بحث كتابي


الكنيسة على الأرض
تشهد لملكوت الله

- 1 -
ملكوت الله في الكتاب المقدس والتقليد

+ «قد كمل الزمان واقترب ملكوت الله، فتوبوا وآمنوا بالإنجيل» (مر 1: 15).

هكذا افتتح الرب يسوع خدمته العلنية وأعدَّ نقطة الانطلاق لكل فكر وتصرُّف مسيحي لأجل ملكوت الله. وينقسم موضوعنا هذا إلى قسمين رئيسيَّين:

الأول: التعليم كما ورد في الكتاب المقدس؛

والثاني: التعليم كما ورد في التاريخ والتقليد.

أولاً: التعليم كما ورد في الكتاب المقدس

بحسب الكتاب المقدس، يمثِّل ملكوت الله البرَّ والسلام والشركة (كينونيا) التي تدعو الجميع أن يستغرقوا ويُشاركوا بالكليَّة ويُمجِّدوا وحدانية الله بأشكالها المتنوعة. ويوحي اصطلاح ”ملكوت الله“ بمعاني كثيرة مثل: ”مُلْك الله“، و”الشركة“، و”أهل بيت الله“، و”الشركة في النِّعَم الإلهية“. كما أن هذا الاصطلاح يهدف إلى شيء محدَّد بخصوص علاقة الله بهذا العالم وخطته لأجله. وهو يكشف عن ميثاق الله الصادق للخليقة بما في ذلك الحياة اليومية للبشر. وتحقيق الملكوت إنما هو نعمة الله العظيمة النهائية لهذا العالم.

إله الملكوت: موضوع الملكوت وَرَدَ في مواضع متعددة من العهد القديم كانت كمقدِّمة لاستعلان الملكوت في الإنجيل. إلاَّ أن بعض هذه المواقف التي أظهرت معنى الملكوت في العهد القديم تتضمن:

أ - الله كملك على الخليقة كلها: «الله ملكي منذ القِدَم» (مز 74: 12)، «الرب إلهٌ عظيمٌ، ملكٌ كبيرٌ على كل الآلهة» (مز 95: 3).

ب - الله كملك على شعب إسرائيل: «اسمع لصوت الشعب... لأنهم لم يــرفضوك أنت بـل إياي رفضوا حتى لا أملك عليهم» (1صم 8: 7).

ج - رجاءٌ أُخروي لحُكْم الله: «ها أيامٌ تأتي يقول الرب وأُقيم لداود غُصن برٍّ، فيملك ملكٌ وينجح ويُجري حقاً وعدلاً في الأرض» (إر 23: 5)، «ويخرج قضيب من جذع يسَّى، وينبت غُصنٌ من أُصوله، ويحل عليه روح الرب... فلا يقضي بحسب نظر عينيه, ولا يحكم بحسب سمع أُذنيه، بل يقضي بالعدل للمساكين، ويحكم بالإنصاف لبائسي الأرض، ويضرب الأرض بقضيب فمه ويُميت المنافق بنفخة شفتيه، ويكون البرُّ منطقة متنيه، والأمانة منطقة حقويه... ويكون في ذلك اليوم أن أصل يسَّى القائم رايةً (أو ليحكم) للشعوب، إياه تطلب الأمم (”عليه يكون رجاء الأُمم“ - حسب السبعينية)، ويكون محلُّه مجداً» (إش 11: 1-10)، «وينزع السيِّد الرب عار شعبه عن كل الأرض» (إش 25: 8)، «ما أجمل على الجبال قدمي المُبشِّر... القائل لصهيون قد مَلَكَ إلهك... لأن الرب قد عزَّى شعبه» (إش 52: 7-9)، «ويدعونك مدينة الرب صهيون قدوس إسرائيل... لا تكون لك بعد الشمس نوراً في النهار ولا القمر يُنير لك مضيئاً، بل الرب يكون لك نوراً أبدياً وإلهك زينتك... وشعبك كلهم أبرارٌ، إلى الأبد يرثون الأرض، غصن غرسي عمل يديَّ لأتمجَّد» (إش 60: 14-21)، «روح السيد الرب عليَّ لأن الرب مسحني» (إش 61: 1).

د - تصوُّرات ومدركات شعب الله في العهد القديم كشعبٍ مختار.

هـ - تقليد العبادة في إسرائيل الذي يشهد لاختبار الله كسيِّد مهيمن في عبادة الهيكل: «الرب يملك إلى الدهر والأبد» (خر 15: 18)، «رأيتُ السيِّد جالساً على كرسيٍّ (عرش) عالٍ ومرتفع... والسرافيم واقفون حوله... مجده ملء كل الأرض... لأن عينيَّ قد رأتا الملك رب الجنود» (إش 6: 1-5)، «الملك ببهائه تنظر عيناك... فإن الرب قاضينا، الرب شارعنا (أي الذي يضع الشريعة)، الرب ملكنا هو يُخلِّصنا» (إش 33: 22،17)، «ويكون الرب ملكاً على كل الأرض. في ذلك اليوم يكون الرب وحده واسمه وحده» (زك 14: 9)، «ارفعن أيتها الأرتاج رؤوسكن، وارتفعن أيتها الأبواب الدهرية، فيدخل ملك المجد. مَن هو ملك المجد هذا؟ الرب القدير... رب الجنود هو ملك المجد» (مز 24: 7-10)، «ويجلس الرب ملكاً إلى الأبد. الرب يُعطي عزّاً لشعبه. الرب يبارك شعبه بالسلام» (مز 29: 11،10)، «لأن الرب عَلِيٌّ، مخوفٌ ملكٌ كبيرٌ على كل الأرض. يُخضِع الشعوب تحتنا، والأمم تحت أقدامنا... رنِّموا لملكنا رنِّموا... مَلَكَ الله على الأمم. الله جلس على كرسي قدسه» (مز 47: 2-8)، «مدينة إلهنا... مدينة الملك العظيم. الله في قصورها يُعرَف ملجأ» (مز 48: 1-3)، «الله ملكي منذ القِدَم فاعل الخلاص في وسط الأرض» (مز 74: 12)، «الرب قد مَلَك، لبس الجلال... كرسيك مثبتة منذ القِدَم» (مز 93: 3)، «قولوا بين الأمم: الرب قد مَلَكَ (على خشبة)» (مز 96: 10)، «الرب قد مَلَكَ، فلتبتهج الأرض... العدل والحق قاعدة كرسيه... ذابت الجبال... قدَّام سيِّد الأرض كلها» (مز 97: 1-5)، «اهتفوا قدَّام الملك الرب» (مز 98: 6)، «الرب قد مَلَكَ، ترتعد الشعوب، هو جالسٌ على الكروبيم، تتزلزل الأرض» (مز 99: 1)، «أرفعك يا إلهي الملك... بمجد مُلكك ينطقون، وبجبروتك يتكلَّمون. ليُعرِّفوا بني آدم قدرتك ومجد جلال مُلكك. مُلكك مُلك كل الدهور وسلطانك في كل دور فدور» (مز 145: 1، 11-13)، «يملك الرب إلى الأبد، إلهك يا صهيون إلى دور فدور» (مز 146: 10)، «ليبتهج بنو صهيون بملكهم» (مز 149: 2).

وقد أكمل العهد الجديد فكر العهد القديم وأزاده وضوحاً. فإن الله الذي استُعلن لبولس الرسول في المسيح، ليس سوى الإله الواحد كما في استعلان العهد القديم؛ ولكن أَزاد عليه استعلان أُبوَّة الله لكل البشر، وبنوَّة الابن التي تحتوي البشرية، وتقديس الروح القدس الذي يسكن في قلوب المؤمنين. والشيطان والقُوى الأخرى إنما هي مجرَّدة من القوة أمام الله. ويدبِّر الله كل الأمور بعنايته الإلهية: «ليس سلطانٌ إلاَّ من الله، والسلاطين الكائنة هي مُرتَّبة من الله» (رو 13: 1). والله هو القاضي العادل: «لابد أننا جميعاً نُظهَر أمام كرسي المسيح لينال كل واحد ما كان بالجسد بحسب ما صنع، خيراً كان أم شرّاً» (2كو 5: 10). وكما أنه هو إله الرحمة والتحنُّن والعدل، هكذا وضع في كنيسته نفس تلك الصفات، لأن أبناءها هم أبناؤه.

والدعوة إلى التوبة في كرازة المسيح إنما هي مطلبٌ مُلحٌّ وعاجلٌ، حيث إن حضرة الله المباشرة والمُهيمنة قائمة الآن. إنَّ وقت مسايرة الظروف قد مضى، وتأسيس علاقات صحيحة إنما هو وشيكٌ. وحينئذ لن يكون الكلام وحده كافياً: «ليس كل مَن يقول لي يا رب يا رب يدخل ملكوت السموات، بل الذي يفعل إرادة أبي الذي في السموات» (مت 7: 21). كما أن الله يجمع جماعة المؤمنين ويُعلِّمهم ويُنيرهم بواسطة الروح القدس، مُقدِّساً ومُهيِّئاً ومُرسِلاً إياهم: «كما أرسلني الآب أُرسلكم أنا. ولما قال هذا نفخ وقال لهم: اقبلوا الروح القدس، مَن غفرتم خطاياه تُغفَر له، ومَن أمسكتم خطاياه أُمسِكَت» (يو 20: 22،21).

وفي حديث المسيح مع نيقوديموس، جعل رؤية الملكوت ودخوله قاصرَيْن على ولادة المرء من فوق: «إن كان أحدٌ لا يولد من فوق، لا يقدر أن يرى ملكوت الله... إن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله» (يو 3: 3-5). وتعبير ”من فوق“ يوضِّح أن الملكوت ليس في متناول الإمكانيات البشرية، فإن الله وحده هو الذي يمنح الإنسان رؤية الملكوت والدخول إليه. والملكوت - أي مُلك الله - إنما هو استعلان الله لذاته في قلب المؤمن: «لا يأتي ملكوت الله بمراقبة، ولا يقولون هوذا ههنا أو هوذا هناك، لأن ها ملكوت الله داخلكم» (لو 17: 21،20). وقد أصبح ذلك ممكناً بأن «الكلمة صار جسداً» (يو 1: 14)، وبسُكنى الروح القدس في قلب الإنسان.

ويُفهَم ملكوت الله بمقارنته بالممالك الأرضية الأربعة، وهي: بابل، ومادي، وفارس، واليونان، التي بادت وانتهت؛ بينما مُلك الله هو ملكوت على القلوب لن ينقرض أبداً، وهو الذي سيمدُّ سيادته التي كانت على إسرائيل لتكون سيادة على العالم كله. وهذا المعنى نجده في رؤى دانيال النبي: «يُقيم إله السموات مملكةً لن تنقرض أبداً، ومَلِكُها لا يُترَك لشعبٍ آخر، وتسحق وتُفني كل هذه الممالك، وهي تثبت إلى الأبد» (دا 2: 44)، «كنتُ أرى أنه وُضعت عروش، وجلس القديم الأيام. لباسه أبيض كالثلج، وشعر رأسه كالصوف النقي، وعرشه لهيب نار، وبكراته نار متقدة... ألوف ألوف تخدمه وربوات ربوات وقوفٌ قدَّامه... كنتُ أرى في رؤى الليل وإذا مع سحاب السماء مثل ابن إنسان، أتى وجاء إلى القديم الأيام، فقرَّبوه قدَّامه. فأُعطِيَ سلطاناً ومجداً وملكوتاً، لتتعبَّد له كل الشعوب والأُمم والألسنة. سلطانه سلطانٌ أبدي ما لن يزول، وملكوته ما لا ينقرض» (دا 7: 14،13،10،9). ولذلك يقول الرب يسوع: «إنَّ مـن القيام ههنا قوماً لا يذوقون الموت حتى يروا ملكوت الله قد أتى بقوة» (مر 9: 1)!

ومجيء الملكوت الذي أعلنه الرب في بداية خدمته العلنية: «ابتدأ يسوع يكرز ويقول: توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السموات» (مت 4: 17)، هذا المجيء له علاقة بما أوصانا المسيح أن نقوله في الصلاة: «ليأتِ ملكوتك». كما أنه يضع أمامنا الرجاء فيه، إذ قال: «إني لا أشرب من نتاج الكرمة إلى ذلك اليوم حتى أشربه جديداً في ملكوت الله» (مر 14: 25).

إن رجاء ملكوت الله الآتي إلى الأرض يظهر كجزء من خطة أجيال تاريخ الخلاص المتتابعة، وهي التي ذَكَرَت ”رسالة برنابا“ (من كتابات الآباء الرسوليين في القرن الثاني الميلادي) أنها سبعة أجيال: من آدم إلى نوح، ومن نوح إلى إبراهيم، ومن إبراهيم إلى داود، ومن داود إلى السبي، ومن السبي إلى مجيء الرب يسوع (تجسُّده) وزمن الكنيسة، ومن ذلك الوقت حتى المجيء الثاني للرب في مجده، وهذا يتبعه الملكوت بكل ملئه. ويتصف ملكوت الله بأنه ملكوت البر والسلام والفرح في الروح القدس.

ويذكر المسيح الملكوت، ليس باعتباره آتياً في المستقبل، بل باعتباره أيضاً حاضرٌ بالفعل كسَبق تذوُّق للملكوت الأبدي: «إن كنتُ أنا بروح الله أُخرج الشياطين، فقد أقبل عليكم ملكوت الله» (مت 12: 28؛ لو 11: 20). إنه حاضرٌ في عالمنا هذا بل في داخلنا: «ها ملكوت الله داخلكم» (لو 17: 21). والله إذ يجعل البذور تنمو بقوته ونعمته، فقد شبَّه ملكوته بإنسان يُلقي على الأرض البذار التي تنمو يوماً فيوماً حتى تُعطي الثمر. كما شبَّهه بحبة خردل أصغر جميع البذور، و«متى زُرِعَت، تطلع وتصير أكبر جميع البقول، وتصنع أغصاناً كبيرة حتى تستطيع طيور السماء أن تتآوى تحت ظلها» (مر 4: 26-32).

كما شبَّه الرب ملكوته بملك صنع عُرساً لابنه، ودعا الجميع إلى عشاء العُرس، ولكنه لم يقبل أن يكون أحد المتكئين بدون لباس العُرس الذي هو التوبة والمعمودية. فعلينا أن نُعدَّ أنفسنا للملكوت مثل العذارى الحكيمات (مت 25: 1-13). كما علينا أن نطلبه فوق كل شيء (مت 6: 33)، فقد سُرَّ أبونا السماوي أن يُعطينا إياه (لو 12: 32). وقد وعد به المساكين بالروح والمضطهَدين من أجل البرِّ (مت 5: 3-10).

وعندما يأتي ابن الإنسان في مجده ويُميِّز الخراف من الجداء، «يقول الملك للذين عن يمينه: تعالوا يا مباركي أبي، رِثوا الملكوت المعدَّ لكم منذ تأسيس العالم» (مت 25: 34)، «حينئذ يُضيء الأبرار كالشمس في ملكوت أبيهم» (مت 13: 14). والذي يثبت مع الرب في تجاربه، يجعل له ملكوتاً: «أنتم الذين ثبتوا معي في تجاربي، وأنا أجعل لكم كما جعل لي أبي ملكوتاً، لتأكلوا وتشربوا على مائدتي في ملكوتي» (لو 22: 28-30).

البُعد الكوني والأُخروي للملكوت:

مجال دعوة الله للملكوت إنما هو للخليقة كلها: «أقول لكم: إن كثيرين سيأتون من المشارق والمغارب، ويتَّكئون مع إبراهيم وإسحق ويعقوب في ملكوت السموات» (مت 8: 11)، وقال الرب إن الملكوت يُنزَع من العصاة ويُعطَى للذين يعملون ثماره: «ملكوت الله يُنزَع منكم (رؤساء الكهنة والفرِّيسيين)، ويُعطَى لأُمة تعمل أثماره» (مت 21: 43). والملكوت يتحقَّق بالكامل عندما يخضع كل شيء لله، وحينئذ يكون الله هو الكل في الكل (1كو 15: 24-28).

والكنيسة، أي شعب الله الجديد، ينبغي أن تُظهِر خطة الله الذي يقود الكون كله إلى هدفه النهائي، حتى تُشارِك الخليقة كلها في غِنَى المسيح الذي لا يُستقصَى (أف 3: 8)!

والمنظر النبوي الذي رآه إشعياء النبي في قول الله: «لأني هأنذا خالقٌ سموات جديدة وأرضاً جديدة، فلا تُذكر الأولى، ولا تخطر على بال» (إش 65: 17)، نجده واضحاً في رؤيا القديس يوحنا هكذا: «رأيتُ سماءً جديدة وأرضاً جديدة... المدينة المقدسة أورشليم الجديدة... وسمعتُ صوتاً عظيماً من السماء قائلاً: هوذا مسكن الله مع الناس، وهو سيسكن معهم، وهم يكونون له شعباً، والله نفسه يكون معهم إلهاً لهم» (رؤ 21: 1-3).

(يتبع)


دير القديس أنبا مقار

بتصريح سابق من الأب متى المسكين بالإعلان عن مشروع معونة الأيتام والفقراء (مشروع الملاك ميخائيل)، حيث يعول دير القديس أنبا مقار منذ عام 2000 مئات العائلات المُعدمة، ويمكن تقديم التقدمات في رقم الحساب الآتي:

21.130.153

دير القديس أنبا مقار

بنك كريدي أجريكول مصر ــ فرع النيل هيلتون

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis