دير القديس العظيم أنبا مقار
الصفحة الرئيسية  مجلة مرقس الشهرية - محتويات العدد

تدبير الروح القدس:

الروح القدس

حياة الكنيسة

- 2 -

 

 

الأسرار الكنسية

2 - سر المسحة المقدسة

- 2 -

أهمية وعِظَم آثار سر المسحة المقدسة:

هذه الأهمية وتلك العظمة نحسُّ بهما من الصلوات التي يتلوها الأب الكاهن بعد تعميده المعمَّد لكي يحلَّ عليه الروح القدس بموجب سرِّ المسحة المقدسة:

[أيها القادر وحده، صانع جميع العجائب، الذي لا يعسر عليك شيء، لكن إرادتك وقوتك فاعلة في كل شيء؛ أَنْعِمْ بالروح القدس عند نضح الميرون المقدس. ليكن خاتماً مُحيياً، وثباتاً لعبيدك بابنك الوحيد يسوع المسيح ربنا].

وهذا الوصف ”ختم موهبة الروح القدس“ يعني أن الروح القدس هو أولاً ”ختم“ لا يُمحَى، وثانياً هو موهبة أي عطية المسيح من الآب للبشرية، فهو موهوب لنا كأعظم عطية نالتها البشرية من الله.

ويتأمل الآباء ويُعلِّمون عن هذه العطية هكذا فيسمون هذه ”المسحة“ بأنها ”ختم“ (كليمندس الإسكندري، والقديس كيرلس الأورشليمي)؛ ”الختم الروحي“ (القديس أمبروسيوس أسقف ميلانو)؛ ”ختم الحياة الأبدية“ أو ”مسحة عربون ملكوت السموات“ و”لباس الحياة الأبدية غير الفاسدة“، ”دهن شركة الحياة الأبدية غير المائتة“، ”مسحة مقدسة للمسيح إلهنا، وخاتم لا ينحلُّ“، ”كمال نعمة الروح القدس، ودرع الإيمان“ (وهذه هي الأوصاف الروحية المناسبة لكل مجموعة رشومات من الرشومات الـ 36 التي يدهن بها الأب الكاهن جسم المُعمَّد).

ويكتب القديس مار أفرآم السرياني:

[بختم الروح القدس، تُختم كل المداخل الجسدية إلى نفسك، وذلك بختم المسحة، تُمسح كل أعضائك].

ويتساءل القديس باسيليوس الكبير:

[كيف يُحارب عنك ملاكك، وكيف يختطفك من العدو، إن لم يتعرَّف على الختم؟... وألستَ تعلم أن المُهلِك كان يَعْبُر عن بيوت الذين كانوا مختومين، بينما يقتل البكرَ في بيوت غير المختومين؟ إن الكنز غير المختوم تسهل سرقته بيد اللصوص، والغنم غير المختوم قد يضل بعيداً].

ويُسمِّي القديس إيسيذوروس البليوزومي هذا السر ”عطية الروح القدس“. والعلاَّمة ترتليانس والقديس هيلاريون يدعوانه ”سر الروح“. والقديس كبريانوس يُسمِّيه ”الولادة من الروح“ التي أشار إليها المسيح في حديثه مع نيقوديموس (يو 3: 8،6،5).

مِن وضع أيدي الرسل، إلى المسحة بالزيت المقدس:

كانت موهبة أو عطية الروح القدس تُمنح في أيام الكنيسة الأولى بواسطة وضع أيدي الرسل على رأس المُعمَّد.

وهذا ما نقرأه في سفر الأعمال - الأصحاح الثامن (أعداد من 14-16)، حيث يسرد كيف أن الرسل الذين كانوا في أورشليم، إذ سمعوا أن إقليم السامرة قد قَبِلَ أهلها كلمة الله، أرسلوا إليهم بطرس ويوحنا اللذين لما أتيا إلى هناك صلَّيا لأجلهم لكي يقبلوا الروح القدس، لأنه لم يكن قد حلَّ بعد على أحد منهم بالرغم من أنهم كانوا قد نالوا سرَّ المعمودية باسم الرب يسوع المسيح، حينئذ وضعا الأيادي عليهم فقبلوا الروح القدس.

كذلك نقرأ في نفس سفر الأعمال - الأصحاح التاسع (عدد 17) حادثة ظهور المسيح لشاول وهو ذاهب من أورشليم إلى دمشق ليقبض على المسيحيين هناك. وقد ساق الله إليه تلميذاً اسمه ”حنانيا“ وضع عليه يديه لكي يمتلئ من الروح القدس. وكذلك في الأصحاح التاسع عشر (الأعداد من 2-6) نقرأ عن الرسول بولس حينما قابل تلاميذ في مدينة أفسس كانوا قد تعمَّدوا بمعمودية يوحنا فقط، فسألهم: «هل قبلتم الروح القدس لما آمنتم (بالمسيح). قالوا له: ولا سمعنا أنه يوجد الروح القدس»، فعلَّمهم الرسول بولس أن: «يوحنا عمَّد بمعمودية التوبة قائلاً للشعب أن يؤمنوا بالذي يأتي بعده أي بالمسيح يسوع». «ولما وضع بولس يديه عليهم، حلَّ الروح القدس عليهم، فطفقوا يتكلَّمون بلغاتٍ ويتنبَّأون».

ولكن بأية طريقة أصبح وضع أيادي الرسل لحلول الروح القدس، يُستعاض عنه بمسحة الزيت؟

من بعض الآيات في الرسائل الرسولية يتضح وجود ”مسحة“ لحلول الروح القدس أيام الرسل. فالرسول بولس يكتب قائلاً: «ولكن الذي يُثبِّتنا معكم في المسيح وقد مَسَحَنا هو الله، الذي خَتَمَنا أيضاً وأعطى عربون الروح في قلوبنا» (2كو 1: 22،21). ونفس الكلمات التي تُتلى أثناء ممارسة السر: ”ختم موهبة الروح القدس“ مرتبطة تماماً بكلمات الرسول بولس. ويكتب الرسول أيضاً: «ولا تُحزِنوا روح الله القدوس الذي به خُتِمْتم ليوم الفداء» (أف 4: 30).

وكذلك نقرأ في رسالة القديس يوحنا الرسول الأولى (الأصحاح الثاني، العدد 20): «وأما أنتم فلكم مسحة من القدوس وتعلمون كل شيء»، وأيضاً في نفس الأصحاح (العدد 27): «وأما أنتم فالمسحة التي أخذتموها منه ثابتة فيكم، ولا حاجة بكم إلى أن يُعلِّمكم أحد، بل كما تُعلِّمكم هذه المسحة عينها عن كل شيء، وهي حقٌّ وليست كذباً، كما علَّمتكم تثبتون فيه».

ويتضح من كلمات الرسولَيْن بولس ويوحنا أن تعبير ”مسحة“ يُشير إلى توصيل ”عطية الروح القدس“ إلى المؤمنين من خلال المسح بالزيت المقدس.

كما أن آباء الكنيسة يضعون كلمة ”مسيحي“ في ارتباط شديد مع ”المَسْح“. فكلمة ”خريزما“ وكلمة ”خريستوس“ باليونانية تعني ”المسحة“ و”الممسوح“. وفي هذا يقول القديس كيرلس الأورشليمي:

[أنتم تُدعَوْن عن حق ”مسيحيين“ أي ”ممسوحين“ أو ”مسحاء“. وبهذه الصفة يقول الله: «لا تمسُّوا مُسحَائي» (مز 104: 15 - بحسب الترجمة السبعينية المُستخدمة دائماً بواسطة آباء الكنيسة)].

وهذا كله يُبيِّن أن المسحة بالزيت استُعيض بها في عصر الرسل أنفسهم عن وضع أيادي الرسل في حال غيابهم. وقد استلم الأساقفة - باعتبارهم خلفاء الرسل - مهمة مسح المُعمَّدين بالزيت المقدس. ثم بعد انتشار الإيمان المسيحي وكثرة عدد المُعمَّدين، وتعدُّد أماكن معموديتهم في الإيبارشية الواحدة، ولأنه لابد أن تعقب مباشرة المسحة المقدسة معمودية الداخلين في الإيمان. لذلك سُمِحَ للقسوس (البريزفيتيروس) بمهمة المعمودية ثم المسح بالزيت؛ بينما احتُفِظَ بعملية تقديس الميرون للأساقفة وحدهم.

شرح طقس مسح وختم الأعضاء:

كما ورد في كتاب ”العنصرة“ للأب متى المسكين(1).

حينما يبدأ الكاهن برشم الميرون، يبدأ من منتصف الرأس، وإني لمتعجِّب ومندهش من حكمة الكنيسة في ذلك، فرأس الإنسان يحوي المخ حيث تتجمَّع مراكز التفكير والتمييز والحواس جميعاً!

رأس الإنسان هو حصن العقل، أول جزء اقتحمه الشيطان، وأول عضو دخلته الخطية، عندما أكل آدم من شجرة معرفة الخير والشر.

عقل الإنسان كان حصناً إلهياً مُنيراً، مركز المعرفة الذي يستمد معرفة الحق الإلهي كان كاملاً دون انقسام أو بلبلة. ولكن بعد أن اشتهى الإنسان المعرفة المستقلة، وأن يكون كالله عارفاً، عارفاً بشخصه وبمقدرته، وهامَ وراء الاستقلال الذاتي، وحوَّل مركز تقبُّله للحقائق من الله إلى ذاته؛ تعرَّض في الحال لنقصٍ في المعرفة لأنه أصبح يستمدها من خبرته الشخصية، وما الخطأ أو ما الخطية في أصولها إلاَّ معرفة ناقصة!!

ومنذ آدم حتى اليوم والعقل هو العضو الأول الذي يقتحمه الشيطان ويصنع فيه كل خطية وكل إثم وكل نجاسة!...

ويستمر الكاهن في رشم الأعضاء، فيمر على وجه المعتمد ويرشم حواسه بمثال الصليب: الأنف والفم، ثم الأُذن اليُمنى مع العين اليُمنى، ثم العين اليسرى مع الأُذن اليسرى، ولا يرفع أُصبعه حتى يتسنَّى له أن يصنع من هذه الرشومات صليباً واحداً على كل الوجه!

ثم يكمل الكاهن ختانة الأعضاء وكأنه يخلع عنها غُلفتها، «وبه أيضاً خُتِنتُم ختاناً غير مصنوع بيدٍ، بخلع جسم خطايا البشرية» (كو 2: 11)، ويعطيها ختم الروح للشهادة وصورة المسيح.

وبعد ذلك تصير الأعضاء كلها للمسيح، بل كما يقول بولس الرسول تصير ”أعضاء المسيح“. لذلك فهو يقشعر حينما يتصور أن إنساناً ما يعود ويستخدم هذه الأعضاء للنجاسة. فيقول: «ألستم تعلمون أن أجسادكم هي أعضاء المسيح. أفآخذ أعضاءَ المسيح وأجعلها أعضاءَ زانية، حاشا» (1كو 6: 15).

تنبيه هام:

يلفت الأب متى المسكين النظر إلى خطورة عدم التدقيق في رشم الأعضاء بالميرون، أو اختصارها، أو إهمالها جملةً، أو الاكتفاء بإلقاء جزء من الميرون في ماء المعمودية. وقال إن هذا - لو حدث - ينعكس على المُعمَّدين. وهذا التنبيه يحمل في مضمونه الإيمان بفاعلية كل صلوات وإجراءات طقوس السرِّ، وخطورة إهمال أو اختصار أو تغيير أي منها.

(يتبع)

**** عفو الآب *******************************

+ لقد قال (الابن الضال): «أقوم وأذهب إلى أبي» (لو 15: 18)، قال هذا بعد أن خارت قواه وسقط على الأرض (صريع الجوع والعُري)، ورجع إلى نفسه وأحسَّ بالهوَّة التي نزل إليها ومدى الهلاك الذي تعرَّض له. رأى نفسه غائصاً في وحل الخطيئة، فصرخ بشدة حاثاً نفسه: «أقوم (الآن) وأذهب إلى أبي». مِنْ أين يأتيه هذا الرجاء، وهذا اليقين، وهذه الثقة؟

+ مِنْ واقع ما يعرفه عن أبيه كان يُناجي نفسه قائلاً: ”لقد فقدتُ امتيازي كابن، أمَّا هو فلم يفقد شيئاً من امتيازه كأب. إنه لا يحتاج إلى إنسان آخر غريب يتوسَّل لديه لأجلي. إن محبة أبي الحانية هي التي تتوسط وتتوسل وتلح من أعماق القلب. إن أحشاءه الأبوية هي التي ستدفعه أن يتبنَّى من جديد ابنه بإصدار الصفح الكامل عنه. لقد ارتكبتُ كل مُنكر، ولكني سأذهب إلى أبي“.

+ وأما الأب فلدى رؤيته لابنه، سَتَرَ في الحال وِزره، ولما قام بدور القاضي غلبت عليه أُبوَّته، فحكم على الفور بالبراءة، هذا لأنه يودُّ رجوع الابن لا هلاكه. فـ «وقع على عنقه وقبَّله» (لو15: 20)، فكيف يقضي الأب؟ وكيف يُصلِح ويؤدِّب؟ إنه يُعطي بدلاً من العقوبة قُبلة. إن قوة المحبة لا تُقيم وزناً للخطيئة، ولذا فإن الأب بقُبلة يعفو عن ذنب ابنه، وبعواطفه الأبوية يغمره. الأب لا يفضح ولده، ولا يُشهِّر بابنه؛ بل يضمد جروحه تماماً...

+ فإذا كان الماضي المشين لهذا الشاب، يثير فينا الاشمئزاز، وشروده يبعث فينا النفور؛ فلنحترس، إذن، ألاَّ نبتعد عن مثل هذا الأب. إن مجرد رؤية هذا الأب تكفي لأن تجعلنا نفرُّ من الخطيئة، ونتجنَّب الإثم، ونجحد كل شر وكل غواية.

*********** القديس بطرس كريسولوجوس - أسقف رافنا بإيطاليا (406-450م)

(1) الطبعة الثالثة 2002، من صفحة 52-54.