- في جسد المسيح الإفخارستي. - وفي الروح القدس والامتلاء منه. لقد أوضح الوحي الإلهي وشروحات آباء الكنيسة ما هو مضمون تدبير التجسُّد: إنه التنازل اللطيف من جانب الله إلى الوجود البشري، إلى الإنسان المريض. وفي عمل الفداء الذي أتمَّه المسيح على الصليب وفي القيامة، أكمل الرب - سرِّياً mystical - خلاص كل البشرية بالدواء اللطيف الذي هو "الصليب". هذا الخلاص هو البداية: ولكن هذا الخلاص كان هو البداية وليس النهاية. فنحن إذ قد خلصنا - سرِّياً - في المسيح على الصليب، لا زلنا نمتلك الإرادة الحُرَّة التي تعني أن خلاصنا لا يمكن أن يكون قسْراً وغصباً عنا. وليتذكَّر القارئ الصورة التي قدَّمها القديس غريغوريوس اللاهوتي عن "الغصن" (عدد نوفمبر 2003، ص 16) ليشرح طبيعة التجسُّد، و"الشفاء اللطيف" الذي أتى به المسيح لكي نتجدَّد لا قسْراً فنُكسر، بل لابد أن نقتنع ونقبل هذا الخلاص ونختار الإيمان بما تمَّ وكمل لنا فعلاً في جسد المسيح على الصليب. إذ كما قَبـِلَ الآب دم الكفَّارة الذي قدَّمه ابنه، هكذا الإنسان لابد أن يقبل عمل المسيح الكفَّاري وهبة الحياة الأبدية، أي الخلاص الثمين. إن البشرية - بمقتضى تدبير التجسُّد - قد صار لها الدعوة الدائمة المتجدِّدة للتحرُّك مرة أخرى نحو الله، سواء في اتجاهها الصحيح نحو الله أو في سرعة قبولها للدعوة للاتحاد بالله. والآن، وبالرغم من أننا نعيش في عالم جديد متجدِّد ومتغيِّر، وبالرغم من أن هذا التغيُّر يُحيط بنا بمظاهر الخليقة الساقطة، إلاَّ أنه - بعد الفداء وحلول الروح القدس - لم يَعُدْ أمامنا من عوائق تعيق تقدُّمنا وتوجُّهنا نحو الله في المسيح. إن اتحادنا بالله (المُعبَّر عنه بـ "الثيئوسيس") الذي كان المصير المُعدّ للبشرية الأولى في آدم، قد عاد الآن ليكون هو مصيرنا نحن الخليقة الجديدة. نمطان للشركة: في جسد المسيح، وفي الروح القدس: وقد رسم المسيح نفسه للبشرية كيف تتقدَّم نحو قبول عمل الفداء العظيم الذي أكمله، وكيف تنمو نحو مصيرها الأبدي المُستعاد عن طريقين: 1 - الشركة في جسد المسيح، من خلال سر الإفخارستيا؛ 2 - الشركة في الروح القدس، من خلال سرَّي المعمودية والمسحة المقدسة كبداية، ثم بالامتلاء المستمر والدائم من الروح إلى أن نبلغ إلى كل ملء الله. وفي هذا يشرح القديس كيرلس الكبير هذا النمو والتدرُّج هكذا: الوسيلتان نحو نوالنا الحياة الأبدية: [جسد الكلمة نفسه هو واهب الحياة، من حيث إن كلمة الله جعله جسده الخاص باتحاد حقيقي يفوق أفهامنا وقدرتنا على التعبير. وبنفس الطريقة، فإننا حينما نتقدَّم لنشترك في جسده ودمــه الأقدسين، فإننا نتسربل بـالحياة بالتمام والكمال، لأن الكلمة صـار يسكن فينا، سواء بطريقة إلهية من خلال الروح القدس، أو بطريقة بشرية من خلال الجسد الأقدس والدم الثمين.]( ) هذا التحوُّل إلى الخليقة الجديدة لا يجب أن نظن أنه يتم آلياً (بمجرد ممارسة التناول من الجسد المقدس والدم الكريم). فالشركة في الروح القدس - يؤكِّد القديس كيرلس الكبير - أمر مطلوب جنباً إلى جنب مع الشركة في الجسد الإفخارستي للمسيح: [لذلك، فالابن لا يُغيِّر أقل شيء في المخلوقات إلى طبيعة لاهوته الخاص (لأن هذا مستحيل). ولكنه يطبع بطريقة ما في أولئك الذين صاروا شركاء الطبيعة الإلهية، يطبع شبهاً روحياً له من خلال الشركة في الروح القدس. وإن جمال اللاهوت هذا الذي لا يوصَف، يُنير نفوس القديسين.]( ) + لذلك، فمن خلال الشركة في الاثنين: الشركة في الروح القدس، والشركة في جسد المسيح؛ يرتفع المسيحيون إلى مستوى جديد من الوجود. ولو لم يكن كلمة الله قد ألَّه فعلاً بالطبيعة الجسد الذي أخذه عند التجسُّد، ما كان في مقدور المسيحيين أن ينالوا نعمة "التأليه" (أي نوال جمال اللاهوت الذي ذكره القديس كيرلس الكبير) بواسطة تبنِّي الله لهم، وما كان في مقدورهم أن يكونوا "شركاء الطبيعة الإلهية" كما وصفها القديس بطرس الرسول (2بط 1: 4). وسنتأمل في هذا المقال النمط الأول: شركتنا في جسد المسيح بالإفخارستيا. لئلا يظن أحد أن شركتنا في جسد المسيح هي عمل من جانب البشر، فلابد أن نعرف أن شركتنا في جسد المسيح هي نابعة أساساً من إخلاء المسيح ذاته كما ورد في رسالة فيليبـي 2: 7: "أخلى نفسه آخذاً صورة عبد"، وهو ما شرحه القديس يوحنا في بدء إنجيله: "والكلمة صار جسداً وحلَّ فينا" (يو 1: 14). فتجسُّد المسيح للطبيعة البشرية هو الذي أدخل البشرية - سرِّياً mystically - في جسد المسيح، كما يشرح ذلك القديس كيرلس الكبير: [لكن لأجل منفعتنا يؤكِّد القديس يوحنا (في يو 1: 14) أن "الكلمة حلَّ فينا"، وهكذا أماط لنا اللثام عن هذا السر العميق أيضاً، وهو: إننا كلنا كنا في المسيح، وعموم البشرية صعدت إلى شخصه. ولذلك لُقِّب بأنه "آدم الأخير" الذي أغنى عموم الطبيعة البشرية بكل ما هو للفرح والمجد، بينما آدم الأول أفقر طبيعتنا بالفساد والكآبة. إذن، الكلمة حلَّ في الكل من خلال واحد، إذ أُعلِن هذا الواحد ابن الله بالقوة بحسب روح القداسة، حتى تعمَّ الكرامة على كل الطبيعة البشرية بسبب واحد منا... لذلك، ففي المسيح انحلَّ القيد، وتسامى إلى اتحادٍ سرِّي معه (مع المسيح)، هذا الذي حمل شكل العبد؛ بينما جُعلنا على مثال الواحد بسبب علاقة الجسد. أليس واضحاً للكل أنـه نزل إلى حالة العبودية ليس كاضطرار على نفسه، بل لكي يسكب نفسه علينا، حتى نصير أغنياء من خلال فقره، ونرتفع من خلال التمثـُّل به في صلاحه الخاص، فنصير آلهةً وأبناءً من خلال الإيمان؟]( ) هذه الشركة السرِّية التي تمَّت في التجسُّد تتحقَّق لنا في سرِّ الإفخارستيا: ومن تصريح القديس بولس الرسول في (أفسس 2: 14-16) نعرف ونؤمن "أنه هو سلامنا الذي جعل الاثنين واحداً ونقض حائط السياج المتوسط، أي العداوة، مُبطلاً بجسده ناموس الوصايا في فرائض لكي يخلق الاثنين في نفسه إنساناً واحداً جديداً، صانعاً سلاماً، ويُصالح الاثنين في جسد واحد مع الله بالصليب، قاتلاً العداوة به (بالصليب)". هذا هو الجسد الواحد الذي جعله الله واسطة الاتحاد به لنوال الفداء بالصليب. وهذا النص يشير إلى الوحدة الإفخارستية للكنيسة أيضاً. فأساس هذه الوحدة السرِّية هو ما تمَّ على الصليب، إذ جمَّع البشرية بمختلف اتجاهاتهـا (اليهود والأمم) في نفسـه. أمـا تحقيقها على المستوى الـزمني فيتم بـالإفخارستيا. فالذيــن يشتركون فيها يتحدون بالمسيح، وكل واحد مع الآخر بالمسيح "الذي هو رباط الوحدة لكونه في ذات الوقت الله والإنسان". ويُعلِّمنا القديس كيرلس الكبير أن المؤمنين كلهم يصيرون: "معاً في نفس الجسد، ومعاً مع المسيح"، وأن المسيح "هو فينا من خلال جسده". ويستخدم القديس كيرلس اللفظ اليوناني sussèmoi، ويعني "معاً في نفس الجسد" ليشرح به الاتحاد الجسدي بين المسيح وكنيسته النابع من الإفخارستيا: [لأنه بجسد واحد، أي جسده، يُبارِك من خلال سر الإفخارستيا الذين يؤمنون به، فيجعلنا "واحداً في نفس الجسد"، معه وكل واحد مع الآخر... لأنه حين نشترك كلنا في الخبزة الواحدة، نصير كلنا جسداً واحداً، لأن المسيح لا يُصيبه التمزُّق. لذلك، تصير الكنيسة جسد المسيح، ونحن نصير - فردياً - أعضاءه، كما ورد في حكمة القديس بولس؛ لأننا بسبب أننا نتحد بالمسيح من خلال جسده المقدس، فطالما نحن نتناوله في أجسادنا وهو الواحد غير القابل للانقسام، فإننا نؤدِّي خدمة أعضائنا له وليس لأنفسنا. وبينما المخلِّص مُعتَبَر أنه الرأس، فالكنيسة تُدعى باقي الجسد، والتي تلتئم معاً من الأعضاء المسيحيين.]( ) تناولنا من الإفخارستيا يجعلنا جسد المسيح: هذا المبدأ: "حين نشترك كلنا في الخبزة الواحدة، نصير كلنا جسداً واحداً. لذلك تصير الكنيسة جسد المسيح"، هو الذي يتحوَّل إلى طلبة وصلاة في القداس: [اجعلنا مستحقين كلنا يا سيدنا أن نتناول من قدساتك طهارة لأنفسنا وأجسادنا وأرواحنا، لكي نكون جسداً واحداً وروحاً واحداً، ونجد نصيباً وميراثاً مع جميع القديسين الذين أرضوك منذ البدء]. ويُلاحظ المصلِّي في الكنيسة أن الكاهن يبدأ فوراً بالصلاة من أجل "سلامة كنيستك الواحدة الوحيدة"( ). وهذه الطلبة تعني أن الشركة في الجسد الإفخارستي للمسيح هي التي تُكوِّن الكنيسة جسد المسيح. فالكنيسة في المفهوم اللاهوتي والواقع المسيحي ليست مؤسسة بشرية قائمة بذاتها، إلاَّ بانعقادها والتئامها حول جسد المسيح والتناول منه، حينئذ يُستعلن جسد المسيح السرِّي (نسبة إلى أساس تكوُّنها وهو سرُّ الإفخارستيا). إن سبب الاتحاد بين المسيح، الذي هو آدم الثاني، وبين الكنيسة الحاضرة؛ هو بوضوح سر الإفخارستيا. وكذلك العلاقة بين الكنيسة جسد المسيح ورأسها المسيح (حسب الوصف في رسالة أفسس 4: 15-16: "الرأس المسيح الذي منه كل الجسد")، هي علاقة إفخارستية، وليست مجرد علاقة روحية رمزية. فالذين يشتركون في جسد المسيح يبلغون الاتحاد الجسدي بالمسيح (نسبة إلى جسد المسيح الذي يتناولونه - كما سنشرح بالتفصيل في مقال قادم - والذي منه تأتي كلمات القديس بولس الرسول: "لأننا أعضاء جسمه، من لحمه ومن عظامه" أف 5: 30). ويشرح القديس كيرلس الكبير الاتحاد بالمسيح بأنه غير ممكن الاستغناء عنه، لأن جسد المسيح هو جسد ابن الله، وهو بهذا يحوي قوة ابن الله الذي يُعطي الحياة لكل مَن يتناول منه. إنه ليس جسد إنسان بشري عادي، وإلاَّ لَمَا أمكن له أن يصنع الاتحاد مع المسيح ولا أن يجعلنا متحدين بعضنا مع البعض. وهذا يرجع طبعاً إلى الاتحاد الأقنومي الفائق بين ابن الله والجسد الذي أخذه من العذراء القديسة مريم. الشركة في الجسد والشركة في الروح متلازمان ولازمان: ونعود مرة أخرى لكي نتذكَّر ونؤكِّد على أنه بالإضافة إلى الاتحاد الجسدي في المسيح، هناك الاتحاد الروحي في الروح القدس. فصلاة المسيح الشفاعية ليلة الخميس الكبير هي صلاة من أجل عطية الروح القدس: [... ونعود لنقول مرة أخرى: إننا جميعاً إذ ننال نفس الروح الواحد، وأعني الروح القدس، فإننا نكون بنوع ما قد امتزجنا معاً الواحد مع الآخر، وأيضاً مع الله. لأنه بالرغم من كوننا كثيرين، فإن المسيح وروحه الخاص يسكنان في كل واحد فينا على انفراد، ويظل الروح واحداً غير قابل للانقسام، ليربط معاً أرواح الأفراد المنفصلة، كل واحد على حدة وكلنا معاً. ولأننا لنا كيانات منفصلة، فالروح القدس هو الذي يربط الفرديات الطبيعية فيه بالوحدة، جاعلاً الكل أن يظهروا واحداً من خلال نفسه. لأنه كما أن قوة الجسد تجعل الذين فيهم هذه القوة واحداً وفي نفس الجسد، هكذا أيضاً روح الله غير المنقسم يسكن في الكل، ويربط الكل في وحدة.]( ) هذا المفهوم يستمد قوته من كلمات القديس بولس الرسول: "جسد واحد، وروح واحد، كما دُعيتم أيضاً في رجاء دعوتكم الواحد" (أف 4: 4). فهناك وحدة في الجسد، وهناك أيضاً وحدة في الروح، وهما مرتبطان ارتباطاً وثيقاً. كما أوضح القديس بولس أنه لا يمكن لأحد أن يكون في المسيح إلاَّ بالروح القدس. وفي رؤية الآباء القديسين، حيث تكون هناك وحدة روحية، فهناك الوحدة الجسدية والعكس بالعكس. والقديس كيرلس يُصوِّر هذا جيداً في ختام تعليقاته على صلاة المسيح الكهنوتية في إنجيل يوحنا 17 (العددين 20 و21): [لذلك، فكلنا واحد في الآب والابن والروح القدس؛ "واحد" بحسب وضع محدد للذهن والجسد، وأيضاً بالتماثل مع حياة البر، وفي شركة الجسد المقدس للمسيح، وفي شركة الروح القدس، الذي هو واحد، كما سبق وقلنا.]( ) وضمن الطلبة التي طلبها المسيح من الآب من أجل البشرية قال للآب: "وأنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني ليكونوا واحداً،كما أننا نحن واحد ("كما أنك أنت وأنا واحد")" (يو 17: 22)، وهذا المجد هو المجد الذي أخذه المسيح من الآب وعاد وأعطاه لتلاميذه، هذا المجد يعتبره القديس كيرلس الكبير أنه يُعطَى للمؤمنين من خلال الإفخارستيا وسُكنى الروح القدس: [إذن، لقد صرنا كاملين في الوحدة مع الله الآب بتوسُّط المسيح، لأننا بنوالنا إيـَّاه (أي المسيح) في أنفسنا بالمعنى الجسدي، وكذلك بالمعنى الروحي، الذي هو الابن بالطبيعة، والذي هو في اتحاد جوهري مع الآب؛ فإننا نكون قد تمجَّدنا وصرنا شركاء في الطبيعة الإلهية التي للعليِّ.]( ) كل هذا المجد بسبب ذبيحة المسيح: إن كل هذا المجد الذي نناله في المسيح، هو بسبب الذبيحة التي لم يكن البشر قادرين على تقديمها لأنها ملوَّثة بخطاياهم، لكن المسيح قدَّمها في نفسه قرباناً طاهراً للآب، وهو هنا يُعطي الروح القدس لتلاميذه الذين اتحدوا في وحدة روحية بعطية الروح. فأولئك الذين اتحدوا في هذه الوحدة الروحية يُشاركون في ثمار ذبيحة المسيح، لأنهم اتحدوا جسدياً بالمسيح، آدم الثاني، واتحدوا مع بعضهم البعض في الإفخارستيا. وهكذا فإن رئاسة آدم الثاني هي دائماً مرتبطة بالجسد الذي صار إليه المؤمنون بسبب الإفخارستيا. (يتبع) |