دعوة لتجديد العهد مع الله للذين فقدوا حرارة الروح الأولى


طعام الأقوياء

+ «لأن كل مَن يتناول اللبن هو عديم الخبرة في كلام البرِّ لأنه طفل. وأما الطعام القوي فللبالغين الذين بسبب التمرُّن قد صارت لهم الحواس مُدرَّبة على التمييز بين الخير والشر» (عب 5: 14،13).
طعام الأطفال، وطعام البالغين:

نتعلَّم من الطبيعة التي أبدعها الله أن هناك طعاماً للأطفال وطعاماً للبالغين. أما طعام الأطفال فهو اللبن، وطعام البالغين فهو الطعام القوي. وطعام الأطفال لا يُقيت البالغين، كما أن طعام البالغين لا يُناسب الأطفال.

وقد اتخذ بولس الرسول الحكيم من هذه الحقيقة تشبيهاً ضربه لأهل كورنثوس، لكي يُبيِّن لهم الفرق في تعليمه حينما يتكلَّم مع الذين يعيشون كأطفالٍ في سلوكهم، وبين مَن يسلكون كبالغين، فيقول لهم: «سقيتكم لبناً لا طعاماً، لأنكم لم تكونوا بعد تستطيعون، بل الآن أيضاً لا تستطيعون، لأنكم بعد جسديُّون. فإنه إذ فيكم حسد وخصام وانشقاق، ألستم جسديِّين وتسلكون بحسب البشر؟ لأنه متى قال واحد أنا لبولس وآخر أنا لأبولُّس، أفلستم جسديين؟» (1كو 3: 2-4)

ويقول أيضاً في رسالته إلى العبرانيين: «لأن كل مَن يتناول اللبن هو عديم الخبرة في كلام البرِّ لأنه طفل. وأما الطعام القوي فللبالغين الذين بسبب التمرُّن قد صارت لهم الحواس مُدرَّبة على التمييز بين الخير والشر» (عب 5: 14،13).

علامات النمو الروحي:

يُفهم من ذلك أن الحياة الروحية فيها نمو مستمر من الطفولة إلى الرجولة، وعلامة هذا النمو هو أن لا يكون فينا حسد وخصام وانشقاق، وأن تصير لنا الحواس مُدرَّبة على التمييز بين الخير والشر. ويؤكِّد بولس الرسول على ذلك ويُصلِّي من أجله لكي يتحلَّى به أهل فيلبِّي بقوله لهم:

+ «وهذا أُصلِّيه: أن تزداد محبتكم أيضاً أكثر فأكثر في المعرفة وكل فهم، حتى تميِّزوا الأمور المتخالفة، لكي تكونوا مُخلِصين وبلا عثرة إلى يوم المسيح، مملوئين من ثمر البر الذي بيسوع المسيح لمجد الله وحمده» (في 1: 9-11).

ثم يعود فيقول لهم أيضاً في نفس الرسالة:

+ «فتمِّموا فرحي حتى تفتكروا فكراً واحداً، ولكم محبة واحدة، بنفسٍ واحدة؛ مفتكرين شيئاً واحداً، لا شيئاً بتحزُّب أو بعُجب، بل بتواضع، حاسبين بعضكم البعض أفضل من أنفسهم» (في 2: 3،2).

والواقع أنه من النادر أن يوجد في هذه الأيام إنسان ناضج روحياً وله انتماء حقيقي للمسيح. وليس معنى ذلك صعوبة الوصول إلى النُّضج الروحي، بل الصعوبة هي في الاحتفاظ به والثبات عليه في كل الأحوال.

لذلك قال الرب يسوع لتلاميذه ورُسله الأطهار حينما اكتمل نُضجهم:

+ «لا أعود أسميكم عبيداً، لأن العبد لا يعلم ما يعمل سيده. لكني سمَّيتكم أحباء، لأني أعلمتكم بكل ما سمعته من أبي. ليس أنتم اخترتموني، بل أنا اخترتكم وأقمتكم، لتذهبوا وتأتوا بثمر، ويدوم ثمركم. لكي يُعطيكم الآب كل ما طلبتم باسمي» (يو 15: 16،15).

هذه هي علاقة الإنسان الناضج روحياً مع إلهه ومُخلِّصه، فهو إنسان مُثمر روحياً وفي كل الأحوال، لأنه ابن محبوب لله الآب، يعلم بكل ما سمعه من أبيه ويحفظه في قلبه، لكي لا يُخطئ إليه. ومن أجل هذا فإنَّ كل ما يطلبه من أبيه يُعطيه إيَّاه. وليس معنى ذلك أنه لا يُخطئ قط، بل إذا أخطأ يقوم ويُقدِّم التوبة اللائقة.

