من تاريخ كنيستنا
- 183 -


الكنيسة القبطية في القرن العشرين
البابا كيرلس الخامس
البطريرك الثاني عشر بعد المائـة
في عداد بطاركة الكرسي الإسكندري
(1874 - 1927م)
- 14 -


«وأبواب الجحيم لن تقوى عليها»
(مت 16: 18)

استكمالاً لما كتبناه في (عدد يناير 2021 ):
الإيغومانس فيلوثاؤس إبراهيم
رئيس الكنيسة المرقسية الكبرى (1847-1904م)(1)


شخصية قوية، يجاهر بالحق بلا تردد أو وَجَل، عالمٌ متمكن جدًّا من علوم الكنيسة، يُجيد الحديث بلغة عربية صحيحة وثرية، مع مقدرة هائلة على الإقناع. استخدم كل مواهبه النادرة في خدمة المسيح والمجتمع والدفاع عن معتقدات الكنيسة القبطية، في وقت تعرَّض فيه المجتمع القبطي لحروب عظيمة من الإرساليات الأجنبية التي كان المستعمر يساندها لتؤيِّده في محاربة الكنيسة والوطن. وُلِدَ بطنطا في عام 1837م؛ وتعلَّم بالكُتَّاب، ثم عمل في محل تجاري. وعلَّم نفسه اللغة العربية التي أجادها وكذلك اللغة الإيطالية، فصار مرجعًا فيهما مما أهَّله للعمل بالحكومة. ثم التقى بالبابا كيرلس الرابع فأُعجِب بثقافته ونصحه بدخول مدارس الأقباط لتعلُّم اللغة القبطية والدين. فلما تخرَّج عيَّنه البابا ناظرًا للمدرسة التي أنشأها بالمنصورة.

ثم اختاره الشعب للكهنوت فقام الأنبا يوأنس مطران المنوفية باستدعائه للقاهرة بحجة مراجعة كتاب ووضع يده عليه، ثم تمَّت رسامته، كاهنًا على طنطا وسط فرح شعبي. ولمَّا رُسِمَ البابا ديمتريوس الثاني قرَّر الاحتفاظ به للعمل معه، لكن شعب طنطا ألحَّ في طلب كاهنهم فقَبِل البابا. اشتهر القس فيلوثاؤس بالمقدرة على الخطابة والوعظ، فكان يأسر سامعيه، كما كان متمكنًا من المعرفة اللاهوتية فكان يشرح الإيمان الأرثوذكسي بوضوح وإقناع. وحين قام بزيارة الأراضي المقدَّسة، ذهب لبيروت ودمشق حيث قام بالوعظ والتعليم، فحقَّق شهرة كبيرة.

وكان البابا ديمتريوس يستدعيه للتعليم، ورافقه في رحلته الرعوية للصعيد، فكان لتعليمه أثر قوي جدًّا في النفوس. وبعد نياحة البابا ديمتريوس استدعى أراخنة الشعب القس فيلوثاؤس، حيث قرروا تعينه مشرفًا على المدارس القبطية وخادمًا للكنيسة المرقسية الكبرى بالأزبكية، الأمر الذي تمَّ التصديق عليه بعد اعتلاء البابا كيرلس الخامس السدة المرقسية. فصار المرجع العلمي للكنيسة القبطية في تلك الفترة. ومثالًا لذلك:

حسب الفرمان الصادر من الباب العالي عام 1856، المعروف بالخط الهمايوني، لتنظيم الأحوال الملِّية، لجميع الطوائف من غير المسلمين، في كل الإمبراطورية العثمانية، كان على كل طائفة أن تقوم بعمل مجلس ملي يكون مسئولًا عن الشئون الدينية، من النواحي الإدارية والمالية، وتنظيم القوانين الخاصة ببناء دور العبادة والأحوال الشخصية. وعند زيارة السلطان عبد العزيز لمصر أيام البابا ديمتريوس الثاني، نبَّه للإسراع بتشكيل المجلس الملي للأقباط الأرثوذكس وباقي الطوائف. إلَّا أن البابا الأنبا ديمتريوس قد وافته المنية قبل تشكيل المجلس، فقام الأنبا مرقس القائم مقام بتشكيل المجلس الملي للأقباط في فبراير عام 1874. وقام بتكليف الإيغومانوس فيلوثاؤس إبراهيم بوضع لائحة المجلس حيث صدَّق عليها، ثم قُدِّمت لرئيس الوزراء إسماعيل باشا صدقي، الذي رفعها إلى الخديوي إسماعيل، فصدَّق عليها طبقًا لقانون الخط الهمايوني. وبذلك أخذ المجلس الملي شكله القانوني ضمن مؤسسات الدولة.

وبعد أن اعتلى قداسة البابا كيرلس الخامس السدة المرقسية في عام 1876، كان مطلوبًا منه أن يستكمل المطالب الملية حسب قرار الباب العالي، بوضع قانون خاص بالأحوال الشخصية، حسب معتقد الكنيسة القبطية. حينئذ كلَّف قداسة البابا الإيغومانس فيلوثاؤس بذلك العمل، فقام بإعداد القانون المطلوب من واقع القانون الكنسي المعمول به في الكنيسة القبطية، حسب المطالب التي حدَّدتها نظارة الحقانية (أي وزارة العدل). وتم التصديق عليه من البابا وتقديمه للحكومة ليأخذ مكانه ضمن قوانين الدولة.

ثم قام الإيغومانس فيلوثاؤس بتأليف كتاب ”الخلاصة القانونية في الأحوال الشخصية للأقباط الأرثوذكس“ الصادر عام 1896، الذي يعتبر مرجعًا هامًّا. والجدير بالذكر إن مقدمة الكتاب تُعتبر وثيقة تاريخية تسجِّل الملابسات التي أدَّت لوضع قوانين الأحوال الشخصية للأقباط، وجاء بها:

[كما طُلِب مثل ذلك من باقي الطوائف المسيحية وغيرها الخاضعة للحكومة السنية المصرية وقد صدر لي حينذاك الأمر البطريركي بتحرير الفصول التي تلزم لهذه المسائل بالمطابقة لقوانين كنيستنا، فلبَّيتُ الأمر، وحررت من ذلك تسعة فصول، تشتمل على مائة مسألة واثنين. وبما أن بعض الإخوة أبناء الكنيسة محبي الفائدة رغبوا الآن طبع هذه المسائل ونشرها على أبناء الكرازة المرقسية، ولكون الفصول التي حررتها عن هذه المسائل إنما حُرِّرت طبقًا لطلب نظارة الحقانية أعني باعتبار ما سُئلْتُ عنه فقط ... فكتبت عن ذلك فقط، ولم يَصِر التعرُّض للكثير من أمر الخطوبة والمهر والإملاك ... رأيت بعد الاعتماد على نعمة المرشد الحكيم أن أستوفي ذلك في هذا الكتاب بالتطبيق لما حُدِّد في القوانين المعتبرة بكنيستنا وتصرفاتها المرعية ... وبعد العرض على غبطة السيد البطريرك الكلي الاحترام قد صار تقديمه للطبع لنشره على كهنة وأبناء الكرازة المرقسية بالقطر المصري].

إن ذلك الكتاب هو الأساس للائحة 1938 التي صاغها المجلس الملي بعد ذلك في شكلها القانوني، وكان بين أعضائه حبيب باشا المصري والأرشيدياكون حبيب جرجس.

وقد ترك الإيغومانس فيلوثاؤس عدة كتب ألَّفها يدافع فيها عن إيمان الكنيسة القبطية ويدحض هجوم الإرساليات عليها. ولقد حصل على نياشين عديدة من حكام مصر لِمَا أبداه من خدمات عظيمة بكفاءة نادرة. ولما كَمُل جهاده تنيح بسلام يوم الخميس الموافق 10 مارس عام 1904.

القمص عبد المسيح المسعودي الكبير
(1819-1905م)(2):

في ذلك الوقت كان عدد الرهبان في الأديرة المصرية قد تناقص جدًّا، وبالرغم من ذلك احتفظت الرهبنة بكل أصالتها وقوة روحانيتها كما كانت في عز ازدهارها.

كان هناك قديسون يعيشون حياة الزهد والتقوى الحقيقية. وكان هناك الرهبان سكان المغارات ومنهم من كان يجوب الصحاري بلا مأوى، في حالة تجرُّد وزهد وقداسة نادرة.

ذهب لدير المحرق للرهبنة وتتلمذ باسم الراهب عبد المسيح المسعودي على يد القمص بولس الدلجاوي (الأنبا أبرآم أسقف الفيوم). وبعد 22 سنة في حياة الزهد والتقشف ذهب لدير البرموس حيث التقى بالراهب يوحنا الناسخ (البابا كيرلس الخامس). وكان يتميز بالوداعة واللطف والمحبة المتفانية. ولمَّا تنيح القمص عوض رئيس الدير عيَّنه البابا كيرلس بدلًا منه، فكان مثلًا للأبوة الروحية للرهبان، حيث تتطلب الرهبنة الأبوة الروحية والتلمذة والتسليم الرهباني. فكان له من الخبرة ما يؤهِّله لتسليم الحياة الرهبانية للرهبان الجُدد بنفس الأسلوب القديم. إنَّ وجود مثل هؤلاء الشيوخ في ذلك الزمان هو شهادة لحضور الله في الكنيسة القبطية، وحفظها تحت يده العالية بكل سماتها الروحية وخصائصها الأصيلة من جيل إلى جيل. وقد ترشَّح القمص عبد المسيح للأسقفية عدة مرات لكنه رفض بشدة وكان يعيش حياة التوحُّد في مغارات حفرها لنفسه. وقد ألَّف عدة كتب، وتنيح بسلام يوم 21 سبتمبر عام 1905.

في ذلك الوقت كان هناك شيخان آخران بنفس الاسم هما:

(1) القمص عبد المسيح صليب المسعودي الذي كان أيضًا من دير البرموس. وقد اهتم بتجميع القدَّاسات ووضع لها التعليقات والحواشي المهمة. وقام بطبع كتاب القدَّاسات الثلاثة عام 1902، وتعتبر هذه النسخة من القداس مرجعًا ثمينًا. ثم أصدر عدة كتب منها كتاب عن حساب الأبقطي.

(2) أما ثالث الرهبان فهو الراهب عبد المسيح بن عبد الملاك المسعودي، الذي كان يهتم بنظم المدائح والإبصاليات. وكان ثلاثتهم من قرية الشيخ مسعود بطهطا.

القس منسى يوحنا ( 1899 - 1930م.) (3)

ولد في أغسطس عام 1899 م. بقرية هور مركز ملوي من أبوين مسيحيين تقيين. مات والده وهو طفل فاعتنت أمه بتربيته، وتسلَّم منها حياة التقوى والبر. تلقى تعليمه الأولي بكُتَّاب القرية، ثم درس بالمدرسة الابتدائية. كان التعلم في ذلك الوقت قاصراً على التعليم الابتدائي، إلا أنه علم نفسه بنفسه، فدأب على القراءة والدرس والمطالعة في سن مبكرة، حتى بلغ لمستوى رفيع من الثقافة والمقدرة على الكتابة والتعليم. محبته الشديدة للكنيسة وجهته لتكريس حياته للخدمة، فذهب إلى القاهرة في عام 1915 ليلتحق بالمدرسة الإكليريكية قبل أن يبلغ السادسة عشرة من عمره. ناظر المدرسة يوسف منقريوس رفض طلبه لصغر سنه، لكن بعد إلحاح وما توسم فيه من النجابة قَبِلَه في المدرسة. وبالرغم من صغر سنه كان متفوقاً في دراسته. ولما تخرج من المدرسة الإكليريكية عَيَّنه الأنبا توماس مطران المنيا، الذي كان يقدِّر مواهبه، واعظًا لكنيسة السيدة العذراء بملوي، فوجد فيه الشعب واعظًا تقيًّا. واشتهر بعظاته الروحية وعلمه الغزير، فأحبَّه الجميع. وبناء على إجماع شعبي وتزكيته، قام نيافة الأنبا توماس برسامته قساً لكنيسة ملوي في 25 يناير سنة 1925 م. وكان يوم رسامته احتفالاً شارك فيه أهل المدينة على اختلاف مذاهبهم.

كان كثير القراءة غزير المعرفة، استطاع أن يستوعب مئات الكتب وهو بعد في حداثة سنه. ونتيجة لغزارة علمه، مع روحانيته العميقة وأسلوبه الفريد في الكتابة؛ ترك للمكتبة القبطية ثروة من كتبه التي انتشرت بين الأقباط واستمر أثرها الروحي لمدى طويل حتى أنها ما زالت تطبع حتى الآن بعد أن مر على صدورها قرب المائة عام! لقد ألَّف خمسة عشر كتابًا، غير العديد من المقالات في الصحف والمجلات، بالإضافة لعظاته القيِّمة. وكتب في موضوعات متعددة، من روحية ولاهوتية وعقائدية، كما كتب عن الكتاب المقدس، وكتاب كبير قيِّم في تاريخ الكنيسة. لقد حقق كل ذلك الإنتاج الغزير خلال عمر قصير، حيث لم تدم سنوات خدمته الكهنوتية سوى خمس سنوات كانت غزيرة بالإنتاج الذي لا يقدر الشيوخ على تحقيق مثله.

القس منسى يوحنا أخبر بيوم رحيله، أنه سيكون في 16 مايو سنة 1930 م. قال، "أرجو أن تُصَلُّوا عليَّ في ملوي وتدفنونني في هور". تنيح في تلك الليلة وسنه 31 عاما. لقد أحبَّه الجميع حتى غير الأرثوذكس فبكوه بكاءً حارًا. وكان القس منسى يوحنا محبوبًا من المسلمين حتى أنهم كانوا يتهافتون على حمل الصندوق الذي به جسده الطاهر.

(يتبع)

__________________________________________

(1) كتاب الخريدة النفيسة الجزء الثاني ص 520. وكتاب قصة الكنيسة القبطية لإيريس حبيب المصري الكتاب الرابع ص 370.

(2) كتاب قصة الكنيسة القبطية لإيريس حبيب المصري، الكتاب الخامس ص 106.

(3) كتاب قصة الكنيسة القبطية لإيريس حبيب المصري الكتاب الخامس ص 96.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis