تُسجِّل رسالة غلاطية الرد الحاسم القوي على بعض الكنائس الجديدة التي خضعت لنفوذ بعض المسيحيين من أصل يهودي، كانوا يُبشِّرون في هذه الكنائس "بإنجيل آخر" (غلاطية 1: 6-10، وسنرمز لهذه الرسالة بالحرفين "غل"). إن ما قام به هؤلاء المسيحيون من أصل يهودي تكرر كثيراً في تاريخ الكنيسة، حيث ينمو البعض - تحت ضعف التأثـُّر بالروح القدس ونسيان التعليم المسيحي الصحيح - نحو الظن بأن تنفيذ بنود الناموس القديم مثل الوصايا العشر يكفي للخلاص. - لقد كانت ردود القديس بولس نابعة من إيمانه الشديد بأن العصر الجديد لمعاملات الله مع البشرية قد أشرق، فقد أقام الله في ملء الزمان الجديد عهداً جديداً مع الشعب الجديد الذي يضمُّ معاً الأُمميين مع اليهود (غل 1: 4؛ 4: 4؛ 4: 24و28؛ 3: 17(1)) ، بعد أن كان اليهود يعتبرون أنفسهم هم وحدهم شعب الله المعزَّز المكرَّم الحامل وحده لوعود الله. - ومن هذا المنظور (الشعب الجديد الذي يضمُّ كل أجناس البشرية)، فإن إعادة وضع تلك الحدود التي تفصل وتميِّز بين اليهود والأُمميين، كانت أكبر إيذاء للعهد الجديد، وعودة إلى أيام العهد القديم بتقسيمها العنصري لخليقة الله (غل 2: 15-21)، وبالتالي فهي تُعتبر عودة إلى حلول لعنة الناموس على البشر الذين يفشلون في حفظ قوانين الناموس وفرائضه (غل 3: 10-14). وبهذا فإنه يترتب على ذلك: 1 - إلغاء كل ما عمله المسيح في تجسُّده وموته وقيامته بإلغاء لعنة الناموس (غل 4: 4؛ 2: 21؛ 5: 4؛ 3: 13و14). 2 - إلغاء حلول الروح القدس في النفس البشرية المعتَبَر أنه البديل للناموس الذي حُفِرَ على لوحي حجر اللذين يرمزان إلى قساوة قلب بني إسرائيل كمثل الحجر (غل 3: 1-5). 3 - وأخيراً، فهو يؤدِّي إلى الانطراح بعيداً عن وعد النعمة المتحقِّق والآتي من الله، كما ورد في إنجيل يوحنا 1: 17: "لأن الناموس بموسى أُعطِيَ، أما النعمة والحق فبيسوع المسيح صارا"، (غل 5: 4 - "والذين منكم يطلبون أن يتبرَّروا بالشريعة يقطعون كل صلة لهم بالمسيح ويسقطون من النعمة" حسب الترجمة الجديدة). وباختصار، فإن العودة إلى الاتكال على الناموس كوسيط بين الله والناس، هو خطأ فادح في حق تجسُّد ابن الله وعمله الفدائي للبشرية، وإرساله الروح القدس ليسكن في قلوبهم اللحمية ليكون هو الناموس الجديد، ناموس المسيح. حقيقة الفرائض الناموسية في ضوء نعمة المسيح: وعلى هذا الأساس، كانت مناقشة القديس بولس للناموس تأخذ اتجاهين: + الاتجاه الأول: إن "أعمال الناموس" لا تجعل الإنسان باراً أمام الله، فإن العلامات الظاهرة في الجسد، مثل فريضة الختان، أو مراعاة حفظ السبت، أو الاحتراس من تناول الأطعمة المُحرَّمة، وهذه يسميها القديس بولس:"أعمال الناموس"؛ هذه الأعمال الظاهرة أمام الناس لا يمكن أن تجعل الإنسان باراً أمام الله. والسبب في هذا مزدوج: فأولاً: لقد ثبت أنه لا أحد بقادر أن يحفظ كل بنود الشريعة حتى يُحسب "باراً" أمام الله. وحتى هؤلاء المعلِّمون أنفسهم يشرحون ذلك بعدم قدرتهم على فعل "الناموس" (غل 6: 13). وهؤلاء المسيحيون الغلاطيون الذين انساقوا وراء هؤلاء المعلِّمين، سوف يكتشفون ذلك إن هم حاولوا أن يحملوا هذا "النير" (غل 5: 3)، والذي أعلن الرسل مجتمعين في أورشليم على فم القديس بطرس الرسول بقوله عن هذا النير: "لم يستطع آباؤنا ولا نحن أن نحمله" (أع 15: 10). وخبرات شعب إسرائيل في العهد القديم مع لعنة الناموس بسبب عدم طاعتهم تثبت أن هذا القول بعدم استطاعة أحد حمل هذا "النير" هو صحيح (غل 3: 10-12، كولوسي 2: 14). والسبب الثاني في أنه من المستحيل حفظ بنود الناموس، هو أن القديس بولس يذكر ما يراه في هذه القضية الهامة في رسالة غلاطية 2: 16 حينما يقول: "لأنه بأعمال الناموس لا يتبرر جسد ما" (ويقصد بكلمة "جسد" ليس فقط الجانب المادي من الإنسان مثل فريضة الختان التي تُعمل في الجسد، والتي كان المناوئون يريدون أن الغلاطيين يمارسونها؛ بل إن كلمة "جسد" تعني أيضاً الضعف البشري الذي يَحُول بين الإنسان وبين تنفيذ كل بنود الناموس، كما في تكوين 6: 3و12، ونبوَّة إرميا 17: 5، ونبوَّة إشعياء 40: 6). وهذه الكلمة: "الجسد" هي التعبير المختصر لدى القديس بولس عن انعدام المناعة ضد الخطية لدى الإنسان غير المبرَّر بنعمة الله وغير المنقاد ولا السالك بالروح القدس (غل 5: 19و24؛ 6: 8). ولكن لكي نرفع "أعمال الناموس" هذه إلى مستوى الحياة في توافق مع عهد الشركة مع الله الذي عقده الله مع البشرية الجديدة بتجسُّد ابنه يسوع المسيح، كما يقول القديس بولس، فهو بأن نعترف بالحقيقة المُرَّة والحلوة معاً، بأن نعترف بأن هذه الشركة مع الله أبعد ما تكون عن أي إنسان - سواء كان يهودياً أو أُممياً سيَّان - لأن الميل البشري لعصيان الله يمنع أي جسد من طاعة الناموس تماماً (غل 2: 16، وهو متوافق مع ما قرره الله منذ بدء الخليقة بعد عصيان آدم: "كل تصوُّر أفكار قلبه، إنما هو شرير كل يوم" - تك 6: 5)؛ أما الجانب الحلو من هذه الحقيقة فهو أن الناموس بكل لعناته على البشر بسبب عصيانهم بنود الناموس قد أُلغي بقوة الناموس الجديد الذي أتاه المسيح، وجعله ممكناً تنفيذه بالروح القدس الذي أرسله الله ليسكن في كل بشر. وهذا ما سنوضِّحه بعد قليل. + أما الاتجاه الثاني فهو أن "أعمال الناموس" لا يمكن أن تضع الإنسان داخل شركة العهد الأبدي مع الله، وذلك لأن العهد الذي كانت "أعمال الناموس" جزءاً لا يتجزأ منه وشرطاً أساسياً لقيام هذا العهد، كان عهداً مؤقتاً. ويُظهر القديس بولس هذه المضادة بين عهد الله القائم على "أعمال الناموس" أنه "مؤقت"؛ وبين الوعد والعهد الذي قطعه الله قبل ذلك مع إبراهيم والقائم على "الإيمان" وأنه وعد وعهد أبدي، هذا العهد الإبراهيمي هو الذي تحقَّق في شخص المسيح (غل 3: 15-18). ولماذا كان العهد القائم على "أعمال الناموس" مؤقتاً؟ ذلك لأنه أُعطِيَ "من أجل التعدِّيات"، أي بسبب تعدِّيات بني البشر المتكررة على مشيئة الله. والقديس بولس يذكر هذا السبب أن الله أعطى الناموس عند جبل سيناء لكي يُعلن بوضوح خطايا إسرائيل، بعد أن كانت غير محدَّدة وغير واضحة أنها "تعدِّيات" و"خطايا" ضد مشيئة الله. حتى أنه في نفس اللحظة التي كان الله يُعطي فيها الناموس لموسى فوق أعلى الجبل، كان شعب إسرائيل عند سفح الجبل يكسرون أول وصية في الناموس وهي وصية عبادة الله وحده والحذر من عبادة الأصنام، حيث كانوا يعبدون "العجل الذهبي" (خر 32: 7و8)! فالسبب الذي من أجله أُعطِيَ الناموس كان إظهار الخطايا أنها خطايا! لذلك فكان الناموس موقوتاً بحالة الخطية التي في شعب إسرائيل. الناموس كان "المؤدِّب" الذي يقود إلى المسيح: ثم إن القديس بولس كان واضحاً حينما وصف عهد سيناء بأنه كان "مؤدِّبنا إلى المسيح". و"المؤدِّب" في العالم القديم كان هو العبد في الأسرة الرومانية أو اليونانية، الذي يخدم في الأسرة كحارس ومحافظ على النظام والمعلِّم للأطفال إلى أن يبلغوا إلى نضج الرجولة (غل 3: 23-25). والأطفال الذين كانوا تحت مسئولية هذا "المؤدِّب" حينما يكبرون، يتذكَّرون شخصية هذا المؤدِّب وما يتَّصف به من شخصية خشنة والعصا في يده مستعداً لأن يُعاقب الطفل على أي عصيان أو خروج على النظام. وكما تشير آية رسالة غلاطية 3: 23: "ولكن قبلما جاء الإيمان، كنا محروسين تحت الناموس، مُغلقاً علينا إلى (أن يأتي) الإيمان العتيد أن يُعلَن"، فإن غرض القديس بولس من المقارنة بين عهد الناموس وبين "المؤدِّب" له معنيان: 1 - أولاً، فهو يؤكِّد هدف الناموس (مثل المؤدِّب) أن يُعرِّف الإنسان بالخطية ويُعاقِب عليها؛ 2 - وثانياً وفي نفس الوقت، يؤكِّد على الطبيعة المؤقتة لرسالة الناموس. وفي الأصحاح الرابع من رسالة غلاطية، الآيات الخمس الأولى، يستخدم القديس بولس مجموعة من التشبيهات ليُثبت أن الذين يريدون أن يعيشوا تحت نير ناموس موسى هم كمَن يُحرِّكون عقارب الساعة إلى الوراء، إلى الزمن الذي كان فيه اليهود والأمم معاً مستعبدَيْن كليهما للخطية، والمفهوم المشترك لهذه التشبيهات هو كلمة "العبودية". وفي التشبيه الأول "أركان هذا العالم" ومَثَل الوارث القاصر، يُقارِن القديس بولس الوضع السابق للمسيحيين قبل إيمانهم بالمسيح أنهم كانوا يعيشون تحت "أركان هذا العالم" (والأركان هي جمع كلمة "أركون"، وهي العناصر المادية التي يتكوَّن منها الكون المادي، حسب معتقدات العلماء القدامى)، أي أنهم كانوا مستعبدين للحياة المادية الجسدية، وهذه إشارة إلى ممارساتهم الوثنية السابقة. ويُشبِّه بولس الرسول أيضاً حياتهم تحت العبودية بحياة الوارث لثروة أبيه وهو ما زال بعد صغير السن، حيث لا يفترق هذا الوارث القاصر في نظر القانون عن "العبد" من حيث عدم قدرته على التمتُّع بميراث أبيه. وتطبيق ذلك على المسيحيين الغلاطيين الذين يقبلون ويخضعون لعهد وناموس سيناء، وبهذا يكونون أبعد ما يكون عن عهد روح الخليقة الجديدة، إذ هم يعيشون في العهد الأسبق حيث تسود الخطية على حياتهم (غل 4: 1-11). وفي التشبيه الثاني، يُقارِن القديس بولس الحياة تحت عهد وناموس سيناء بهاجر عبدة إبراهيم التي وَلَدَت له ابنه الأول "إسماعيل" (غل 4: 25). وبهذا يكون قبول عهد سيناء بمثابة ارتباط يُرجعنا بعيداً عن أورشليم الروحية الجديدة التي هي بمثابة الأُم الحُرَّة بعهدها الجديد، عهد الحرية من لعنة الناموس (غل 4: 24و26). وبهذا نعود إلى أورشليم "الحاضرة"، أورشليم الأرضية حيث تبقى اللعنة بقوة الناموس (غل 4: 25). وبهذا نكون - إذا قبلنا أن ندخل مرة أخرى تحت الناموس القديم ولعنته - قد قَبـِلْنا هاجر كأُم لنا، فنحيا في عبوديتها مع إسماعيل وأبنائها (غل 4: 25). ولكن كيف ننظر إلى الناموس القديم، ونحن في العهد الجديد؟ إن القضية المثارة هنا هي عدم قدرة البشرية على حفظ العهد الموسوي وضد شرعية استمرار العهد، لا تستنفد كل تعليم القديس بولس عن الناموس في رسالته إلى مسيحيي غلاطية. ففي آيات قليلة أخرى يُقدِّم القديس بولس الناموس من الوجهة الإيجابية. ففي رسالة غلاطية - أصحاح 5 عدد 14 - يذكر لتلاميذه هذا المبدأ أن "كل الناموس في كلمة واحدة يُكمَل: تحب قريبك كنفسك" (وهنا يُردِّد القديس بولس مبدأ ناموس العهد الجديد، وهو الناموس القديم المُكمَّل بالمسيح). ثم في أصحاح 6 عدد 2 يحث المؤمنين على أن يُتمِّموا "ناموس المسيح" حينما يحملون بعضهم أثقال بعض. هذه التصريحات تبيِّن إيجابية نظرة القديس بولس للناموس، فهو لا يُسفِّه أية وصية في الناموس أو ينعتها بأنها قد أُبطِلَت؛ بل هو يعني بكلمة "الناموس" لعناته على عصيان بنود الناموس، وكذلك تحديداته ضد دخول الأُمم إلى شعب الله. هذا هو الناموس الذي أُلغي وأُبطِل بناموس المسيح. إن كل جهاد القديس بولس الرسول كان ضد فرض الناموس القديم المؤقت الحامل للدينونة واللعنة، فرضه على عهد المصالحة الأبدية التي تمَّت بدم المسيح على الصليب ودينونة الخطية في جسده، وضد عزل الأُمم ووضع الحاجز بينهم وبين دخولهم إلى عهد الله مع البشرية (هذا الحاجز يُسمِّيه القديس بولس: "حاجز العداوة" في رسالة أفسس 2: 14-18). أما بنود ووصايا الناموس الموسوي القديم، فهي التي يجب أن يُنفِّذها المؤمنون وهم منقادون بـالروح، وبــالتالي يسلكون بــالروح القدس. فـالروح القدس في نفوس المؤمنين، الذي هــو نعمة بـرِّ المسيح على البشرية، هو ضمان تنفيذ ناموس الوصايا المُكمَّلة بالمحبة (غل 5: 22و23؛ 6: 2، أف 6: 2). (يتبع) (1) الترجمة الجديدة لهذه الآية أكثر وضوحاً من الترجمة القديمة: "... الشريعة التي جاءت بعد مرور أربعمئة وثلاثين سنة لا تقدر أن تنقض عهداً أثبته الله (وهو الوعد لإبراهيم)، فتجعل الوعد باطلاً". |