[لا أريد أن أخلص بدونكم... أريد أن أحيا في المسيح ولكن معكم. هذه هي شهوتي وكرامتي ومجدي وفرحي وثروتي].
معظمنا يعرف سيرة حياة القديس أوغسطينوس الأولى وقصة إيمانه وتوبته المشهورة القوية والمثالية، ولكن القليل منا مَن يعرف شيئاً عن سيرته وجهاده في خدمته الكهنوتية. والفضل في نشر سيرته الرعوية هذه يرجع إلى تلميذه المحبوب ”بوسيديوس“ الذي صار بعد ذلك أسقفاً على ”كالاما“ في مقاطعة ”نوميديا“ الرومانية في شمال أفريقيا. وقد كتب هذه السيرة بعد نحو 30 سنة من رقاد معلِّمه أسقف ”هيبو“ المشهور لكي يُبرز فضائله لتعليم الأجيال التالية بعد أن حذف منها ما جاء في كتاب ”الاعترافات“ عن حياة القديس الأولى وتوبته، وجعلها تصوِّر الغيرة على الحق ومجد الله لكي يتمثل الناس بها، حيث إن القديس واجه مواقف صعبة ولا سيما من الهراطقة أتباع كل من ”ماني“ و”دوناتوس“ و”بيلاجيوس“، بالإضافة إلى الأريوسيين والوثنيين، كل هؤلاء شعروا في شخصيته بقوة الرب تقاوم تعاليمهم الفاسدة. وكان هدف القديس من ذلك هو تثبيت الإيمان الصحيح وإزالة الشكوك والعثرات من أمام النفوس لكي تخلص، فقد كانت غيرته ومحبته لمنفعة الناس الروحية لا حدود لها، ونرى ذلك فيما كان يقوله لشعبه متشبِّهاً بموسى النبي وبولس الرسول: [لا أريد أن أخلص بدونكم. ما هو الذي أريده؟ لماذا أنا أسقف؟ لماذا أنا موجود في العالم؟ فقط لكي أحيا في المسيح، ولكن لكي أحيا فيه معكم. هذه هي شهوتي وكرامتي ومجدي وفرحي وثروتي]! ومما يهمنا جداً أن نعرفه من هذه السيرة هو أن القديس في سنواته الأخيرة قد أعاد النظر في كتاباته المبكرة، ومحَّصها تماماً وصحَّح بعض الأخطاء فيها، لأنه كتبها حينما كان متأثِّراً ببعض الفلسفات والهرطقات، إذ كان مدرساً للفلسفة، وهذا يدلُّنا على اتضاعه واعترافه بعجزه وقصوره البشريَّيْن، ويجعلنا نثق في كتاباته مع تصحيح الكتابات المبكِّرة منها، والتي نسخها البعض قبل تصحيحها. ويقول بوسيديوس في مقدمته لسيرة القديس: [لقد أخذتُ على عاتقي بنعمة الله أن أنشر سيرة هذا الرجل المكرَّم كما عرفتها منه خلال عدة سنوات من صلتي الوثيقة به... لقد كان القديس يرغب دائماً ألاَّ يظن فيه أحد أو يُشاع عنه أكثر مما كان هو عليه. لذلك فهو لم يكفَّ عن ممارسته للاتضاع حيث إنه لم يكن يطلب مديحاً لنفسه بل مجداً لربه...]. حياته النسكية الأولى: بعد توبة القديس أوغسطينوس واعتماده في عيد القيامة عام 387م لَبِسَ الرب يسوع المسيح (غل 3: 27)، وختمت المعمودية على تحوُّله الداخلي، ثم أعطى ظهره للعالم جذرياً، وباع ممتلكاته لصالح الفقراء، ثم كرَّس مواهبه النادرة لخدمة المسيح التي ظلَّ مخلصاً لها حتى نهاية حياته. وقد رافقه في المعمودية شريك توبته ”أليبيوس“، وابنه غير الشرعي ولكنه المحبوب ”أديوداتوس“ الذي كان عمره 15 سنة، وتوفي بعد ذلك بقليل.وهكذا نالت أمُّ أوغسطين القديسة مونيكا، استجابةً قويةً لصلواتها بعد سنوات طويلة ودموع غزيرة، وذلك قبل انتقالها بقليل. فقد رحلت عن العالم في نوفمبر سنة 387م بفرح، رغم أنها انتقلت من هذا العالم غريبة عن بيتها بين ذراعي ابنها بعد أن تمتَّعت معه بحديثٍ بهيٍّ، كان عبارة عن تذوُّق مُسبَق لسبت الراحة الأبدي الذي للقديسين! ولما عاد القديس أوغسطينوس إلى شمال أفريقيا في سبتمبر سنة 388م، قضى ثلاث سنوات مع أصدقائه الروحيين في موطنه الأصلي ”طاجستا“، بعد أن قطع عنه كل رباطات الاهتمامات الوقتية، وذلك في حياة مشتركة رسولية. وظل يخدم الله بالصوم والصلاة والتأمُّل في كلمته، كما علَّم أتباعه بعظاته وكتاباته عن الحقائق التي كشفها الله له في تأمُّلاته وصلواته. اختياره للكهنوت: طلب أسقف مدينة ”هيبو“(1)، واسمه ”فاليريوس“، من الشعب أن يختاروا مَنْ يرسمه كاهناً لمساعدته، فأجمعوا على القديس أوغسطينوس وجاءوا به رغماً عنه ورُسِمَ وهو يبكي بدموع غزيرة، وذلك عام 391م، وقد ثبت أنَّ صوت الشعب كان من صوت الله (كما تقول الدسقولية).وبعد رسامته أسَّس في مبنى مُلحق بالكنيسة ما يُشبه الدير على نظام الشركة الذي كان يتبعه في طاجستا. وهناك عاش بين خُدَّام الله، ومنهم بوسيديوس كاتب سيرته حيث قال: ”فَرِح القديس فاليريوس الذي رسمه حيث إنه كان صالحاً وممتلئاً بمخافة الله، وقال إن الرب سمع لصلواته المتواترة التي توسَّل فيها إليه أن يُرسل إنساناً له مثل هذه الشخصية المميَّزة لكي يُنير شعب الكنيسة بتعاليم كلمة الله... وهكذا أعطى لكاهنه الحق في أن يعظ في حضرته وأن يقود المناقشات العامة... وذلك لأول مرة في كنائس شمال أفريقيا... وهكذا وُضِع هذا المصباح على منارةٍ ليُضيء لكل مَن في البيت“! وحدث في هذا الوقت أن بدعة ماني كانت قد تغلغلت وأفسدت كثيرين في مدينة هيبو بواسطة كاهن من أتباعهم اسمه ”فرتوناتوس“(2). وطلب سكان هيبو من القس أوغسطينوس أن يُقابله ويُناقشه، فوافق الطرفان ثم تقابلا في مكانٍ تجمَّع فيه شعبٌ غفير. وقد دُوِّنت المناقشات في سجلاَّت أظهرت فشل فرتوناتوس أمام حجج الكنيسة الجامعة على فم القديس. ولما شعر بالهزيمة غادر المدينة سريعاً إلى غير رجعة. وهكذا تأيَّد إيمان الكنيسة وثبت الناس في إيمانهم. وقد فضحت كتابات القديس وعظاته هرطقات عصره حتى أن المسيحيين نشروا تعاليمه المبنية على الأسفار المقدسة والمنطق حيثما استطاعوا، وبذلك كانت العقيدة القويمة مع رائحة المسيح الزكية تنتشر في شمال أفريقيا كلها. وإن كان الأسقف الوقور فاليريوس قد فرح أكثر من الجميع وشكر الله على تلك البركات التي نالتها كنيسته؛ إلاَّ أنه بدأ يخاف من أن تأخذ أية إيبارشية أخرى القس أوغسطينوس منه وترسمه أسقفاً لها. لذلك طلب من أسقف قرطاجنة - المركز الأسقفي الرئيسي - أن يُرسَم القس أوغسطينوس أسقفاً مساعداً له في هيبو، واستُجيبَت رغبته. وقد فرح رجال الإكليروس والشعب كله وهتفوا باشتياق لإتمام ذلك، إلاَّ أن القديس رفض، لمخالفة ذلك للتقليد الكنسي، حيث إن أسقفه كان لا يزال على قيد الحياة، ولكنهم أجبروه على ذلك. إلاَّ أنه قال بعد ذلك وكتب أن هذه الرسامة ما كان يجب أن تتم ضدّاً لقوانين الكنيسة لكي يُحذِّر الآخرين من تكرار هذا الخطأ حتى لا يصير عُرفاً تقليدياً! ولما ازدهرت التعاليم الإلهية، بدأ المكرَّسون في كنيسة هيبو، الذين خدموا الله في دير حياة الشركة مع القديس أوغسطينوس، يُدعون للخدمة لأن طريقة حياتهم - ولا سيما عفَّتهم وفقرهم - صارت تزداد تكريماً وشهرةً يوماً فيوماً. وهكذا استجاب القديس لطلبات الكنائس وأعطاها عشرة رجال قديسين وقورين متعفِّفين ومتعلِّمين، هؤلاء الذين صاروا أساقفة قد تشبَّهوا بمعلِّمهم وكانوا سبباً في نمو كنائسهم. وحيث إن غيرتهم على نشر كلمة الله كانت تزداد، فقد زوَّدوا هم أيضاً بدورهم كنائس أخرى بإخوةٍ رُفِعوا إلى الدرجات الكهنوتية.فضائل القديس واعتداله في التقشُّف والزهد: كتب بوسيديوس ما رآه بعينيه قائلاً: ”كانت ملابس القديس وحذاؤه وأثاث مسكنه كلها متواضعة ولكنها كافية. فلم تكن ثمينة ولا متهرِّئة لأنه انتهج الطريق الوسط، وكانت مائدته تتميز بالاقتصاد رغم أنها كانت أحياناً تحوي لحوماً ومأكولات تناسب الضيوف والمرضى... وكانت أواني الطعام من خزف (طين وخشب)... كما أنه كان دائماً مِضيافاً، وكان يُفضِّل القراءة على المائدة“.وكان يزوِّد الفقراء باحتياجاتهم من الاعتماد المالي المخصَّص له ومن الدخل العائد من ممتلكات الكنيسة أو من عطايا المؤمنين. كما كان يعهد إلى أكفأ رجال الإكليروس بالعناية بمبنى الكنيسة وممتلكاتها. وكان يطَّلع على حسابات الإيرادات والمصروفات مرةً واحدة في نهاية كل عام. ولم يرغب إطلاقاً في شراء بيت أو أرض أو حقل أو إقامة مباني جديدة، ولكن إذا تبرع أحدٌ بشيء من ذلك أو أوصى به كتركة للكنيسة بعد وفاته، كان يقبله إلاَّ إذا شعر أن الورثة قد لحقهم ظلم من ذلك، فكان يرفض التركة! ولكنه لم يكن يُربك نفسه بممتلكات الكنيسة وأموالها إلاَّ إذا شعر أنها تحتاج إلى تنظيم، وبمجرد أن تنتظم أحوالها يعود حالاً إلى الاهتمامات الروحية. وهذا كله كان القديس يُنجزه بأن يعمل النهار كله ويكدُّ ليلاً تحت ضوء المصباح. وهكذا صوَّر نموذجاً للكنيسة العُليا متشبِّهاً بمريم التي اختارت النصيب الصالح. وإذا احتاجت الكنيسة إلى المال كان يُخبر المؤمنين. وكان عند الضرورة والاضطرار يأمر أحياناً بصَهْر بعض الأواني الكنسية لكي يفدي بثمنها المأسورين، ولكي يفي بحاجة العدد الهائل من المحتاجين(3)، وقد تشبَّه في ذلك بمعلِّمه القديس أمبروسيوس. ولما كان المؤمنون أحياناً يتجاهلون خزانة الكنيسة التي تُزوَّد منها احتياجات المذبح الضرورية، كان القديس يُعاتب شعب الكنيسة. أما احتياجات رجال الإكليروس من الطعام والملابس، فكانوا يتزوَّدون بها مع القديس نفسه في مسكنه ومن النفقات العامة للإيبارشية، لأنه «كان عندهم كل شيء مشتركاً... ويُقسِّمونها بين الجميع كما يكون لكل واحدٍ احتياج» (أع 2: 45،44). وقد ذكر بوسيديوس أن القديس كان يفحص المنازعات التي يُطلَب منه التدخُّل فيها بكل تدقيق وصبر لدرجة أنه قد يفوته ميعاد الطعام حتى نهاية اليوم، ولكنه لم يكن يسمح لنفسه أن يغرق في تلك المنازعات، بل كان جُلُّ همِّه الاهتمام بقيمة النفس البشرية، مُراعياً بصفةٍ خاصة درجة نموها الروحي! وكان يوبِّخ المخطئين أمام الجميع «لكي يكون عند الباقين خوفٌ» (1تي 5: 20). وكان يفعل ذلك كمَنْ جعله الرب «رقيباً (أي أسقفاً) لبيت إسرائيل» (حز 3: 17)، كارزاً بالكلمة «في وقت مناسب، وغير مناسب» (2تي 4: 2)، موبِّخاً منتهراً واعظاً «بكل أناةٍ وتعليم» (2تي 4: 2). وكان يبذل جهداً خاصاً لتعليم الذين أمكن لهم بدورهم أن يُعلِّموا آخرين. ولكنه كان يشتكي من أن بعض الخطايا صارت معتادة وشائعة لدرجة أنه رغم إدانته لها لم يُقاومها بشدة خوفاً من ردِّ الفعل الضار. وعن تصرفاته الحكيمة قال كاتب سيرته: ”لم يكن يستجيب لأعزِّ أصدقائه عندما يطلبون منه رسائل للتوسُّط عند رجال السلطة الأشرار، فقد قال إن هذه حكمة الرجل الفطن، لأن رجال السلطة غالباً إذا توسل إليهم الناس يصيرون بعد ذلك ظالمين لهم. ومع ذلك فإن القديس كان يتوسط عند الضرورة، ولكن بصراحة ولباقة واتضاع. فقد حدث أنـه أرسل خطاباً لمسئول في شمال أفريقيا لأجل أحد المظلومين فاستجاب له، ثم كتب إليه قائلاً: "إنني لمتعجِّبٌ من حكمتك... فكتاباتك يا أبي المكرَّم تتصف بالإفراز والمعرفة والقداسة... وخطابك يتميز بالاتضاع لدرجة أنني حتى لو عجزتُ عن تحقيق طلبك لاعتبرتُ نفسي ملوماً، لأنك لا تصرّ - كما يفعل معظم الناس الذين في مركزك - على أن تغتصب كل شيء يطلبه المتظلِّم... وعلى ذلك، فحيث إن لك مبرِّراً فيما تنتظره مني، فأنا لم أتردَّد في أن أمنح السائل ذلك الطلب الذي أوصيتم به"“! مراعاته لتقاليد الكنيسة، وتحفُّظه من الشكوك والعثرات: كان القديس أوغسطينوس يُدقِّق في رسامة الخدَّام مراعياً لقوانين الكنيسة وتقاليدها ولا سيما في تزكية معظم المؤمنين لهم. كما كان يُحذِّر شعبه من النطق بأي قَسَم، ومن أن يميل أحدٌ بقلبه إلى أية كلماتٍ شريرة أو أن يُقدِّم اعتذارات عن خطاياه. وبخصوص المتخاصمين كان مُدقِّقاً في عدم اقتراب أحد منهم إلى المذبح قبل أن يصطلح مع أخيه بحسب وصية الرب في (مت 18: 15-17)، وإلاَّ فليكن كالوثني والعشار، إلى غير ذلك من الوصايا. كما أن بوسيديوس قال عنه: ”لكي يواجه رداءة الطبيعة البشرية حفر على مائدة الطعام المشتركة الجملة الآتية: "الذي يُشوِّه سُمعة أحد غائب، ينبغي ألاَّ يُشارك في هذه المائدة". وقد نَسِيَ مرةً أحد ضيوفه هذا التحذير فوبَّخه القديس بشدة موضِّحاً له أنه، إما أن تُمسَح تلك الجملة من على المائدة، أو أنه هو نفسه يغادرهم في منتصف وجبة الطعام إلى حجرته“.كما أنه منع بتاتاً سُكنى أية امرأةٍ في مقرِّه ولا حتى أخته الأرملة، رغم أنها كانت خادمة ورائدة لبيت العذارى حتى وفاتها. كذلك رفض أن تعيش معه بنات أخيه الخادمات التقيات، وكان يُبرِّر ذلك بأنه حتى لو لم تحدث خطايا أو شُبهات، فلم يكن ممكناً وجودهن بدون خدم ونساء أُخريات معهن مما يترتب عليه مجيء آخرين لزيارتهن مما قد يُسبِّب عثرة للضعفاء، كما قد يتضرَّر الخدَّام الذين يعيشون مع الأسقف بالشبهات المخجلة التي يُعابُ بها الرجال؛ بل إن القديس لم يكن يتكلَّم مع نساء إطلاقاً إلاَّ بحضور بعض الإكليروس. ولم يكن القديس يزور إلاَّ الأرامل والأيتام الذين في شدة أو المرضى الذين يطلبونه شخصياً ليُصلِّي عليهم. كما أنه لم يكن يتدخل في أمور المؤمنين الشخصية، فهو لم يبحث إطلاقاً عن زوجة لرجل، لأنه إذا اختلف الزوجان مع بعضهما فربما يلومانه هو. كذلك لم يُشجِّع أحداً على الالتحاق بالخدمة العسكرية أو الذهاب إلى الحرب لئلا يلومه إذا أصابه ضرر، كما أنه لم يحضر وليمة عائلية خاصة حفظاً لتعفُّفه في الطعام، من ناحيةٍ؛ وحتى لا يُضايقهم بوضع قيودٍ على عاداتهم في ولائمهم، من الناحية الأخرى. وكان القديس مثالاً في الاتضاع، فقد قيل عنه إنه في إحدى رسائله للعلاَّمة جيروم قال له: ”أتوسل إليك مراراً وتكراراً أن تُصحِّح لي أي خطأ بلا تردُّد عندما تراني محتاجاً إلى ذلك“، لأنه رغم أن رتبة الأسقف أعلى من رتبة الكاهن، إلاَّ أن القديس أوغسطينوس أدنى من جيروم في أمورٍ كثيرة! معونة الله للقديس في مواجهته للدوناتيين: بالرغم من انشغال رجل الله بالوعظ والتعليم بكل غيرة، فقد كان يدرس تعاليم الهراطقة بتأنٍّ ومثابرة لأجل خلاص الجميع مما أدَّى إلى ضعف موقف الهراطقة إزاء كلامه حتى إن الدوناتيين في غيظهم، شجبوا القديس وأعلنوا في عظاتهم أن الذئب يجب أن يُقتل دفاعاً عن رعيتهم!! وأنَّ مَن يفعل ذلك ستُغفر له جميع خطاياه!! ولكن العجيب أنهم عندما تواجهوا معه في مؤتمرات علنية لم يجرؤ أحد منهم على مناقشته!ولكي يُدعِّم الدوناتيون(4) أنفسهم في خططهم الإجرامية ضمُّوا إلى شيعتهم زُمرةً غريبة من رجال العصابات الإرهابية الذين كانوا مجهَّزين بالأسلحة ويقتلون مَن يعترضهم، وهم يُدعَوْن: Circumcellions(5)! وكان الدوناتيون يهاجمون كل مَن يقترح خطة للسلام. وعندما ينفضح خطأ تعاليمهم يعود الكثير من أتباعهم إلى الكنيسة أُمِّهم. فلما رأوا أن عددهم يَقلُّ، اضطهدوا أولاد الكنيسة وسلبوا ممتلكاتهم وعذَّبوا خدَّام الله حتى مات بعضهم تحت التعذيب، مما جعل الدوناتيين مُبغَضين حتى من أتباعهم! (يتبع)
|
|||
(*) المراجع: سيرة القديس أوغسطينوس بقلم ”بوسيديوس“ في: 1. The Fathers of the Church, Vol. 15, p. 69. 2. Butler's lives, 28 th of August. 3. History of the Christian Church, Ph. Schaff, Vol. III, p. 988. (1) توجد آثارها بجوار مدينة ”يونا“ الحالية في الجزائر بالقرب من البحر المتوسط. (2) كان ماني فيلسوفاً وفَلَكياً فارسياً في القرن الثالث، وبدأ ينشر تعاليمه عام 240م مدَّعياً أنها مبنية على رؤية إلهية، وكان هو وأتباعه ”المانويون“ يصرُّون على أن تكون لديهم براهين عقلية على جميع معتقداتهم. وكانوا يعلِّمون بثنائية كونية cosmic dualism للخير والشر أو النور والظلمة، وادَّعوا أن هذين المبدأين المضادَّين لبعضهما هما في صراع دائم في هذا الكون، ولهم نظرية مترتبة على ذلك تقول إن كل إنسان بداخله نفسان ومشيئتان في حالة صراع لا يكفُّ لكي يسود أيٌّ منهما على الآخر. وهذا يدل على أنهم كانوا متأثرين بالفلسفة الأفلاطونية الجديدة. وكان القديس أوغسطينوس قد تبع تلك البدعة لمدة تسع سنوات (373-382م)، ولعل الرب سمح بذلك لكي يكون هو من أعظم المقاومين لها بعد أن عَلِمَ بتفاصيلها وخباياها، وذلك بعد أن اهتدى إلى الحق وصار مسئولاً في الكنيسة. وقد كتب عدة مقالات ضد بدعتهم هذه التي نُشرت في: NPNF, 1st Series, Vol. 4. (3) لأن النفوس أهم من ممتلكات الكنيسة. (4) هم جماعة انشقت عن الكنيسة في شمال أفريقيا لأنهم رفضوا أسقف قرطاجنة بحجة أن الذي رسمه كان أحد الذين سلَّموا كتبهم المقدسة في اضطهاد دقلديانوس، وأقاموا ”دوناتوس“ - الذي سُميت الجماعة باسمه - أسقفاً مناوئاً له. ثم زادت شوكتهم لأنهم ادَّعوا أنهم يتبعون القديس كبريانوس لاهوتياً. وكانوا ينادون ببطلان الأسرار التي يُجريها الذين سلَّموا كتبهم المقدسة في الاضطهاد، وأنهم هم الكنيسة الحقيقية. وقد دافع القديس أوغسطينوس عن ذلك بأن عدم استحقاق خادم الأسرار لا يؤثِّر على شرعيتها، حيث إن خادمها الحقيقي هو المسيح. وقد فضح انضمامهم إلى العصابات الإجرامية، فضعفت شوكتهم. وقد انحدرت إلينا كتابات القديس الهامة ضدهم التي نُشرت في: NPNF, 1st Series, Vol. 4. انظر: The Oxford Dictionary of the Christian Church, p. 419. (5) هم عصابات شرسة من الفلاحين كانوا ينهبون الناس، وقد برزت طائفتهم في شمال أفريقيا في القرن الرابع. وهذا الاسم اللاتيني دعاهم به الناس، لأنهم كانوا في هجومهم يطوِّقون مساكنهم لكي ينهبوا ممتلكاتهم. ولما ارتبط بهم الدوناتيون كانوا يستعملون العنف الشديد بالنيابة عنهم بحجة الدفاع عن عقيدتهم. وقد استمرت تلك العصابات حتى القرن الخامس (المرجع السابق صفحة 294).
|