وهذه هي الغاية التي وضعها بولس الرسول أمام عينيه لكي يُدركها في خدمته وكرازته في كل مكان، وهي: «لكي يُحضِر كل إنسان كاملاً في المسيح يسوع» (كو 1: 28). وهو لا يعني بذلك الكمال المطلق الذي لله وحده، وإنما ما يعنيه هو النُّضج الروحي، والثبات في المسيح، والتمييز بين الأمور المتخالفة، وعدم التقلُّب مع كل ريح تعليم، والتمكُّن في المحبة لكل أحد، والنمو المستمر في المعرفة وفي كل فهم روحي في المسيح. ويتضح ذلك بالأكثر من قوله لأهل أفسس:‌‍

+ «لأجل تكميل القديسين، لعمل الخدمة، لبنيان جسد المسيح، إلى أن ننتهي جميعاً إلى وحدانية الإيمان، ومعرفة ابن الله، إلى إنسان كامل، إلى قياس قامة ملء المسيح. كي لا نكون فيما بعد أطفالاً مضطربين ومحمولين بكل ريح تعليم، بحيلة الناس بمكرٍ إلى مكيدة الضلال، بل صادقين في المحبة، ننمو في كل شيء إلى ذاك الذي هو الرأس: المسيح، الذي منه كل الجسد مُركَّباً معاً ومقترناً بمؤازرة كل مفصل حسب عملٍ على قياس كل جزء يُحصِّل نمو الجسد لبنيانه في المحبة» (أف 4: 12-16).

كما يكتب أيضاً لأهل تسالونيكي قائلاً: «طالبين ليلاً ونهاراً أوفر طلب، أن نرى وجوهكم، ونُكمِّل نقائص إيمانكم» (1تس 3: 10).

كيف ننمو روحياً

إلى قياس قامة ملء المسيح؟

لقد زوَّدنا الرب بكل شيء لخلاصنا ونموِّنا في النعمة وفي معرفة مشيئته. فلقد أعطانا روحه القدوس لكي يُعلِّمنا كل شيء ويُذكِّرنا بكل ما قاله لنا؛ وكذا كلمته المُحيية والفعَّالة والتي هي أمضى من كل سيف ذي حدَّين، والخارقة إلى مفرق النفس والروح والمفاصل والمخاخ ومُميِّزة أفكار القلب ونيَّاته. كما أعطانا أسراره المقدسة لكي نثبت فيه وهو فينا. هذا من جهة وسائط النعمة التي تعمل فينا من الداخل لأجل نمونا وثباتنا في المسيح.

وهناك في أيامنا هذه ما تُزوِّدنا به الحضارة الحديثة من الوسائل البصرية والسمعية التي أتاحت للجميع أن يُبصروا ويسمعوا كل ما يختص بكلام الله. ومع ذلك فهناك قصور ظاهر في النُّضج الروحي والنمو في النعمة وفي معرفة ربنا يسوع المسيح. فماذا يكون السبب؟ هل لأننا صرنا محترفين سماع الكلمة أو قراءتها، دون أن نكترث شيئاً في أمر تطبيقها؟ أي أننا صرنا مِمَّن ينطبق عليهم قول يعقوب الرسول: «لأنه إن كان أحدٌ سامعاً للكلمة وليس عاملاً، فذاك يُشبه رجلاً ناظراً وجه خلقته في مرآة، فإنه نظر ذاته ومضى، وللوقت نَسِيَ ما هو؟» (يع 1: 24،23)

فماذا يعوزنا، إذن، لكي نكون روحيين ونصير رجالاً أقوياء قادرين على الاغتذاء بطعام البالغين؟ يُحدِّد لنا بولس الرسول الإجابة على هذا السؤال بقوله:

+ «اسهروا، اثبتوا في الإيمان، كونوا رجالاً، تقوَّوْا، لتَصِر كل أموركم في محبة» (1كو 16: 14،13).

أما بطرس الرسول فيُوضِّح الطريق بأكثر إسهاب بقوله:

+ «وأنتم باذلون كل اجتهاد، قدِّموا في إيمانكم فضيلة، وفي الفضيلة معرفة، وفي المعرفة تعفُّفاً، وفي التعفف صبراً، وفي الصبر تقوى، وفي التقوى مودة أخوية، وفي المودة الأخوية محبة. لأن هذه إذا كانت فيكم وكثرت تُصيِّركم لا متكاسلين ولا غير مثمرين لمعرفة ربنا يسوع المسيح. لأن الذي ليس عنده هذه هو أعمى قصير البصر قد نَسِيَ تطهير خطاياه السالفة. لذلك بالأكثر اجتهدوا، أيها الإخوة، أن تجعلوا دعوتكم واختياركم ثابتَيْن، لأنكم إذا فعلتم ذلك لن تزلُّوا أبداً» (2بط 1: 5-10).

فأول الطريق هو الإيمان: فالمطلوب أولاً أن يكون لنا إيمان بالله «وبأنه موجود، وأنه يُجازي الذين يطلبونه» (عب 11: 6)، لأنه «بدون إيمان لا يمكن إرضاؤه» (عب 11: 6).

من هنا أصبح الإيمان شيئاً جوهرياً يتطلَّب إرادة الإنسان، حتى أن المسيح له المجد كان يشترط دائماً وجود الإيمان لكي يُجري المعجزة، حتى أنه «لم يصنع هناك (في الناصرة) قوات كثيرة، لعدم إيمانهم» (مت 13: 58).

من هنا أيضاً نفهم أن الإيمان موهبة لها أساسها العميق في نفس الإنسان وطبيعته، لأنه مخلوق على صورة الله، ولا تستريح نفسه وتشبع وتستقر إلاَّ في الله.

فالإيمان حاجة مُلحَّة يشعر بها الإنسان نحو الله، يحسُّها في داخله كقدرة داخلية تمتاز عن كافة القدرات الطبيعية الأخرى، وتفوق كافة أحاسيس الإنسان، بحيث إنه لو تسمَّع لها الإنسان جيداً فإنها تُنشئ فيه وجوداً أعظم من وجوده الذاتي، وتجرف أمامها كل الشهوات البشرية، وتسيطر على عقل الإنسان وتفكيره وحواسه كلها، وتجعله قادراً أن يعمل أعمالاً تفوق كل إمكانياته. لذلك قال لنا المسيح: «لو كان لكم إيمان مثل حبة خردل لكنتم تقولون لهذا الجبل انتقل من هنا إلى هناك فينتقل، ولا يكون شيء غير ممكن لديكم» (مت 17: 20)، «وكل مـا تطلبونه في الصلاة مؤمنين تنالونه» (مت 21: 22).

ورغم أن مصدر إيماننا هو الكتب المقدسة التي كُتبت لنا لكي تُعرِّفنا عن الله خالقنا ومُخلِّصنا: «وأما هذه فقد كُتبت لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح ابن الله، ولكي تكون لكم إذا آمنتم حياة باسمه» (يو 20: 31)، إلاَّ أن هناك أمثلة لأُناس لم تكن لهم معرفة بالكتب المقدسة، ومع ذلك استطاعوا أن يؤمنوا بالمسيح حينما سمعوا عنه، أفضل من الذين كانت لهم معرفة بالكتب المقدسة، مثل: قائد المئة الذي جاء إلى المسيح من أجل شفاء عبده وقال له: «يا سيد لستُ مستحقاً أن تدخل تحت سقفي، لكن قُلْ كلمة فيبرأ غلامي... فلما سمع يسوع تعجَّب وقال للذين يتبعونه: الحق أقول لكم، لم أجد ولا في إسرائيل إيماناً بمقدار هذا» (مت 8: 8-10).

وكذلك المرأة الكنعانية التي أقبلت إلى المسيح صارخة: «ارحمني، يا سيد يا ابن داود، ابنتي مجنونة جداً»، التي شهد لها المسيح قائلاً: «يا امرأة، عظيمٌ إيمانك، ليكن لكِ ما تريدين» (مت 15: 22-28).

ولكن الذين آمنوا بالكتب المقدسة، فإيمانهم يتطلَّب منهم أن يؤمنوا بمواعيد الله العظمى والثمينة «لكي يصيروا بها شركاء الطبيعة الإلهية، هاربين من الفساد الذي في العالم بالشهوة» (2بط 1: 4).

لذلك يوصينا بولس الرسول قائلاً: «فكما قبلتم المسيح يسوع الرب، اسلكوا فيه، متأصِّلين ومبنيِّين فيه، وموطَّدين في الإيمان كما عُلِّمتم، متفاضلين فيه بالشكر» (كو 2: 7،6)، «لأنه في المسيح يسوع، لا الختان ينفع شيئاً ولا الغرلة، بل الإيمان العامل بالمحبة» (غل 5: 6،5).

لأنه بسبب المحبة التي أحبنا بها الله حتى بذل ابنه الوحيد لأجلنا لكي يفدينا من خطايانا، ويُعيدنا إلى رُتبتنا الأولى التي فقدناها، ويجعلنا شركاء الطبيعة الإلهية؛ لذلك لم يَعُد الإيمان وحده كافياً، بل الإيمان العامل بالمحبة.

من أجل هذا نادى بولس الرسول أيضاً قائلاً:

+ «إن كـان لي كل الإيمان حتى أنقل الجبال، ولكن ليس لي محبة، فلستُ شيئاً» (1كو 13: 3).

وكذلك يقول بطرس الرسول:

+ «وأنتم باذلون كل اجتهاد، قدِّموا في إيمانكم فضيلة، وفي الفضيلة معرفة، وفي المعرفة تعفُّفاً، وفي التعفف صبراً، وفي الصبر تقوى، وفي التقوى مودة أخوية، وفي المودة الأخوية محبة...» (2بط 1: 5-7).

(يتبع)

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis