صوم جماعي وتوبة جماعية

للأب متى المسكين

”احنوا رؤوسكم للرب“:
تاس كيفلاس إيمون تو كريو إكليناتيه...(1)

بهذه الجملة المهيبة يهتف الشماس وهو واقف بجوار المذبح يدعو الشعب وكل الإكليروس أن يُحنوا رؤوسهم لله قبل التقدُّم للتناول، وقبل أن يصرخ الكاهن قائلاً: ”القُدْسات للقديسين“.

ولكن لشدة الأسف لا يستجيب الشعب أو الإكليروس لهذا النداء كما ينبغي، فبعضهم يسمع النداء ولا ينحني، وبعضهم يسمعه فيسجد، وكلاهما يُخطئ السمع والفهم والاستجابة.

إن الدعوة هنا إلى إحناء الرأس للرب، لأنها لحظة توبة واعتراف بالخطايا، حتى يؤهَّل الشعب لقبول صلاة الحلِّ من فم الكاهن.

فـالكاهن في هـذه اللحظات، وبينما الشعب كله مُنحنٍ، يعترف عن الشعب ومع الشعب لدى الله:

[اللهم يا حامل خطية العالم ابدأ بقبول توبة عبيدك من أيديهم نوراً للمعرفة وغفراناً للخطايا... اللهم حاللنا، وحالل كل شعبك، من كل خطية ومن كل لعنة ومن كل جحود ومن كل يمين كاذب...].

أما لماذا يكون هنا إحناء رأس وليس سجوداً، فلأن الدعوة هنا ليست للعبادة وتكريم الله، بل الدعوة إلى الاعتراف بالخطايا في انسحاق وخوف وتذلُّل. فالشماس بهذا النداء المحدَّد لإحناء الرأس إنما يقصد أن يُذكِّرنا بموقف معين هو موقف العشَّار الذي ذكره المسيح: «أما العشار فوقف من بعيد لا يشاء أن يرفع عينيه نحو السماء، بل قرع صدره قائلاً: اللهم ارحمني أنا الخاطئ» (لو 18: 13).

إذن، فالذي يُحني رأسنا في هذه اللحظات الرهيبة - قبل التناول - هي الخطية. المسألة ليست طقساً وحسب، بل حزن وتوجُّع وخجل مع الإحساس بالهم الثقيل من جراء تذكُّرنا لخطايانا، هذا هو الذي يجعل رأسنا تسقط على صدرنا من تلقاء نفسها، هذا الندم مع الحزن الشديد الذي يجعل الإنسان غير قادر بالمرة أن يرفع رأسه نحو السماء، هو موقف يتناسب مع الحضرة الإلهية وأمام الجسد والدم، إنه موقف مطلوب في هذه اللحظات الحرجة.

الفرِّيسي في مَثَل المسيح رفع رأسه نحو السماء، معتمداً على صومه وصَدَقته وطهارته وبرِّه: «اللهم أنا أشكرك أني لست مثل باقي الناس الخاطفين الظالمين الزناة، ولا مثل هذا العشَّار. أصوم مرتين في الأسبوع، وأُعشِّر كل ما أقتنيه» (لو 18: 12،11).

ولكن للأسف بالرغم من كل هذا، فإن الله لم يرفع وجه الفرِّيسي، فالمسيح يقول إن العشار نزل إلى بيته مبرَّراً دون الفريسي.

وبمعنى أوضح، فإن الصلاة والصوم والصدقة وطهارة الجسد مع العدل والتعفُّف؛ كل هذه لا تستطيع وحدها بدون توبة أن ترفع وجه الإنسان أمام الله، لأنه بعد كل هذه الفضائل وأكثر منها يظل الإنسان بلا قدرة ولا استطاعة ولا حق أن يرفع رأسه أمام الله. الخطية تمنع الإنسان أن يرفع رأسه بتاتاً. الذي برَّر العشار هو أنه أحنى رأسه إحساساً منه بأنه غير مستحق أن يرفع عينيه نحو السماء، وعلى الوجه الأصح فإنه لم يستطع قط أن يرفع رأسه لأن خطيته كانت ماثلة أمامه في ذلك الحين.

إن توبة العشار واعترافه بالخطية مع انسحاق نفسه وانكسار قلبه الذي ظهر في إحناء رأسه وقَرْع صدره أمام الله، جعلت صلواته وصدقاته مقبولة لدى الله، الذي برَّر العشار لمَّا دان العشار نفسه.

حينما ينادي الشماس بإحناء الرأس، فإنه يدعو إلى دينونة النفس حتى تؤهَّل لتبرير الله بواسطة الجسد والدم.

الكنيسة في هذه اللحظات تقف كلها تائبة منحنية الرأس تطلب الغفران، الشعب كله يكون مدعوّاً بهذا النداء أن يسترجع في حياته العشار، لذلك يُقال إن الكنيسة جماعة تائبين.

الصوم والتوبة:

الكاهن يهتم أن يسأل المتناولين في أيام الصوم عن صومهم، ولكن لا يهتم أن يسألهم عن توبتهم. الأمر هنا يحتاج إلى مراجعة، فالله لم يهتم إطلاقاً بصوم الفريسي مع كل صدقاته وتطهيراته، لأنه كان خالياً من الانسحاق والتوبة والاعتراف بالخطية، في حين أن التوبة برَّرت العشار في نظر الله وأهَّلته أن يكون صاحب صوم مقبول وصلاة مسموعة!

فالتوبة وحدها هي التي تجعل الصوم صوماً، وبدونها لا يُحسَب الصوم شيئاً. إذن، فالصوم بدون توبة لا يُبرِّر ولا يؤهِّل للتناول.

طقس التوبة والتناول من الجسد والدم:

الكنيسة جعلت من إحناء الرأس طقساً للتوبة، إنها مهارة من الكنيسة وحَذَق من الروح القدس أن يُشكِّل من الطقس دعوة لتوبة جماعية يُنادَى بها في كل صلاة كشرط أساسي للتناول من الجسد والدم الإلهيَّيْن. التوبة الجماعية هي أقدر الوسائط جميعاً في توحيد الجماعة، لأن الكل من جهة الخطية واحدٌ ومتساوون: «أغلق على الجميع معاً في العصيان، لكي يرحم الجميع» (رو 11: 32).

إن نداء الشماس للشعب وكل الإكليروس بإحناء الرأس والوقوف موقف العشار قبل التناول مباشرة، هو في الحقيقة دعوة للوحدة من تحت تأثير واحد بالشعور بالخطية. الجماعة المتحدة هنا، بشعور الندم والتوبة، تُؤهَّل لكي تشترك في الجسد الواحد والدم الواحد للتبرير، وهنا الجماعة كلها تنزل إلى بيوتها مبرَّرة.

الكنيسة هنا تبنَّت موقف العشار بفضل الطقس الذي جمع القلوب معاً ونبَّهها لتوبة واحدة في وقت واحد، والروح القدس في هذه اللحظات يجعل من جماعة الخطاة التائبين جماعة قديسين ومن القرابين قُدْساتٍ للقديسين.

ما أعجب الطقس! وما أعجب الروح القدس في الكنيسة! إنه يُتعجَّب منه حقاً، ولكن هل من مزيد من المعرفة؟ وهل من مزيد من توجيه للشعب حتى يعرف كيف يشرب الروح القدس؟ وكيف يرتوي من نعمة الله؟ وكيف يتوب ويتوحَّد معاً تحت شعور واحد بالندم؟؟

أعَلِمتُم، يا أحبَّة، كيف ومتى يصرخ الكاهن: ”القُدْسات للقديسين“؟ أو كيف يصير الشعب بالجملة جماعة خطاة منسحقين منحنين من جراء انكسار القلب تحت وطأة الشعور بالخطية؟ ثم كيف يرفع الروح القدس وجه الكنيسة مرة واحدة عندما يقبل الشعب جميعاً التبرير من الله كاستجابة لانسحاقهم وانحناء رؤوسهم وقرع صدورهم حسب قول وصدق الكتاب: «إلى هذا أنظر: إلى المسكين والمنسحق الروح والمرتعد من كلامي» (إش 66: 2)؟ فحينما يقول الكاهن: ”القُدْسات للقديسين“، يعني أن الله قَبـِلَ توبتهم ورفع وجههم وأكمل تبريرهم بسبب اعترافهم، وصاروا قديسين بفعل الغفران ومستحقين للجسد بفعل التبرير.

مردُّ الشماس يشهد لتوبة الكاهن:

ولكن قبل أن يصرخ الكاهن بأنَّ القُدْسات (الجسد والدم) للقديسين، أي للشعب التائب، وبعد أن يكون قد اعترف لتوِّه بخطاياه أمام الله بانسحاق كثير وحزن مع تذلُّل عندما يقول:

[اذكر يا رب ضعفي أنا أيضاً واغفر لي خطاياي الكثيرة. وحيث كثر الإثم فلتكثر هناك نعمتك، ومن أجل خطاياي خاصة ونجاسات قلبي لا تمنع شعبك نعمة روحك القدوس]؛

حينئذ يردُّ عليه الشماس في الحال: ”خَلَصتَ حقاً“!!

عجيبٌ هو طقس الكنيسة القبطية، فإنه حينما يضع الشعب تحت دعوة الانحناء وقرع الصدر ونداء التوبة، لا يستثني الكاهن. فالكاهن في القداس القبطي كما أنه خاطئ وتائب عن نفسه، ومعترف عن خطايا الشعب وممثل لتوبتهم؛ كذلك في حصول التبرير، لا ينسى الطقس أيضاً نصيب الكاهن، إذ قد صار بالانسحاق والتوبة قديساً ونائباً عن قديسين. وهكذا من روائع القداس القبطي أن يُخاطب الشماسُ الكاهنَ مُعلناً له الخلاص!! وبالنهاية نجد أن القداس يُلهمنا روح التوبة الجماعية كشرط مُسْبَق للخلاص والتبرير بجسد ودم المسيح.

القداس وروح التوبة الجماعية:

واضح، إذن، أن القداس يُعطينا إلهاماً واضحاً عن قيمة التوبة الجماعية، والاعتراف مع الانسحاق أمام الله، كشرط مُسْبَق لحلول الروح القدس على القرابين وعلى الشعب والكاهن معاً: [ليحل روحك القدوس علينا وعلى هذه القرابين الموضوعة...]، حتى تصير القُدْسات للقديسين.

القداس أبقى لنا الصورة الكاملة عن كيفية التوبة الجماعية وضرورتها، كما يطلبها الروح القدس من الكنيسة بكل دقائقها وترتيبها وشكلها ونتائجها الحتمية. أما المضمون والممارسة العملية والتطبيق والحصول على النتائج الفعلية، فقد ظلَّت كلها متعطِّلة تماماً على مستوى الجماعة، لا ينتبه لها إلاَّ الأفراد، وأفراد قليلون، الهيكل يشهد بذلك. فالمتناولون دائماً لا يزيدون عن واحد في المائة أو ربما أقل، مع أن الروح يدعو الجميع بلا استثناء للأكل من الجسد والشرب من الكأس لأنها دعوة حياة، فالله لا يدعو للحياة بشحٍّ أو باستثناء أحد، بل الكل مدعوُّون للخلاص: ”خذوا كُلوا منه كلكم... خذوا اشربوا منها كلكم“ (القداس الإلهي)!!

والمدعوُّون للخلاص مدعوُّون مُسْبقاً للتوبة. ثلاث مرات يُنادي الشماس في القداس، حسب الأصول الكنسية المضبوطة، داعياً الشعب والإكليروس للاعتراف بالخطية وإحناء الرأس لأخذ الحِلِّ والبركة والتطهير: الأولى: بعد رفع البخور في باكر وعشية؛ والثانية: في بداية قداس الموعوظين؛ والثالثة قبل التناول مباشرة.

الأُولى: لأخذ الحِلِّ، إما للاستحقاق لبدء أعمال اليوم بطهارة وبر في رفع بخور باكر، وإما للاستحقاق للنوم بطهارة وبر في رفع بخور عشية.

والثانية: في بداية قداس الموعوظين لأخذ الحل، لاستحقاق سماع الإنجيل المقدَّس بطهارة وبر حتى تسكن كلمة الحياة فينا.

والثالثة: قبل التناول، وذلك للاستحقاق في الاشتراك في جسد المسيح ودمه بطهارة وبر مع جميع المتناولين كجسد واحد.

التوبة في القداس توبة جماعية، توبة شعب، توبة كنيسة بأكملها بإكليروسها ذي الطغمات السبع، لأن الكل مدعوٌّ للاشتراك في جسد واحد ودم واحد. الكل مدعوٌّ أن يصير جسداً واحداً وروحاً واحداً، لذلك تحتَّم أن تكون التوبة مشتركة: الكبير والصغير معاً، الطفل والشيخ، الكاهن والقَيِّم، الأسقف كنموذج يُحتذى. المسيح في غَسْله أرجل تلاميذه أشار إلى التوبة إشارة سرِّية، فالغسل عموماً هو غسل خطايا: «اِغْسِلني فأبيضَّ أكثر من الثلج» (مز 50: 7). الغسل في أصوله الأُولى معمودية، المعمودية تطهير كامل من الخطايا، بل هي بمثابة خلع جسم الخطية نفسه ولِبْسُ إنسان البر، إنسان الروح.

ولكن لأن المعمودية لا تُعاد، إذ هي ولادة سماوية والولادة لا تتكرر، لذلك اكتفى المسيح بغسل أرجل تلاميذه قبل التناول من جسده المقدس ودمه الطاهر.

هنا غسل الأرجل بمثابة إعادة تطهير الأعضاء التي اتَّسخت، كناية عن رَفْع أثر الخطايا التي استُحدِثت بعد المعمودية فقط. والكلام عن ذلك واضح من موقف بطرس الرسول، إذ لما امتنع بطرس عن غسل رجليه قائلاً: «لن تغسل رجليَّ أبداً»، أنذره المسيح أنه إنْ لم يغسل رجليه فلن يكون له نصيب معه، أي سيُمنع من الاشتراك في سرِّ الاتحاد بجسده ودمه، إذ تكون خطيته ما زالت عليه: «إن كنت لا أغسلك فليس لك معي نصيب» (يو 13: 8). الغسل هنا بلا شك عمل جوهري إلى أقصى حد، إذ يختص باستحقاق شركة الحياة مع المسيح، وهو بلا شك عمل سرِّي خالص. فغَسْل الرجلين في حد ذاته لا يمكن ولا يُعقَل أنه يؤهِّل صاحبه لنوال نصيب مع المسيح، إذن هو عمل سرِّي، إجراء يتم في الظاهر على صورة مُبسَّطة للغاية، غسل رجلين، وفي حقيقته يُكمِّل استحقاق حياة أبدية، شركة في جسد ودم المسيح للاتحاد به ونوال نصيب دائم معه. الغسل هنا ينصبُّ بلا شك على الخطية ورفع آثارها المستجدَّة بعد المعمودية، لأن بطرس لما تمادى بعد ذلك في طلب غسل يديه ورأسه أيضاً وليس رجليه فقط بعد أن أزعجه إنذار المسيح، أجابه المسيح: «الذي اغتسل ليس له حاجة إلا إلى غسل رجليه، بل هو طاهر كله، وأنتم طاهرون، ولكن ليس كلكم» (يو 13: 10). هنا كلمة المسيح: «الذي اغتسل ليس له حاجة إلا إلى غسل رجليه»، تُشير إلى غسل المعمودية، أي أن الذي اعتمد ليس له حاجة - عند التناول - إلا إلى غسل رجليه. وغسل الرجلين هنا هو سر إضافة تطهير لاحق على تطهير المعمودية السابق، أي غسل الخطايا المستجدَّة غسلاً سريّاً بيدي الرب.

الكنيسة تُذكِّرنا بغسل الأرجل حينما تأمر المتناولين بخلع أحذيتهم قبل الدخول إلى الهيكل. المسيح يباشر تطهيرنا في هذه اللحظات بغسلنا خفياً وسرّاً من خطايانا التي نعترف بها ونندم ونتوب عنها. وكان من ضمن الطقوس الأساسية في الكنيسة القبطية غسل الكاهن لرجليه قبل دخوله الهيكل بواسطة مرحضة نحاس كانت توضع على عتبة باب الهيكل الجانبي، ولكن هذا الطقس سقط من ترتيب الكنيسة بسبب الإهمال. أما غسل الكاهن لرجليه قبل بدء القداس فهو واضح جداً أنه جزء مُكمِّل لسرِّ الإفخارستيا بحسب الترتيب الذي باشره الرب بنفسه. وغسل الكاهن لرجليه يتضمن سر تطهير داخلي بعمل تواضع المسيح الخفي يؤهِّل للاشتراك في تقديم الذبيحة. وبهذا نجد أن الكاهن كان يباشر فعل توبة واغتسال وتطهير علني أمام الشعب!

وهكذا نجد أن روح القداس يقوم على توبة جماعية وانسحاق وتذلُّل واعتراف بالخطية، يكون فيها الكاهن كمتقدِّم ونموذج صادق لكل الشعب، وإلاَّ لا يتم الحصول على شركة ونصيب مع المسيح.

روح القداس وروح العصر:

لعل تغلُّب روح العصر على روح القداس، وروح العصر فردية استقلالية غير نادمة على الخطية وغير منسحقة على وجه العموم، جعل الإنسان الآن لا يشعر بأي التزام جماعي في أي شيء، لا في توبة ولا في شركة جسد الرب ودمه. الإنسان الحار بالروح يخشى في الكنيسة أن يقرع صدره أو يظهر بروح انكسار وتوبة وندم، لأن ذلك يصبح شيئاً غريباً ومستغرباً. المتقدِّم للتناول يتقدم إلى الجسد والدم بصفة شخصية مفردة حرة من الجماعة، وكأن الأكل من الجسد والدم موضوع شخصي يأخذه الإنسان لخلاصه الخاص دون أي ارتباط بأي إنسان آخر. لقد فَقَدَت الكنيسة أعز وأثمن صفاتها الروحية، وهي كونها جماعة متحدة وجسماً واحداً؛ وفَقَدَ القداس أعز وأثمن مفاعيله. والقدَّاس هو سر توبة جماعية، وسر اغتسال جماعي، وسر شركة جماعية في جسد واحد ودم واحد؛ حيث إن عمل الجسد والدم الأقدسين الأساسي هو توحيد الجماعة لتصير جسداً واحداً. الكنيسة صارت مجرَّد موضع راحة نفسية لبعض الأفراد، والقداس انحصر في دائرة الخلاص الفردي.

إن فقدان هذا العنصر الجماعي من الكنيسة أو من القداس، وهو فقدان لمضمون الشركة في جسد المسيح؛ قد ضيَّع علينا كل الصفات والمميزات الروحية التي تُلازم الجماعة كالنمو الجماعي والحب الجماعي والحرارة الجماعية والكرازة الجماعية والصلاة الجماعية، كما من قلب واحد التي كانت أعظم مميزات الكنيسة الأولى. وهذا بالتالي عاد بأعظم الضرر والخسارة على روح المجتمع المسيحي والعالم كله.

الصوم واستعادة روح التوبة الجماعية في الكنيسة:

الكنيسة تنتظر الآن نهضتها بفارغ الصبر، ولكن نهضة الكنيسة يستحيل أن يفتعلها أفراد. قد تبدأ حركة النهضة في الكنيسة بانتباه مبكِّر لبعض الأفراد، ولكن النهضة على وجه العموم يلزم أن تكون حركة جماعية. الروح القدس إذا نبَّه فرداً واحداً أو عدة أفراد في الكنيسة، فهذا يكون للتبكيت والتوبيخ فقط؛ ولكن إذا نبَّه جماعة أو عدة جماعات، فهذا معناه أن روح بعث وتجديد قد سَرَت في الكنيسة لبدء عصر نهضة واستنارة.

الروح القدس طيِّب ووديع جداً، ويمكن أن يُستدعَى ليعمل في الجماعة، شرط أن تكون الجماعة مجتمعة بنفس واحدة وروح واحدة تحت تبكيت الضمير والندم وطلب التوبة والاستغفار عن كل خطايا الكنيسة والعالم.

إن فرصة الصوم المقدس، تُلزمنا أن نتخذ قراراً حاسماً في الموضوع، فالخطر يتعدَّى الخسارات المادية. إن تراثنا التقليدي كله سواء الاجتماعي أو الخلقي أو الروحي أو اللاهوتي معرَّض لهزَّات عنيفة قد تقلبه قلباً.

قد تكون التوبة الفردية عملاً شخصياً يتوقف على رغبة الإنسان ومزاجه واستعداده ومثابرته، ولكن التوبة الجماعية فرض والتزام على الكنيسة بالنسبة للوطن أو للعالم. الكنيسة كجماعة، مسئولة مسئولية مباشرة عن الوطن وعن العالم. الكنيسة موضوعة في العالم لتفتديه.

الفرد يصوم عن نفسه، بالجهد قد يصوم إنسان عن آخر؛ ولكن الكنيسة عليها أن تصوم من أجل العالم، الصوم والصلاة قدَّمه كل الشعب في نينوى بتوبة صادقة وانسحاق، فنجت نينوى. سدوم وعمورة لم تُصليا، ولم تصوما، ولم يوجد فيهما مَن يصلِّي أو يتوب، فهلكتا واحترقتا بكل مَنْ فيهما!!

الحاجة في هذه الأيام إلى صوم جماعي وتوبة جماعية حتى تنجو مصر وينجو العالم مما ينتظره! +

(فبراير 1972م)


(1) هذا النداء عينه يقوله الشماس في ختام صلاة رفع البخور لتقبُّل صلاة الحِلِّ من الكاهن، حيث يُخطئ بعض الناس ويستجيبون للنداء بالسجود أيضاً، في حين أن المطلوب هو إحناء الرأس فقط.
This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis