نياحة راهب فاضل


انتقال عمود من أعمدة دير القديس أنبا مقار الأب الطوباوي القمص كيرلس المقاري

انتقل إلى الأمجاد السماوية أبونا الحبيب الراهب القمص كيرلس المقاري أمين ووكيل وقف دير القديس أنبا مقار، وأحد شيوخ الرهبنة في هذا الجيل، الذي ترهَّب أولاً في دير السيدة العذراء الشهير بدير السريان في 28/7/1955، وعاش راهباً ناسكاً ما يقرب من 57 عاماً.
+ وقد تنيَّح في شيخوخة صالحة مُكمِّلاً نذره الرهباني حتى أكمل سعيه ورقد في الرب فجر الاثنين الموافق 13 فبراير 2012م الموافق 5 أمشير 1728ش، والذي وافق تذكار نقل رفات الـ 49 شهيداً شيوخ شيهيت، وذلك بعد مرض قصير نُقل على أثره إلى المستشفى في اليوم الثاني للاحتفال بصلوات قدَّاس ليلة عيد الميلاد المجيد 7 يناير 2012م الذي أقامه هو.

+ وقد كان اسمه قبل الرهبنة ”صموئيل ناشد عبد السيد“. وقد وُلِدَ في 14/3/1927، وحصل على بكالوريوس الهندسة - قسم البترول من جامعة القاهرة عام 1949م. وعمل مهندساً للبترول، وكان يقضي أغلب أيام عمله الحكومي في الإشراف على حقول البترول بمنطقة البحر الأحمر وشبه جزيرة سيناء، وكأن الله كان يؤهِّله لعيشة البراري قبل رهبنته.

+ وقد خدم قبل رهبنته في كنيسة القديس أنبا أنطونيوس بشبرا، وكان يتميَّز بغيرته في الخدمة، فاختير أميناً لخدمة التربية الكنسية حوالي عام 1952. وكان لا يكفُّ عن افتقاد الخدَّام ومتابعتهم روحياً. ورغبةً منه في التكريس والتعمُّق في العلوم اللاهوتية، التحق بالكلية الإكليريكية - القسم الليلي الجامعي، وحصل على بكالوريوس العلوم اللاهوتية سنة 1954م.

+ وفي 28/7/1955، رُسِمَ راهباً بدير السيدة العذراء - السريان. ثم انتقل هو وبعض الآباء الرهبان مقتدين بأبيهم الروحي المتنيح القمص متى المسكين، باعتبار ”الرهبنة هي تلمذة للأب الروحي“، إلى دير الأنبا صموئيل بجبل القلمون، وظلُّوا هناك حتى عام 1959م؛ حيث انتقلوا إلى برية وادي الريان في أغسطس 1960م في عهد قداسة البابا المتنيِّح أنبا كيرلس السادس. وعاشوا هناك في تلك البرية حياة نسكية شاقة في المغاير لمدة عشر سنوات، إلى أن استدعاهم قداسة البابا المتنيِّح أنبا كيرلس السادس في 9 مايو سنة 1969م للذهاب إلى دير القديس أنبا مقار تحت رئاسة نيافة الأنبا ميخائيل مطران أسيوط أطال الله حياته. وكان الدير في ذلك الحين قد آلت جميع أبنيته القديمة للانهيار، وكانت القلالي التي يسكنها الرهبان الشيوخ لا تكفي لسُكنى الرهبان الاثني عشر الذين حضروا إلى الدير دفعةً واحدة، حيث لم يكن بالدير سوى ستة رهبان متقدِّمين في الأيام.

+ وبدأت حركة التعمير في الدير، وترميم المباني الأثرية القديمة، وتشييد القلالي الجديدة. وكان العمل شاقّاً، وصار عبء التعمير والبناء مُلقًى على عاتق الآباء الاثني عشر، بالرغم من الإمكانيات الضعيفة. وكانت يد الرب معهم، فكانوا يعملون بكل غيرة وفرح بتعضيد أبينا الروحي المتنيِّح القمص متى المسكين وإرشاده، وتشجيع نيافة أبينا المطران أنبا ميخائيل.

