دراسة كتابية |
|
|
رابعاً: القديسان بولس ويعقوب، خادما الإنجيل الواحد
ثانياً: الإيمان والأعمال في رسائل القديس بولس (عدد أكتوبر 2008).
1. بين اختبار القديس بولس واختبار التلاميذ.
2. في ”بدء الخلاص“، عمل النعمة لا يتطلَّب غير الإيمان (عدد نوفمبر 2008).
3. في ”حياة الخلاص“، الإيمان يعمل (عدد ديسمبر 2008).
4. القديس بولس وأعمال الإيمان (عددا ديسمبر 2008 ويناير 2009).
ثالثاً: الإيمان والأعمال في رسالة القديس يعقوب (عدد فبراير 2009).
رابعاً: القديسان بولس ويعقوب، خادما الإنجيل الواحد.
إذ نأتي إلى ختام هذه الدراسة، نتناول معاً تعليم القديسين بولس ويعقوب عن الإيمان والأعمال (مقارنةً بتعليم الرب)، بما يكشف جوانب الاتفاق والتكامُل بينهما (وأيضاً لإيضاح ما قد يبدو للبعض تناقُضاً ظاهرياً بينهما)، وهذا ليس بغريب لأن مصدر تعليمهما هو المعلِّم الواحد والروح الواحد، كما أنهما يخدمان إنجيلاً واحداً.
1 - الإيمان والأعمال عند الرب:
عندما تكلَّم الرب عن ”الإيمان“، الذي يقود إلى الخلاص وبه نوهَب عطايا الله، تعامل معه كوحدة واحدة، جوهراً وسلوكاً: [«آمِن فقط» (مر 5: 36؛ لو 8: 5)، «إيمانك خلَّصك» (لو 7: 50)(1)، «إيمانك قد شفاك» (مت 9: 22؛ مر 5: 34؛ 10: 52؛ لو 8: 48؛ 18: 42)، «أتؤمن بابن الله» (يو 9: 35)]. ولم يَحتَجْ الرب أن يوضِّح أنه المقترن بالأعمال، لأن الإيمان الذي يدعو إليه بالطبع هو تلك القوة المُغيِّرة للحياة كلها التي تقبل المسيح مخلِّصاً وحيداً وواهباً لكل عطية صالحة، فغير ذلك ليس إيماناً. كما لم يحتجْ الرب عند ذِكْر «الأعمال الحسنة» (مت 5: 16) التي تمجِّد الله، و«الصالحات» (يو 5: 29) التي يخرج أصحابها إلى قيامة الحياة؛ أن يذكر معها الإيمان الذي يقترن بها ويُثمرها. ولكن الواضح أنه ينسبها إلى مؤمنين به يصفهم أنهم «نور العالم» الذي ينبغي أن يُضيء نورهم قدَّام الناس كما يُضيء السراج الموضوع على المنارة لكل مَن في البيت (مت 5: 14-16).
2 - الإيمان عند القديسَيْن بولس ويعقوب:
على أنه مع نشأة الكنيسة وبدء الكرازة بالإيمان الجديد لليهود والأُمم، تطلَّب الأمر عند الدعوة للخلاص أن يوضِّح الرسولان بولس ويعقوب للمؤمنين العلاقة بين الإيمان وأعمال الناموس وأعمال الإيمان، ودور النعمة ودور الإنسان.
والإيمان الذي تكلَّم عنه كل من القديسين بولس ويعقوب هو نفس الإيمان الواحد، أي الثقة الكاملة والتصديق المطلق لله وكلمته والاعتراف بالرب مخلِّصاً وحيداً.
والقديس بولس في معرض حديثه عن الخلاص، أكَّد أن مَن يأتي إلى الرب أول ما يأتي سواء من اليهود أو من الأمم، ليس عنده غير الإيمان الصادق دون أعمال الناموس أو غيرها، فلا مكان للبر قبل الإيمان بالمسيح شمس البر (مل 4: 2). ليس هناك غير اليقين والتوبة وتسليم الحياة. ثم مع الحياة الجديدة التي يُنشئها الروح القدس، بدءاً بالمعمودية، تتصاعد ثمار الإيمان وأعماله(2) التي تأتي نتاجاً طبيعياً لا افتعالاً. وهو يوصي المؤمنين التزاماً بنهج المسيح أن يُمارسوا أعمالاً حسنة لتمجيد اسمه.
والقديس يعقوب من جانبه يؤكِّد أن حياة القداسة العملية هي الدليل على صدق إيمان الذين يسيرون في طريق الخلاص، وغيابها يعني أن إيمانهم شكل بلا مضمون. فهو في الحقيقة يُعلي من قدر الإيمان بالمسيح، وأنه لا يليق أن يصبح مجرد اعتقاد عقلي بارد كإيمان الشياطين، أو تبعية صورية خالية من الالتزام القلبي بوصايا الإنجيل(3)، فينطبق عليهم القول الإلهي: «يقترب إليَّ هذا الشعب بفمه ويُكرمني بشفتيه، أما قلبه فمبتعد عني بعيداً» (إش 29: 13؛ مت 15: 8)، أو مَن «لهم صورة التقوى، ولكنهم منكرون قوَّتها» (2تي 3: 5).
والقديس بولس يستكمل الصورة ويدين المتَّكلين على أعمال برِّهم الشخصي (رو 10: 3)، فتبريرهم هو بنعمة الله (كما دان الرب سلوك الفرِّيسي المعتدّ ببرِّه، وقَبِلَ توبة العشار - لو 18: 14)، ويحثُّ مَن آمنوا على اتِّباع القداسة.
3 - الأعمال عند القديسَيْن بولس ويعقوب:
وفيما يتعلَّق بالأعمال فإنه لا يوجد تناقُض بين أن يقول القديس بولس للمعتدِّين بناموسهم وأنبيائهم: «لأنكم بالنعمة مخلَّصون بالإيمان... ليس من أعمال كي لا يفتخر أحد» (أف 2: 9،8)، أو «لأنه بأعمال الناموس لا يتبرر جسد ما» (رو 3: 20؛ غل 2: 16)، أو «الذي خلَّصنا، لا بمقتضى أعمالنا، بل بمقتضى القصد والنعمة» (2تي 1: 9)؛ وبين أن يقول القديس يعقوب للمؤمنين الشكليين المُرائين: «تَرَوْنَ إذاً أنه بالأعمال يتبرَّر الإنسان لا بالإيمان وحده» (يع 2: 14). ذلك أن ”الأعمال“ التي ينتقدها القديس بولس ويستبعدها مـن مسيرة الخلاص هي ”أعمال الناموس“ بالنسبة لليهودي(4): «الناموس ليس من الإيمان» (غل 3: 12)؛ بينما ”الأعمال“ التي يشترط القديس يعقوب توفُّرها مع الإيمان هي «أعمال الإيمان» (1تس 1: 3) (وفي هذا فالقديس بولس يتكلَّم عن ”بداية الخلاص“، بينما يتكلَّم القديس يعقوب عن ”حياة الخلاص“).
والقديس بولس يتفق بالطبع مع القديس يعقوب في حتمية وجود ”أعمال الإيمان“ في حياة مَن اختبروا الخلاص بالفعل ويُتمِّمونه: «... مخلوقين في المسيح يسوع لأعمال صالحة قد سبق الله فأعدَّها لكي نسلك فيها» (أف 2: 10)، «... لكي يهتم الذين آمنوا أن يُمارسوا أعمالاً حسنة» (تي 3: 8).
4 - الأمثلة المشتركة:
في استخدام القديسَيْن بولس ويعقوب نفس المثالَيْن في العهد القديم (وهما أبونا إبراهيم وراحاب الزانية) للتدليل على التبرير بالإيمان بغير أعمال الناموس (عند القديس بولس)، والتبرير لا بإيمانٍ اِسميٍّ بكلمات الشفاه، وإنما بالإيمان مع أعماله (عند القديس يعقوب)؛ الشهادة الساطعة أنهما يتكاملان ولا يتناقضان، إذ هما يخدمان قضية واحدة، ولا يختلفان إلاَّ في الزاوية التي ينظر كل منهما إليها.
فالقديس بولس يقول: «إنه حُسِبَ لإبراهيم الإيمان برّاً (أي نال التطويب على إيمانه)... وهو... في الغرلة (أي لم يكن قد اختتن بعد)، وأخذ علامة الختان (فيما بعد) ختماً لبر الإيمان... فإنه ليس بالناموس كان الوعد لإبراهيم أو لنسله أن يكون وارثاً للعالم، بل ببرِّ الإيمان... لهذا هو من الإيمان كي يكون على سبيل النعمة...» (رو 4: 16،13،11).
وعندما جاء ملء الزمان وأكَّد الرب وعده القديم بالنسل، تزكَّى إيمان إبراهيم من جديد، فهو رغم شيخوخته هو وسارة امرأته ومجافاة الوعد لطبيعة الأشياء، صدَّق وعد الله. وفي هذا كتب القديس بولس: «أمام الله الذي آمن به الذي يُحيي الموتى، ويدعو الأشياء غير الموجودة كأنها موجودة. فهو على خلاف الرجاء آمن على الرجاء لكي يصير أباً لأُمم كثيرة، كما قيل هكذا يكون نسلك. فإذ لم يكن ضعيفاً في الإيمان، لم يعتبر جسده وهو قد صار مُماتاً، إذ كان ابن نحو مئة سنة، ولا مماتية مستودع سارة (وقد انقطع أن يكون لسارة عادة كالنساء - تك 18: 11)، ولا بعدم إيمان ارتاب في وعد الله بل تقوَّى بالإيمان، مُعطياً مجداً لله. وتيقَّن أن ما وعد به هو قادر أن يفعله أيضاً، لذلك أيضاً حُسِبَ له برّاً» (رو 4: 17: 21).
وتأكَّدت أصالة إيمان إبراهيم وثقته في وعد الله فيما بعد عندما أطاع أمر الله وقدَّم إسحق وحيده الذي كان به الوعد بالنسل الكثير (عب 11: 18،17). وهو ظل على إيمانه بقدرة الله على تنفيذ وعده رغم الطلب الصعب بتقديم إسحق ذبيحة، وحتى إن تمَّ الذبح بالفعل: «إذ حسب أن الله قادر على الإقامة من الأموات أيضاً» (عب 11: 19).
فالقديس بولس يُقدِّم إبراهيم مثالاً لجانب الإيمان في معاملاته مع الله، بينما القديس يعقوب وهو يستخدم نفس الموقف لإبراهيم يُقدِّمه نموذجاً لجانب الأعمال وجه الإيمان الآخر، دليلاً وبرهاناً على صِدقه وأصالته قائلاً: «ألم يتبرَّر إبراهيم أبونا (لا بإيمان الكلام وإنما) بالأعمال (التي شهدت لإيمانه)، إذ قدَّم إسحق على المذبح. فترى أن الإيمان عمل مع أعماله، وبالأعمال أُكمِلَ الإيمانُ» (يع 2: 22،21).
أما عن راحاب الزانية، فإن القديس يعقوب بالمثل التفت إلى برهان إيمانها في خشوعها واتضاعها أمام الله، وقبولها وإخفائها الرسولَيْن، وكيف غامرت بإخراجهما في طريق آخر (يع 2: 25). وفي نظره أنها تبرَّرت بما عملته رغم المخاطرة، وتميَّزت به عن سائر أهلها، وأن هذا هو ما شهد لصدق إيمانها.
بينما نظر القديس بولس إلى المحرِّك والدافع لهذا التصرُّف من امرأة خاطئة لا تعرف الله، وهو إيمانها الذي يتضح من قولها للرجلين: «لأن الرب إلهكم هو الله في السماء من فوق وعلى الأرض من تحت» (يش 2: 11). فهي ألقت بنفسها تحت قدمي الله، محتمية به وراغبة في الانضمام إلى شعبه (يش 2: 25)، وربطت به مصيرها ومصير عائلتها؛ وهكذا «بالإيمان... لم تهلك مع العُصاة (الذين رفضوا الله وقاوموا شعبه)» (عب 11: 31)، وذلك على الرغم من حياتها المشينة السابقة.
5 - القديسان بولس ويعقوب
خادما الإنجيل الواحد:
نخلص إلى أن القديسَيْن بولس ويعقوب لا يمكن أن يكونا ضدَّين بأيِّ حال. فهما لم يُبشِّرا باسم نفسيهما، وإنما باسم الرب المخلِّص الوحيد، وهما خادمان لإنجيل واحد هو إنجيل يسوع المسيح (مر 1: 1)، وتعليمهما يتكامل ويكشف العلاقة الوثيقة بين الإيمان وأعماله، ويُلقي الضوء على علامات الإيمان الحي والأعمال المقبولة، وهيمنة النعمة على كل أمور الخلاص.
وقد شبَّه أحدهم موقف القديسَيْن بولس ويعقوب من قضية الإيمان والأعمال، بجنديين يقفان في الميدان معاً، ظهراً لظهر، وكلٌّ منهما يواجه من ناحيته عدوّاً يُحاربه بسيف الحق الذي يحمله: فالقديس بولس يُقاوم المخدوعين المتفاخرين ببرِّهم الذاتي وأعمال الناموس، ويراها تنتقص من غِنَى نعمة المسيح وكمال عمل الدم، وأن الأعمال الجديرة بالتقدير هي وحدها النابعة من الإيمان بالمسيح دون غيرها؛ والقديس يعقوب من ناحيته يواجه المرائين والشكليين المستهترين المنتسبين اسماً وزوراً للكنيسة، بينما هم موتى في الحقيقة، وإيمانهم الصوري لا جدوى منه، إلاَّ إذا تمَّ تفعيله بتوبة تُعيد إليه حيويته.
فكما أن الأعمال بغير الإيمان بالمسيح هي ميتة، فكذلك الإيمان بغير أعماله هو أيضاً ميت: «أنا عارف أعمالك، أن لك اسماً أنك حي، وأنت ميت» (رؤ 3: 1).
دكتور جميل نجيب سليمان
(1) وهي الكلمات التي ينشد المصلِّي سماعها من الرب، في الخدمة الثانية من صلاة نصف الليل: ”أعطني يا رب ينابيع دموع كثيرة كما أعطيت منذ القديم للمرأة الخاطئة، واجعلني مستحقاً أن أبل قدميك اللتين أعتقتاني من طريق الضلال، وأُقدِّم لك طيباً فائقاً، وأقتني لي عمراً نقياً بالتوبة، لكي أسمع أنا ذلك الصوت المملوء فرحاً أن إيمانك خلَّصك“. (2) والرب يؤكِّد على أن علاقتنا العضوية به هي مصدر الثمار والأعمال، إذ يقول: «كما أن الغصن لا يقدر أن يأتي بثمر من ذاته إن لم يثبت في الكرمة، كذلك أنتم أيضاً إن لم تثبتوا فيَّ. الذي يثبت فيَّ وأنا فيه، هذا يأتي بثمر كثير، لأنكم بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئاً» (يو 15: 5،4). (3) «من قال قد عرفته وهو لا يحفظ وصاياه، فهو كاذب وليس الحق فيه» (1يو 2: 4). (4) والأمر ينسحب بالطبع على الأُممي (وكل مَن لم يؤمن بعد)، حيث لا أعمال بر في حياته قبل أن يعرف الله: «لا بأعمال في برٍّ عملناها نحن، بل بمقتضى رحمته خلَّصنا...» (تي 3: 5)، فإذا افتقدته نعمة الله للخلاص، فهو لا يتقدَّم بغير إيمانه: «أما الذي لا يعمل (البر، لأنه لا يستطيع)، ولكن يؤمن بالذي يُبرِّر الفاجر (الخاطئ المتجاسر الذي يُجاهر بخطيته)، فإيمانه يُحسَب له برّاً» (رو 4: 5).
***
اليقظة الروحية وحياة التقوى
*****************************************************
[الآن، يا أولادي، لا تغفلوا عن أن تصرخوا النهار والليل إلى الله، لتستعطفوا صلاح الآب؛ حتى يُنعِم لكم بمعونة من السماء، ويُعلِّمكم حتى تعرفوا ما هو الصالح لكم.
بالحقيقة، يا أولادي، نحن قاطنون في موتنا، ومُقيمون في بيت اللص، ومربوطون برباطات الموت. فلا تعطوا من الآن «نوماً لعيونكم، ولا نعاساً لأجفانكم» (مز 132: 4)، حتى تُقدِّموا ذواتكم لله بكل قداسة، تلك التي لا يرثها أحدٌ بغير تقديس...
فاحترزوا، يا أولادي، لئلا تَكْمُل علينا كلمة بولس الرسول: «أننا أخذنا صورة التقوى، ولكننا أنكرنا قوتها» (2تي 3: 5). فليُمزِّق كل واحد منكم قلبه ويبكي أمامه (أي أمام الرب) ويقول: «ماذا أُكافئ الرب عن كل خيراته معي» (مز 116: 11). ثم إنني أخاف أيضاً، يا أولادي، لئلا يتم علينا القول: «أي منفعة من دمي إذا هبطتُ إلى الهلاك» (مز 30: 9).
بالحقيقة، يا أولادي، أنا أتكلَّم كما لأُناس حكماء، لكي تفهموا ما أقوله لكم. وهذا أنا أشهد به لكم: إنه إن لم يُبغض كل واحد منكم كل ما يختص بالطبيعة الأرضية، ويرفضها وكل أعمالها بكل قلبه، ويُبسط يديّ قلبه إلى السماء نحو آب الكل؛ فلن يستطيع أن يخلُص. فإذا عَمِلَ هكذا، كما قلتُ، فإن الله يتراءف عليه لأجل تعبه...].
***********************************************
(القديس أنبا أنطونيوس - مقتطفات من الرسالة الخامسة)