ناموس المسيح |
|
|
ثانياً: هل من جدوى للصلاة طالما أن مشيئة الله مطلقة لا تتغيَّر؟
والمقصود هنا أن مشيئة الله في الأساس نافذة وحريته مطلقة. وهو باعتباره كلِّي القدرة (أي القادر على كل شيء)، وكلِّي المعرفة (أي العارف بكل شيء)، والماضي والمستقبل حاضران دوماً أمامه؛ فلا يقف أمام مشيئته عائق. فهو من حقه أن يرحم مَن يرحم (ولم يَقُل: إني أظلم مَن أظلم). ومن ناحية المبدأ أيضاً، مَن هو الإنسان (الذي لم يوجِد نفسه، ولكنه مدين بحياته لخالقه من العدم) حتى يستجوب الله أو يُراجعه؟ فليس له عند الله أي حقوق.
ومع كل هذا، فإن مشيئة الله هي تعبير عن عدله الرحيم ورحمته العادلة. وكماله وقداسته يستبعدان مطلقاً أن يكون «عند الرب إلهنا ظلم» (2أي 19: 7) حتى أن القديس بولس يكتب مستنكراً: «ألعل عند الله ظلماً؟ حاشا» (رو 9: 14). وكيف لله الذي يقول: «ارفعوا الظلم عن شعبي» (حز 45: 9) أن يظلم أحداً؟ أو أن تتَّسم إرادته بالتعسُّف والمزاجية والعشوائية غير المبررة سوى بحقه المطلق!
بل إن كل ما نلمسه وتكشفه لنا كلمة الله وحياة مخلِّصنا الصالح أن مشيئة الله خيِّرة (وهو الذي أودع الخير وأيَّ صلاح في حياة قديسيه)، وهي التي تُُعبِّر عنها محبته وعدله ورحمته وغناه وكمال معرفته وإمهاله وطول أناته واحترامه لحرية الإنسان ومساندته للمجاهدين الأمناء وحنانه على المُجرَّبين المتألمين، إذ هو قد تألَّم مُجرَّباً (عب 2: 18). إن «الله محبة» (1يو 4: 16،8)، ومكتوب عنه: «الذي لم يشفق على ابنه بل بذله لأجلنا أجمعين، كيف لا يهبنا أيضاً معه كل شيء» (رو 8: 32). الله لا يصنع إلاَّ خيراً، ولكن كل ما يجري في الكون من شرور لا يصنعها الله، وإن تمَّت بسماح منه.
2 - إنَّ سَبْق علم الله بكل شيء لا يعني أنه يلوي عنق الأحداث قسراً لكي تتفق مع سابق معرفته. الله يعرف مسار الأحداث قبل أن تقع ويعرف ما ستنتهي إليه. ولكن الأحداث ذاتها خاضعة لقوانين وضعها الله بحكمة ودقة تؤول دائماً إلى الخير.
فالطبيعة بأفلاكها ونجومها وكواكبها (وضمنها أرضنا بفصولها وبحارها وأنهارها وجوها) تحكمها قوانين سادت بلايين السنين ولا تزال إلى أن يأمر الله بالنهاية(1). والأحياء، نباتية أو حيوانية، تحكمها صفاتها الوراثية وغرائزها وعلاقاتها البيئية. والإنسان، إضافة إلى الصفات الوراثية والغرائز، مُنح حرية الاختيار ووُهِبَ معرفة الله؛ ونزل ابن الله متجسِّداً لخلاصه، وأنعم على مَن يؤمن به بالحياة الجديدة التي تغلب الشر بعمل الروح القدس، وفي الدهر الآتي الحياة الأبدية.
وتصرُّفات الإنسان وشروره هو مسئولٌ عنها، ونجاحه أو فشله تحكمه قدراته وجهده، وأمراضه قد تكون وراثية أو وبائية أو قد يتحمَّلها هو بسبب إهماله أو إدمانه. والحروب وويلاتها يُسأل عنها قادة الدول الذين تُحرِّكهم الأطماع والاعتداد بالقوة التي لا تدوم.
وعلاج الأمراض قد يكون بالدواء أو الجراحة أو قد تستعصي على العلاج. ولكن الرب الذي شفى كثيرين أيام تجسُّده (مت 4: 24،23؛ 8: 16؛ 9: 35؛ 12: 15؛ 14: 36،14؛ 15: 30؛ مر 1: 34؛ 3: 10؛ 6: 5؛ لو 4: 40؛ 7: 21؛ 9: 11؛ أع 10: 38) لا يزال يقدر أن يشفي الذين يطلبون بإيمان. وهو قد أمر تلاميذه أن يشفوا المرضى (مت 10: 8؛ لو 10: 9). ومعلِّمنا بولس يشير إلى مواهب الشفاء (1كو 12: 9)، والقديس يعقوب يطلب: «صلُّوا بعضكم لأجل بعض لكي تُشْفَوْا» (يع 5: 16)، ومعجزات الشفاء تُجرَى كل يوم «وصلاة الإيمان تشفي المريض» (يع 5: 15).
3 - ومع هذا، فإن الله يظل قادراً أن يُغيِّر قوانينه الطبيعية ويتجاوزها، وأن يأمر خليقته فتطيعه (مت 8: 27؛ مر 4: 41؛ لو 8: 25) لإظهار مجده، أو لمساندة مَن يؤمنون به أو من أجل الخير: «طلبة البار تقتدر كثيراً في فعلها» (يع 5: 16). فالله سمح بتوقُّف الشمس في كبد السماء نحو يومٍ كامل (أي توقَّفت الأرض عن الدوران) عندما كان يشوع يُحارب ملوك الأموريين «ولم يكن مثل ذلك اليوم قبله ولا بعده» (يش 10: 14). والله استجاب لإيليا ومنع المطر ثلاث سنين وستة أشهر، ثم سمح به (1مل 17: 1؛ 18: 45؛ يع 5: 18،17). وجعل النار لا تؤثِّر في الفتية الثلاثة ولا ملابسهم (دا 3: 27). والله هدى المجوس إلى بيت لحم بواسطة نجم يتحرك قريباً من الأرض لتقديم هداياهم للمولود الفريد (مت 2: 9،2)، والرب انتهر الرياح والأمواج وصار هدوء عظيم (مت 8: 26؛ مر 4: 39؛ لو 8: 24). ووقت الصلب احتجبت الشمس ساعة الظهيرة لثلاث ساعات (لو 23: 45،44). والله استجاب لمؤمنيه وقت امتحانهم وسمح لجبل المقطم أن ينتقل مُنفِّذاً وعده (مت 17: 20؛ مر 11: 23).
4 - الموت هو نهاية كل حيٍّ، باراً كان أم شريراً، وقد يموت الإنسان بالشيخوخة أو بالمرض أو في حادثة أو بسبب اضطراب الطبيعة أو في الحرب. ومعرفة الله السابقة بكيفية موت أي إنسان لا تعني أنه هو الذي يُدبِّر موته لكي يتفق مع سبق معرفته. ونشير في هذا الصدد إلى الواقعة الشهيرة التي ذكرها سفر الملوك الثاني عن الملك حزقيا الذي لما جاءه مرض الموت، توسَّل إلى الله باكياً، واستجاب له الرب وزاد على أيامه خمس عشرة سنة (2مل 20: 1-6). فهذا لا يعني أن الرب قد عدَّل قراره. الله من البداية يعرف أن حزقيا سيتوسل إليه عند موته وأنه سيُضيف إلى أيامه سنيناً، فهو لم يُسجِّل موته ثم مدَّ في عمره خمس عشرة سنة. فمعرفة الله شاملة وليست جزئية وممتدة من الأزل إلى الأبد ولا تتغيَّر بسياق الأحداث ولا يُفاجأ بها كما يحدث مع الإنسان محدود المعرفة.
5 - علم الله السابق، إذن، بنهاية الأمور، لا يعني أنه قرر شيئاً، ثم إذ يستجيب للصلاة قد يُغيِّر مشيئته. ولو لم يكن لصلاتنا جدوى عنده، لما أوصانا الرب أن نصلِّي كل حين بمثابرة وبغير ملل (لو 11: 8؛ 18: 1) ودون أن نفقد صبرنا (عب 10: 36،35)، وأن نصلِّي لكي لا ندخل في تجربة (لو 22: 40)، وأن نسأل ونطلب ونقرع الأبواب (مت 7: 10،9؛ لو 11: 10)، وأن نلتجئ إليه يوم الضيق (مز 50: 15).
وهو قد وضع شروطاً لاستجابة الصلاة، فطالبنا بالاستقامة والثبوت فيه، وفي كلامه (يو 15: 7) مندداً بطلبة الخاطئ غير التائب: «ذبيحة الأشرار مكرهة» (أم 15: 8)، وأوصى بأن تكون طلباتنا باسم المسيح (يو 14: 14،13؛ 15: 16؛ 16: 33،26،24) «ليتمجَّد الآب بالابن»، وبحسب مشيئته (مت 6: 10؛ 12: 50؛ 26: 42،39؛ لو 11: 2؛ 22: 42؛ 1يو 5: 14)، وأن نطلب بإيمان بغير ارتياب (مت 21: 22؛ مر 11: 24؛ يع 1: 6)، وبالطبع ألاَّ يكون الطلب ردياً (أي جسدياً لحساب الذات): «تطلبون ولستم تأخذون لأنكم تطلبون ردياً لكي تنفقوا في لذَّاتكم» (يع 4: 3). فإذا توافرت هذه الشروط، وكانت الطلبات لخيرنا، فالله يستجيب بِنَعَم: «ويكون أني قبلما يدعون أنا أُجيب، وفيما هم يتكلَّمون بعد أنا أسمع» (إش 65: 24)، ولكنه ربما يتأنَّى علينا (2بط 3: 9) مختبراً إيماننا، وربما يختار للاستجابة وقتها الملائم، أو يرفض الطلب بحسب حكمته: «ما أبعد أحكامه عن الفحص، وطرقه عن الاستقصاء» (رو 11: 33).
6 - وبالتأكيد، فهناك طلبات مضمونة الاستجابة للمؤمن الثابت في أصل الكرمة، وهي العطايا الروحية المتعلِّقة بملكوت الله وبرِّه (مت 6: 33): «ليس بكيل يُعطي الله الروح» (يو 3: 34)، «إن ثبتم فيَّ وثبت كلامي فيكم، تطلبون ما تريدون فيكون لكم» (يو 15: 7)، «إن أحبني أحد يحفظ كلامي ويحبه أبي وإليه نأتي وعنده نصنع منزلاً (أي نقيم عنده)» (يو 14: 23)، «إن سمع أحد صوتي وفتح الباب، أدخل إليه وأتعشى معه وهو معي» (رؤ 3: 20).
فالساعون إلى حياة البر والقداسة ”يكونون قديسين“ (لا 11: 44؛ 1بط 1: 15)؛ والطالبون المواهب الروحية: «يُعطي الروح القدس للذين يسألونه» (لو 11: 13) كأن يتسع القلب بالمحبة أكثر، أو يُعطي السلام المفتَقَد بحسب الوعد: «سلاماً أترك لكم، سلامي أُعطيكم» (يو 14: 27)، أو الحكمة: «إن كان أحدكم تعوزه حكمة، فليطلب من الله الذي يُعطي الجميع بسخاء ولا يُعيِّر، فسيُعطى له» (يع 1: 5)، ينالون ما يسألون دون عائق، ومثلهم الذين يتوسلون من أجل التوبة والتخلُّص من نقاط الضعف والخطايا المحبوبة: «توبني فأتوب لأنك أنت الرب إلهي» (إر 31: 18)، «وهو لا يشاء أن يهلك أُناس بل أن يُقبل الجميع إلى التوبة» (2بط 3: 9)؛ أو المساعدة في حمل الصليب وصلب الجسد: «احملوا نيري عليكم» (مت 11: 29)، «يحمل صليبه ويتبعني» (مت 16: 24؛ مر 8: 34؛ لو 9: 23)، «الذين هم للمسيح قد صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات» (غل 5: 24)؛ أو التعزية وقت الأحزان: «أنا أنا هو معزيكم» (إش 51: 12)، «كإنسان تعزيه أُمه هكذا أُعزيكم أنا» (إش 66: 13)، «طوبى للحزانى لأنهم يتعزون» (مت 5: 4)؛ أو المساندة على احتمال التجارب، وبعضها عنيف يقصم الحياة وبعضها يمتد ليُرافق الحياة بطولها، ولكن «طوبى للرجل الذي يحتمل التجربة، لأنه إذا تزكَّى ينال إكليل الحياة الذي وعد به الرب للذين يحبونه» (يع 1: 12).
7 - ومما لا شكَّ فيه، فإن الذين يلتزمون بوصايا الله، فإن الله يلتزم بهم: «إن حفظتم وصاياي تثبتون في محبتي» (يو 15: 10). ومن ناحية أخرى، فإنه كلما ازدادت حياتنا التصاقاً بالله، كلما زادت محبتنا له وإيماننا به وثقتنا في كمال رعايته وحُسن تدبيره، ومن ثَمَّ تزداد طاعتنا وتسليمنا بمشيئته بكل رضا وسرور حتى وإن تعارضت مع مشيئتنا: «لتكن لا إرادتي بل إرادتك» (لو 22: 42).
فصليب الجلجثة يشهد بدوام محبة الله، والله يكفينا وليس عطاياه؛ وهكذا كتب آساف في مزموره: «مَن لي في السماء؟ ومعك لا أريد شيئاً في الأرض» (مز 73: 26،25)، وحتى وسط الآلام تأتينا كلمات القديس بطرس: «فإذاً، الذين يتألمون بحسب مشيئة الله فليستودعوا أنفسهم كما لخالق أمين في عمل الخير» (1بط 4: 19). فالمؤمنون يقبلون آلامهم باعتبارها قد حازت موافقة الله لتصير لخيرهم في نهاية المطاف، وكل ما عليهم أن يُسلِّموا أنفسهم وديعة عند خالقهم الذي يبقى أميناً حتى النهاية (2تي 2: 13).
(بقية المقال العدد القادم)
دكتور جميل نجيب سليمان
(1) قد يؤدِّي التدخُّل الإنساني إلى اضطراب الطبيعة (فزيادة نسبة ثاني أكسيد الكربون بسبب النشاط الصناعي مزَّقت طبقة الأوزون الحامية لجو الأرض، مما أدَّى إلى ارتفاع درجة حرارة الأرض Global warming، وما تبعه من ذوبان ثلوج القطبين، وبالتالي ارتفاع سطح البحار بما يُهدِّد باجتياح السواحل والجزر)، والتجارب النووية لها آثارها السلبية على سلامة الأرض. والدراسات الجينية وبحوث الهندسة الوراثية التي تُبشِّر بخير عظيم، إن لم تكن لها ضوابطها، يمكن أن تؤدِّي إلى كوارث تُهدِّد الحياة كلها.