+ وفي بداية حضور الرهبان الاثني عشر إلى دير أنبا مقار، وفي أول يناير 1971م، قام نيافة أنبا ميخائيل برسامة الأب كيرلس مع أربعة من الآباء الرهبان الذين جاءوا من وادي الريان قسوساً، واشترك مع نيافته في رسامتهم نيافة المتنيِّح أنبا أندراوس أسقف دمياط الذي كان راهباً معهم في وادي الريان باسم الأب القس موسى. وفي عام 1972م، رقَّى نيافة أنبا ميخائيل الأب كيرلس قمصاً على الدير ليُمارس خدمته كأمين للدير، ثم عُيِّن فيما بعد وكيلاً للوقف.

+ وقد عاش أبونا القمص كيرلس راهباً ناسكاً مُحبّاً لإخوته الرهبان وخادماً لهم. وكان لا يكفُّ عن المواظبة على متابعة الصلوت الكنسية، كما كان قائداً لخورس التسبحة بلا انقطاع. وكان يتميَّز بصوته الخاشع الشجي. وكُلِّف بتسليم الأجيال الجديدة الطقس الرهباني، وكذلك ما تسلَّمه من طقوس الكنيسة وألحانها مِمَّا تسلَّمه من مُعلِّم الأجيال المتنيِّح المعلم ميخائيل البتانوني. كما كان يتعهَّد المتقدِّمين للرهبنة بالتعليم والإرشاد بعد نياحة أبينا الروحي المتنيِّح القمص متى المسكين.

+ وقد كان يتميَّز بمحبته وخدمته لضيوف الدير ولكل محتاج، وبالأخص للفقراء والمحتاجين. ومن قصصه مع أحد الضيوف التي تُبيِّن حرصه على خلاص النفوس، وأنه كان لا يردُّ خاطئاً مهما كانت خطيئته:

إنَّ أحد الرهبان في الدير كان لا ينـزل إلى العالم قط منذ أن أتى إلى الدير سوى لمراتٍ نادرة ولضرورة طبية. وفي إحدى المرات تقابل هذا الراهب مع أحد زملائه في الدراسة وتعرَّفا على بعضهما البعض. فدعاه الأب الراهب لزيارة الدير، وكان ذلك في بداية الصوم الكبير. واستجاب هذا الزميل القديم إلى دعوة الراهب، وحضر إلى الدير في أحد أيام الصوم الكبير في حدود الساعة العاشرة صباحاً، وجلس في المضيفة. ثم دق جرس الكنيسة مُعلناً بداية القداس الإلهي في الساعة الحادية عشرة صباحاً، إلاَّ أنَّ هذا الضيف لم يهتم بسماعه جرس الكنيسة، ولم ينـزل إلى الكنيسة لحضور القداس.

وبعد دقائق معدودة حضر الأب كيرلس إلى المضيفة استعداداً لدخول الكنيسة لحضور القداس، وتقابَل مع هذا الضيف، فسأله: ”لماذا لم تحضر القداس وتتناول؟“. فضحك الضيف بشدة وبطريقة تدلُّ على إحساسه بعدم الاستحقاق، وقال لأبينا كيرلس: ”أنا أتناول؟!!“. فسأله أبونا كيرلس: ”ولماذا لا تتناول؟“. فأجابه الرجل بما يفيد أن له أكثر من 25 سنة لم يتناول ولم يَصُمْ، بجانب أنه لم يكن صائماً الصوم الكبير، كما أنه قد تناول إفطاره صباحاً من اللبن والجبن والبيض، وقد قام أيضاً بتدخين بعض السجائر. ورغم كل ما قاله، فقد صمَّم أبونا كيرلس أن يدخل الرجل الكنيسة ويتناول، وقد أعطاه الحِلَّ.

فاهتزَّ الرجل وارتبك أمام تصميم الأب كيرلس على ضرورة حضوره القداس وتناوله من الأسرار المقدسة. وبالفعل دخل الكنيسة وتناول من الأسرار المقدسة، بعد أن كان قد قضى كل هذا العمر بعيداً عن التناول.

وعند انتهاء موعـد الزيارة، قــام الأب المسئول بتنبيه الضيوف على انتهاء ميعاد الزيارة، إلاَّ أنه لاحَظ وجود شخص ما زال في كنيسة أنبا مقار جالساً بجانب جسد القديس أنبا مقار، وهو يبكي بحرقة، وكان الوقت قد قارَب الساعة السادسة مساءً. فقام بإبلاغ الأب كيرلس بحالة هذا الرجل، وماذا نفعل معه؟! فلما عَلِمَ الأب كيرلس بحالة هذا الرجل، قال للأب المسئول: ”اتركه ولا تُزعجه“. وبعد قليل قام الرجل وغادر الدير في حدود الساعة السابعة مساءً. وبعد وصوله إلى منـزله، وفي حدود الساعة الثالثة فجر اليوم التالي، غادر الأرض كلها منتقلاً إلى السماء، بعد أن تناول من الأسرار المقدسة مُعلناً توبته عند أجساد الثلاثة مقارات القدِّيسين.

فالمجد لربنا يسوع المسيح مُحب البشر الصالح، الذي جاء ”لا ليدعو أبراراً بل خطاةً للتوبة“ (مر 2: 17)، وهكذا تمثَّل هذا الأب المبارك بربنا يسوع. نطلب له نياحاً في فردوس النعيم مع مصاف الأبرار والصِّدِّيقين.

+ وقد أوفد قداسة البابا المعظَّم أنبا شنودة الثالث نيافة الحبر الجليل أنبا صرابامون أسقف ورئيس دير أنبا بيشوي للصلاة على جثمانه الطاهر ظهر يوم الاثنين 13 فبراير 2012م، ومُبَلِّغاً تعزيات قداسة البابا لمجمع رهبان الدير. واشترك مع نيافته في الصلاة أصحاب النيافة الأحبار الأجلاَّء: أنبا إشعياء أسقف طهطا وجهينة، وأنبا بسادة أسقف أخميم وساقلته، وأنبا متَّاؤس أسقف ورئيس دير السريان، وأنبا إيسوذورس أسقف ورئيس دير البراموس، وأنبا ثيئودوسيوس أسقف عام الجيزة.

+ كما حضر الصلاة كثيرون من الآباء الرهبان من الأديرة الثلاثة ببرية شيهيت؛ كذلك آباء من دير الشهيد مار مينا بمريوط موفَدين من قِبَل نيافة أنبا كيرلس أسقف ورئيس دير مار مينا؛ وكذلك حضر الكثيرون من أحبَّاء الدير.

+ وقد اتصل قداسة البابا شنودة الثالث تليفونياً بالدير بعد المحاضرة التي ألقاها في الكاتدرائية يوم الأربعاء الموافق 15/2/2012م، واستعلم عن ظروف نياحة أبينا المُكرَّم القمص كيرلس المقاري، وطلب توصيل خالص تعزيته لكل آباء مجمع رهبان الدير.

+ كما اتصل تليفونياً نيافة أنبا ميخائيل مطران أسيوط وناظر وقف دير القديس أنبا مقار، مُقدِّماً العزاء لجميع آباء الدير، وداعياً لكل الرهبان بالبركة والنعمة والثبات في الطريق الرهباني، متمثِّلين بمن سبقونا من الآباء القدِّيسين الذين عطَّروا البرية بعبيق سيرتهم الطاهرة وتمسُّكهم بنذر رهبانيتهم المقدسة إلى النَّفَس الأخير.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis