تأملات في
شخص المسيح الحي
- 53 -



المسيح

عمل الخلاص الذي أتى المسيح ليُتمِّمه (21)

ثانياً: المسيح الكاهن الأعظم (14)

تقديم المسيح نفسه ذبيحة من أجل حياة العالم (9)

النزول إلى الأماكن السُّفْليَّة

مـا بين موت الرب بالجسد، وبين قيامته من الموت، يبرز الاعتراف بأنـه نزل إلى مسكن الأموات، أي إلى ما يُسمَّى بـ ”الجحيم“ أو ”العالم غير المنظور“: «فإنـه لأجل هـذا بُشِّر الموتى أيضاً، لكي يُدانوا حسب الناس بالجسد، ولكن ليَحْيَوْا حسب الله بالروح» (1بط 4: 6).

+ وكِلا الكلمتين: ”sheol“ بالعبري، ”hades“ باليوناني، يُشيران إلى العالم السُّفْلي، أي ذلك العالم الغامض، عالم الأموات؛ وبالتالي يُشيران إلى مَثْوَى، أي موضع البشر الذيـن رحلوا إلى عالم الأموات، حيث هناك نزلت النَّفْس البشرية للربِّ المُتجسِّد إلى الجحيم، بينما كان الجسد المُقدَّس راقداً في القبر (”إذ لاهوته لم ينفصل قط، لا من نفسه، ولا من جسده“).

+ ويمكـن تصنيف المراجع من الكتاب المقدَّس إلى: أ – رسائل القديس بولس (أف 4: 8-10؛ رو 10: 7؛ كو 2: 14-15)؛ ب - رسائل القديس بطرس (1بط 3: 18-20؛ 4: 4-6)؛ وكذلك ج‍ - نصوص الأناجيل (لو 23: 43؛ 2: 30-31؛ أع 13: 37)؛ د – ومن العهد القديم (مز 16: 10).

+ وفي التعليم الأرثـوذكسي: الأرض السُّفْليَّة هي المكان ”الذي لا نور فيه“. إنـه عالم ”الأرواح“ المُنعزلة عن رؤية وجه الله، والمحرومة من النور الإلهي البَهيِّ (بسبب الخطية).

+ النصوص المقدَّسـة التي ذَكَـرَت عـالم الأرواح: فقد ذَكَرَته بعض الليتورجيات القبطية: ”نزل إلى الجحيم من قِبَل الصليب“ (القدَّاس الباسيلي).

+ كما وَرَدَت في قانون إيمان ”روفينوس“، وهو أحد المراجع لهذا النزول. كما ذُكِرَ النزول إلى موضع الأموات في قانـون إيمان القديس أثناسيوس الرسولي(1)، وقـد لاقَى هـذا الرأي قبولاً في الشـرق والغـرب، وفي بعض النُّسَخ الغربية لقانون إيمان الرسل. كما ذُكِرَ في كتابات الآبـاء قبـل مجمـع نيقيـة، مثـل الآبـاء: بـوليكاربـوس، يـوسـتين الشهيـد، العلاَّمـة أوريجانس، هرماس، إيـرينيئوس، كبريانـوس، ترتليانس، هيبوليتس، كليمندس الإسكندري؛ ولدى المُعلِّمين المسكونيين في كِـلا الشرق والغرب، مثل: القديس أثناسيوس الرسـولي في رسـائله ”ضد الآريوسيين“(2)، والقديس أُغسطينوس(3).

الأفكار والتأمُّلات عن نزول المسيح للجحيم

التفاسير التقليدية لنزول المسيح للجحيم:

+ القديـس إيرينيئوس يذكُـر: ”إنَّ الربَّ يعرف قانون الأموات، لذلك فالمسيح سيكون أول القائمين مـن بين الأموات، وقـد بَقِيَ حتى اليوم الثالث في المواضع السُّفْليَّة للأرض“(4).

ويذكُـر العلاَّمـة كليمنـدس الإسكندري أنَّ المسيح قـد بشَّر بالإنجيل (أي البشارة المقدَّسة) في الجحيم، ليأتي بالخلاص للمؤمنين المنتظرين له(5).

كما كتب العلاَّمـة ترتليانس أنَّ المسيح بَقِيَ ”في الجحيم في صورة الإنسان الميت، كما أنه لم يصعد إلى أعالي السموات قبـل أن يـنزل إلى المواضع السُّفْليَّة من الأرض، حتى يجعل رؤساء الآباء والأنبياء شركاء له“(6).

كذلك ناقش القديس يوحنا ذهبي الفم مسألة نـزول المسيح للجحيـم، ليُجـري المعجـزات، وليدوس على القوات الشيطانية(7).

خمسة أنماط: هـذه الـرؤَى المتنوعة لنزول المسـيح للجحيـم، يمكـن تصنيفها إلى خمسـة تصنيفات رئيسـية. أولاً: إنَّ الاعتراف بالنزول إلى الجحيم يعني ببساطة أنَّ يسوع قد مات، وأنه نـزل إلى القبر (أي ”دُفِـنَ“) (وهذا هو عنصر الدفنوثانياً: وهي الصورة الثانية: إنَّ النزول يُشير إلى ”تأكيد الآلام“ التي عاناها المسيح، وأنه شارَكَ البشر في أعماق العُزلة عـن الحياة، أي المـوت (وهـذا هـو العامـل التواضعي للربِّ المتجسِّد)؛ وثالثاً: إنـه يُشير إلى انتصار المسيح على القُـوَى الشيطانيـة، وهـذا هـو عنصـر ”التمجيد“ بعـد ”التواضُع“؛ ورابعاً: إنَّ المسيح قـد نزل إلى الجحيم ليُبشِّر في موضع الأموات، وهـذا هـو عامل الكرازة والتبشير؛ ثم خامساً: وهو انعكاس الوضع، وبداية تمجيد المسيح.

المرحلة الأخيرة من اتضاع ابن الله المتجسِّد

الجحيم كموضع الأموات:

”شـيئول“ (أي ”الجحيم“ بالعبريـة) هـو ببساطة: ”الموت“: إنَّ أول تعريف لِمَا حدث للرب يسوع من جهة الموت، هـو الدخول إلى الجحيم مثله مثل أي إنسانٍ بشري آخر. وطبعاً إنَّ ذهابه للجحيم كان بالنفس البشرية فقط وليس بالجسد، لأن الجسد كان مُسَجَّى في القبر، مثله مثل أي إنسان بشري يموت بالجسد، ومثل أي وَضْع بشري كان للمسيح وهو بالجسد قبل الموت على الصليب والدفن في القبر. أمَّا نفسه البشرية، فبالطبع كـان تـوجُّهُها - مثل أي نفس بشريـة أخرى - إلى الجحيم، إلى موضع راحـة النفوس البشرية. وهـذا المفهـوم هـو ضـد هرطقـة ”الديكوتيـة“ anti-Docetic تلك الهرطقـة التي ظهـرت في أواخـر القرن الثاني، والتي كانت تَعتَبِر جسد المسيح أنـه ”خيالي“ وليس جسـداً مادياً مثل أجساد البشر. ومنها ظهرت الهرطقة التي لم تكن تعترف بوجود جسد للرب يسوع كما ظهر في وقت الصليب، حيث كـان يُشبَّه فقط للذيـن ينظـرون المسيح المصلوب وهـو يتألَّم بالجسد من دقِّ المسامير، والطعن بالحربـة في جنبه، وغَـرْس إكليل الشوك في رأسـه؛ بينما الدماء كـانت تنزف منه، فكـان - حسب قول أولئك الناكرين لجسد المسيح - يُشبَّه لهم بأنه يُصْلَب ويُقتَل.

+ وهكذا، وبهذه الطريقة، فإنَّ نزول المسيح إلى الجحيم بـالنفس البشريـة بينما دفنه كـان بالجسد؛ يؤكِّـد لنا أنَّ الرب المتجسِّد قـد افتدى البشرية مـن الموت، بموته على الصليب ودَفْنه بـالجسـد، ثم نـزوله إلى الجحيـم بـالنفس البشرية.

+ وهكذا فـإنَّ موت المسيح على الصليب ودَفْنه بالجسد ونزوله إلى الجحيم بالنفس البشرية، هو أكبر إنجاز خلاصي أتمَّه المسيح من أجل خـلاص البشريـة. وبناءً على هـاته الحقائـق الواقعية، فـإنَّ المسيح نزل إلى الجحيم، لا كأنه تحت قُـوَى الشيطان؛ بل إنَّ نصرة المسيح على الشيطان تمَّت فـور موتـه على الصليب: «أنا الحيُّ! كنتُ ميتاً، وها أنا حيٌّ إلى أبد الدهور. بيـدي مفاتيـحُ المـوت والجحيم (أي مَثْـوى الأمـوات)» (رؤ 1: 18 - الترجمة العربيـة الجديدة)، «وخَلَـعَ أصحـاب الرئاسـة والسلطة (أي الشياطين)، وجعلهم عِبْرةً، وقادهم أَسـرى في مَـوْكبـه الظافـر» (كو 2: 15 - الترجمة العربية الجديدة).

+ تحطيم كل قُوَى الشيطان: وتُشير الرسالة إلى العبرانيين، بكـلِّ قوَّةٍ، إلى هـذه الرؤية ضد الشيطان. ففي جـدال القديس بولس الرسول عن حقيقة بشرية يسوع، يُقرِّر بأنه: «لما كان الأبناءُ شركاءَ في اللحم والدم، شاركهم يسوع كذلك في طبيعتهم هذه ليقضي بموته على الذي في يده سلطان الموت، أي إبليس، ويُحرِّر الذين كانوا طوال حياتهم في العبوديـة خوفاً مـن الموت» (عب 2: 15،14 - الترجمة العربية الجديدة).

+ النزول إلى الجحيم، هو انتصارٌ نهائي على الخطية والموت: ويكتب آباء الكنيسة واضعين ثِقَلاً كبيراً على النزول المنتصر إلى الجحيم، بـاعتباره: ”بالموت داس الموت، والذيـن في القبور أنعم لهم بالحياة الأبدية“ (مـن ألحـان عيد القيامة)، فدمَّـر أبواب الجحيم، وأَفْـرَج عـن الموتى منتصراً على قُوَى الشيطان (كمـا كتب آبـاء الكنيسة: القديس إيرينيئوس، والقديس غريغوريوس النيصي).

نزول المسيح إلى الجحيم، لم يكن انغلاباً من الشيطان، بل انتصاراً عليه: وبناءً على ذلك، فإنَّ المسيح نزل إلى الجحيم، لا لكي يتألَّم من أجلنا، ولا حتى من قُوَى الشياطين؛ ذلك لأن العمل الخلاصي لفداء البشر قد اكتمل وهو على الصليب، حينما قال: «قـد أُكْمِل» أو ”قـد تمَّ كل شيء“، و«أحنى رأسه وأَسْلَم الروح» (يو 19: 30).

+ إنَّ نزول المسيح إلى مَثْوى الأموات كان يهدف إلى إعلان ”رَبْط“ الشيطان وكل قُواه، وبهذا يُحرِّر المؤمنين بالمسيح مـن عبوديتهم للشيطان، وكذلك كل الذين تركوا حياتهم في قبضة إبليس خوفاً من الموت.

+ وهذا هـو ما حدث باكتمال عمل المسيح على الصليب، لأن المسـيح «جـرَّد الرياسات والسلاطين أشهرهم جهاراً، ظافراً بهـم فيه (أي في الصليب)» (كو 2: 15). وبنزول المسيح إلى الجحيم، لم يكن الهدف تكرار ما أتمَّه الرب على الصليب، بـل ليُعلن لكـلِّ الخليقة ”رَبْط“ قُوَى الشياطين من المساس بالبشر.

+ ”زكريـا“ نبيُّ العهـد القديم تنبَّأ: «وَأَنْتِ أَيْضاً فَإِنِّي بِدَمِ عَهْدِكِ (عهد الله) قَدْ أَطْلَقْتُ أَسْرَاكِ مِنَ الْجُبِّ (من البئر) الَّذِي لَيْسَ فِيهِ مَاءٌ. ارْجِعُوا إِلَى الْحِصْنِ يَا أَسْرَى الرَّجَاءِ» (زك9: 12،11).

حَطَّم أبواب الجحيم: وقد عبَّر الفن المسيحي عن هذا الحَدَث بنصرة المسيح، بمنظر المسيح وهـو يُكسِّر أبواب الجحيم، ويقول القديس أُغسطينوس: ”كَسَّر أبواب الحديد، وأَطلق سراح الأبرار“(8). كما ذَكَـرَ القديس بولس هـذا الحَدَث: «وخَلَعَ أصحاب الرئاسـة والسـلطة وجعلهم عِـبْرة، وقادهم أَسرى في موكبه الظافر» (كو 2: 15 - الترجمة العربية الجديدة).

كَسْر أبواب الجحيم برهانٌ على تحرير سكَّان الجحيم: وهناك مراجع كتابية عن القدِّيسين الذين في القبور وكيف أقـامهم الرب معه (مت 27: 51-53؛ يو 5: 25-29): «وانفتحت القبور، فقامت أجسادُ كثير مـن القدِّيسين الراقدين. وبعد قيامة يسوع، خرجوا مـن القبـور ودخلوا إلى المدينة المقدسة وظهروا لكثيرٍ من الناس». وهذه النفوس صارت شهادة حيَّـة على تحرير المسيح لسُكَّان الجحيم من مساكن الأموات.

المسيح يُبشِّر في الأرض السُّفْليَّة: المسيح نـزل إلى الجحيم وكَـرَز للأرواح التي في هذا السجن. وهذا منظر رائع يُظهِر ويرصد الخلاص للذين كانـوا موتى، وبشَّـرهم المسيح بالدينونة والإنجيـل، بحيث إنَّ الموتى المستحقِّين ستكون لهم فرصة ليسمعوا الكرازة باسم المسيح، حسب قول القديس إيرينيئوس(9).

البشارة للموتى: تُعتَبَر الرسالة الأولى للقديس بطرس الرسـول هي النص الذي يحمل هـذه الرؤيـة: «ولذلك أُذيعت البشارة على الأمـوات أيضاً، حتى يُدانوا كبشرٍ (عاشوا) في الجسد، وإن كانوا يَحْيَون حياة الله في الروح» (1بط 4: 6 - الترجمة العربية الجديدة).

(يتبع)

(1) Quincunque, Ca. 381-426, SCD 40, p. 15.
(2) NPNF 2, IV, p. 424.
(3) Letter 16 to Evodius; FC 20, pp. 382-97.
(4) Ag. Her. V. 31.1; ANF I, p. 560.
(5) Stromata VI.6; ANF II, pp. 490-92.
(6) On the Soul 55; ANF III, pp. 231.
(7) Hom. on Matt. LVII; NPNF 1, X, pp.352-57; Hom. on Second Cor. XXV, NPNF1, XII, pp. 394-97.
(8) Serm. On the Passion.
(9) Ag. Her. V. 31; ANF I, p. 560.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis