع لم يظل قائماً في عهد سليمان حيث يقول في (1مل 9: 16): «صعد فرعون ملك مصر، وأخذ جازر وأحرقها بالنار، وقَتَل الكنعانيين الساكنين في المدينة، وأعطاها مهراً لابنته امرأة سليمان». هناك أيضاً بعض الأحداث قد أُضِيفت مؤخراً مثل: هجرة دان نحو الشمال (19: 47)، وكذلك ذِكْر موت يشوع ودفنه (24: 29-33)، ثم التكملة النهائية للسفر التي ربما تأخَّرت حتى بداية مملكة شاول. ولعل أحداث السِّفْر قد بدأت سنة 1405 ق.م، وكان موت يشوع سنة 1390 ق.م. أمَّا إذا حُسِبَ الخروج من مصر بعد هذا التاريخ، حسب رأي البعض، فيكون تاريخ كتابة سِفْر يشوع ما بين 1200 ق.م، 1250 ق.م.
مضمون سِفْر يشوع:
يمكننا تقسيم ما تضمَّنه سفر يشوع إلى قسمين رئيسيَّيْن:
أولاً: من الأصحاح الأول إلى الأصحاح 12، يُسجِّل الانتصارات التي حقَّقها يشوع ضد سُكَّان كنعان.
ثانياً: من الأصحاح 13 إلى الأصحاح 24، يصف ترسيم حدود كل سبط من أسباط إسرائيل التسعة والنصف، واستقرار كل سبط في نصيبه في أرض الموعد.
ويتخلَّل موضوع الانتصارات والاحتلال سِفْر يشوع بأكمله:
+ حيث نجد في الأصحاحات من 1-5 بداية الانتصارات في شرق الأردن بعد أن حلَّ يشوع محل موسى، وعَبَر بنو إسرائيل نهر الأردن سائرين على الأرض اليابسة عَبْر النهر واستعدُّوا للحرب. وقد استخدم يشوع القائد الحكيم استراتيجية تقسيم القوات لدحر العدو.
+ وفي الأصحاحات من 6-8 بَدَأَت الحملة العسكرية في وسط كنعان، مُتحاشياً بذلك تكتُّل الأعداء ضد إسرائيل.
+ ثم تحرَّك يشوع نحو الجنوب (الأصحاحان 10،9)، وفي النهاية اتَّجه نحو الشمال (الأصحاحان 12،11). أما باقي السِّفْر فكان - كما ذكرنا - تحديد الحدود لكل سبط لكي يأخذ ميراثه في أرض الموعد بالقرعة. ورغم أنه ليس هناك أية نبوءات ماسيَّانية في السِّفر، إلاَّ أن يشوع نفسه هو رمز واضح للمسيح. فاسم ”يشوع“ يعني ”يهوه هو المُخلِّص“، فهو الاسم العبري الموازي لاسم يسوع. وفي دوره الذي قام به بقيادة الشعب في تملُّكه لأرض الموعد، وتحقيقه لمواعيد الله لآبائهم بتوريثهم لهذه الأرض؛ فإنه يُشير إلى ذاك الذي «أتى بأبناءٍ كثيرين إلى المجد» (انظر عب 2: 10).
ويمكن تصوير هذا المضمون في الجدول الآتي:
الانتصار على كنعان والاستيلاء عليها
1: 1 ـــــــــ 12: 14
الاستقرار في كنعان واحتلالها وتقسيمها بالقرعة
13: 1 ـ 14: 1 ـــ 20: 1 ــــ 22: 1 ـ 24: 37 إعداد إسرائيل
1: 1 ــ 5: 15 الاستيلاء على كنعان
6: 1 ــ 12: 24 احتلال شرق الأردن احتلال غرب الأردن تمليك السبط الملكي شروط من أجل استمرار دوام الاستقرار 1: 1 ــ 5: 15
دخول كنعان بعبور الأردن 6: 1 ــ 12: 24
احتلال كنعان 13: 1 ـــــــــــــــــــ 24: 33
تقسيم كنعان الاستعدادات إخضاع الشعوب الاستقرار في كنعان تقسيم الأرض المحتلة شرق الأردن (على سبطين ونصف)
تقسيم الأرض المحتلة غرب الأردن (على 9 أسباط ونصف) انتصارات يشوع:
تحت قيادة يشوع، دخل إسرائيل أرض كنعان حوالي سنة 1405 ق.م، من أجل أن يطرد الكنعانيين ويُحرِّر أرض الموعد. وبدراسة مُدقِّقة للمواجهات التي قادها، يظهر أن يشوع كانت له خطط مُحكمة للغلبة. وقد بدأ بتوطيد أقدام بني إسرائيل في وسط كنعان، ثم قاد الحملات في المناطق الجنوبية ثم الشمالية لكي يُكمل احتلال الأرض كلها. وتصف الأصحاحات من 1-11 هذه الحملات التي استغرقت ما يقرُب من سبع سنوات من 1405-1398 ق.م. وعند موت يشوع (24: 29) كان الإسرائيليون قد طردوا أغلب الكنعانيين من فلسطين، وقُسِّمَت الأرض بين أسباط إسرائيل الاثني عشر.
توطين كل سبط في نصيبه:
كانت أرض الموعد مُنحصرة بين نهر الأردن شرقاً إلى البحر الكبير (البحر الأبيض المتوسط)؛ بينما طلب سبط رأوبين وسبط جاد ونصف سبط منسَّى أساساً الأرض الواقعة شرق نهر الأردن (منذ أيام موسى النبي - عد 32: 33). وأما من الشمال إلى الجنوب، فكانت أرض الموعد تُغطِّي الأرض الواقعة بين منطقة سُكنى الفينيقيين الساحلي شمالاً إلى شبه جزيرة سيناء جنوباً. وقد قُسِّمَت الأرض بالقرعة بين جميع أسباط يعقوب الباقين فيما عدا سبط لاوي (يش 13: 33)، حيث ذهب نصيبه إلى أولاد يوسف الاثنين: أفرايم ونصف سبط منسَّى (يش 14: 4،3). أما سبط لاوي فقد تخصَّص للخدمة الكهنوتية، لأن الرب هو نصيبه (عد 18: 20). ومع ذلك فقد خُصِّصَت 48 مدينة في كلِّ أرض الموعد وفي نصيب كل سبط لاستخدام اللاويين (يش 21: 1-42).
كما تحدَّدت ست مدن موزَّعة في كلِّ أرض إسرائيل لتكون مُدناً للملجأ، لكي يلجأ إليها مَن يقتل واحداً من بني إسرائيل خطأً عن غير عَمْد: «لكي يهرب إليها القاتل ضارب نفسٍ سهواً بغير علم، فتكون لكم ملجأً من وَلِي الدم» (انظر يش 20: 1-6). وكانت هناك ثلاث مدن في شرق الأردن وثلاث مدن أخرى في غرب الأردن، وهي: جولان، راموت، باصِر (في شرق الأردن - تث 4: 43)؛ قادش، شكيم، حبرون (في غرب الأردن - يش 20: 7).
بعض الأقوال الآبائية عن أهم أحداث السِّفْر:
1. [لأن موسى كان مُناسباً أن يقود الشعب إلى خارج مصر؛ أمَّا يشوع فيقودهم إلى أرض الميراث. وكان مُناسباً أيضاً لموسى، كما هو الحال مع الناموس، أن يتوقَّف عن الوجود؛ أمَّا يشوع، بصفته الرمز المُطابق للكلمة الذي صار جسداً، فكان لائقاً به أن يصير هو كارزاً للشعب، كما هو الحال مع الكلمة. وأيضاً فقد كان لائقاً أنَّ موسى يُعطي المَنَّ طعاماً للآباء؛ أمَّا يشوع فيُعطيهم الحنطة، كأول ثمار الحياة (في أرض الموعد)، كرمز لجسد المسيح. كما أعلنت الأسفار أيضاً أنَّ المَنَّ الذي من عند الرب توقَّف عن النزول عندما أَكَلَ الشعبُ الحنطةَ من الأرض (التي ورثوها في كنعان أرض الموعد)](1) - القديس إيرينيئوس أسقف ليون (حوالي 135-202م).
2. [هَدِّئ نفسك واقذف كل الكبرياء بعيداً عنك، وكُن شُجاعاً. وانظر، عندما كان يشوع بن نون شُجاعاً، أخضع الله جميع أعدائه تحت قدميه. أمَّا إذا كنتَ جباناً، فإنك سوف تصبح غريباً عن ناموس الله. فالجُبن يملأك بكلِّ الذرائع التي تقود إلى الكسل والشك والإهمال، حتى يؤدِّي بك إلى الهلاك](2) - القديس باخوميوس الكبير (حوالي 292-348م).
3. [هذا كان الحال مع راحاب: لم يذكر الكتاب المقدَّس شيئاً فاضلاً عنها، بل بالحري تكلَّم عن فسوقها، وأيضاً عن كذبها، الذي بواسطته، اختارت أن تحمي الجاسوسَيْن بدلاً من أن تخونهما، وبذلك استحقَّت أن تُشارِك في البركة الأبدية مع شعب الله. أمَّا إذا كانت قد اختارت أن تقول الحقيقة (عن الجاسوسَيْن)، أو أن تعمل حساب سلامة شعبها، فليس هناك شكٌّ في كونها هي وكل بيتها ما كانوا نَجَوْا من الهلاك المُقبِل عليهم، ولا أن تُحسَب مستحقَّة أن تصير ضمن أولئك الذين وُلِدَ من نسلهم الرب (مت 1: 5)، وتصبح في تعداد سِجِل البطاركة، ومن خلال ذريتها جاء مُخلِّص الجميع](3) - القديس يوحنا كاسيان.
4. [إنَّ الشعب العبراني، كما تعلَّمنا، بعد معاناةٍ كثيرة، وبعد أن أكملوا مسيرتهم المُرهقة في البرية؛ لم يدخلوا أرض الموعد إلاَّ بعد أن وُضِعوا أولاً تحت قيادة يشوع (رمز المسيح) ومُدبِّر حياتهم في مسيرتهم إلى الأردن وعبوره. ولكنه واضح أيضاً أن يشوع هو الذي أَرسى الاثني عشر حجراً في مجرى النهر (يش 4: 3-7) مُشيراً بذلك مُسْبَقاً إلى مجيء الاثني عشر تلميذاً، رُسُل المعمودية](4) - القديس غريغوريوس النيصي.
5. [كل مَن هو تحت الناموس يُوقِّر موسى. ولكن عندما يعبُر الواحد من الناموس إلى الإنجيل، فبالتحوُّل عن مراعاة الناموس يتحوَّل أيضاً التوقير. وهذا هو تماماً ما يقوله الرسول (بولس): «لأني مُتُّ بالناموس للناموس لأحيا لله. مع المسيح صُلِبْتُ، فأحيا لا أنا، بل المسيح يحيا فيَّ» (غل 2: 20،19)](5) - العلاَّمة أوريجانوس
6. [أيضاً موسى نفسه قال: «في الأيام الأخيرة يختن الرب الإله قلبك لكي تحب الرب إلهك» (تث 30: 6 – حسب النص). وبنفس الأسلوب نُلاحِظ في يشوع بن نون، خليفة موسى، قوله: «قال الربُّ ليشوع: اصنعْ لنفسك سكاكين من صَوَّان وعُدْ فاخْتِنْ بني إسرائيل ثانيةً» (يش 5: 2). فقد قيـل إنَّ هذا الختان الثاني لا يمكن أن يكون في اللحم كما كان في المرة الأولى، مثلما ما زال اليهود يُمارسونه؛ بل هو ختان القلب والروح، هـذا الذي أعطاه المسيح الذي هـو يسوع الحقيقي](6) - العلاَّمة لكتانتيوس - مُدافع مسيحي (260-330م).
7. [هل أخطأ يشوع بن نون في معرفة قائد جُند السماء (رئيس جُند الرب: يش 5: 13-15)؟ بل إنه بعد أن آمن وصدَّق، فإنه للتوِّ انتصر، إذ وُجِدَ أهلاً أن يغلب في معركة الإيمان. وبعد ذلك، فهو لم يَقُد جيوشاً في القتال، ولا ألقى على متاريس أسوار العدو بالمنجنيق، أو بأيَّة آلة أخرى من آلات الحرب، ولكن بصوت سبعة أبواق الكهنة. وهكذا فإنَّ صوت الأبواق وثياب الكهنة، أنهت حرباً ضروساً](7) - القديس أمبروسيوس.
(يتبع)
(1) Fragments XIX,1184.
(2) CS 47: 21(Instructions 2).
(3) Conference 17,17,1-2 (ACW 57: 595).
(4) On the Baptism of Christ (NPNF, 25:522).
(5) Homilies on Joshua 7,4 (FC 105: 63).
(6) Epitome of the Divine Institutes 4,17 (FC 49: 289).
(7) On the Christian Faith, 5,10,126 (NPNF, 10: 300).