الكنيسة هذا الشهر


نياحة القديسة أنسطاسيا
(26 طوبة / 3 فبراير)

تمهيد:
رهبنة العذارى منذ القرون الأولى للمسيحية:

يتحدث القديس كبريانوس (200-258م) إلى العذارى قائلاً:

[لقد نلتُنَّ وأنتُنَّ في هذا العالم مجد القيامة. فإنَّكُنَّ تَجُزنَ في العالم دون أن يُصيبكُنَّ أي أذى، لأَنَّكُنَّ حافظتُنَّ على حياة العفة والبتولية التي تُعادِل حياة ملائكة الله، بل تتفوق أيضاً عليها، لأننا بالجهاد في الجسد نقتني النصر والغلبة على طبيعة لا تتواجد لدى الملائكة. فحياة البتولية هي الانتصار على اللذَّات واستمرارية لحياة الطفولة](1).

”لأنكِ أنتِ فخرُ العذارى

يا مريم والدة الإله“:

كانت البذرة الأولى لتجمُّعات العذارى هي القديسة مريم العذراء، حيث التفُّوا حولها حتى وقت نياحتها واستحققن أن يُطلق عليهن: ”عذارى جبل الزيتون“(2).

وفي مديح العذراء مريم، فخر وأُم البتوليين، يقول القديس نيلوس السينائي (390-430م):

[إن القديسة العذراء مريم والدة الإله هي المربِّية والمُرضعة الروحية الأمينة للعذارى، فهي التي تُزين نفوس القديسين لعريسهم السماوي. فهي ماهرة وعلى دراية تامة بفن الغزل والنسيج: فهي تُعلِّم جيداً كيف تصنع من صوف الحَمَل المولود منها ملابس غير قابلة للفساد لتكسو بها المؤمنين].

وأول مَن أسَّس أديرة للراهبات بالشكل المعروف لنا اليوم هو القديس باخوميوس أب الشركة، ومن المعروف عنه أنـه كـان يبني الدير مع السور الخاص به(3).

وعلى الرغم من نشأة رهبنة العذارى، سواء اللواتي ترهبنَّ في بيوتهن أو مَن سَكَنَّ في بيوت أو أديرة للعذارى، إلاَّ أنه كانت هناك منهن مَن كانت لها غيرة في أن تسكن البراري والمغاير والجبال محبة في الملك المسيح. ونرى منهُنَّ المتوحِّدات والسائحات مثل: القديسة مريم المصرية، والقديسة أناسيمون، وأُخريات لا حصر لهُنَّ، لم تقف أمامهن طبيعتهن الضعيفة عائقاً في سُكنى مناطق قفرة مُوحشة. والقديسة أنسطاسيا التي نحتفل بعيد نياحتها هذا الشهر، هي إحدى هؤلاء القديسات التي لها باع طويل في حياة الوحدة.

نشأتها:

كانت القديسة أنسطاسيا (+++++++++ بمعنى قيامة) من أشرف وأرقى عائلات مدينة القسطنطينية. وكان والدها يشغل منصباً رفيعاً في القصر الإمبراطوري(4)، ومن هنا فقد تمتَّعت بحياة ملؤها السعادة والرفاهية، وكان لها حق دخول القصر والتنزُّه في حدائقه بحرية تامة كبنت من بنات أشراف مدينة القسطنطينية. وعلاوة على سموِّ ونُبل أخلاقها، فقد حباها الله جمالاً بارعاً، فكانت جميلة الخِلْق والخُلُق على حدٍّ سواء.

الإمبراطور جوستنيان (527-565م)

يُعجَب بأنسطاسيا:

سمع الإمبراطور جوستنيان كثيراً عن أنسطاسيا وعن سمو أخلاقها وجمالها الأخَّاذ، فأُعجب بها أشد الإعجاب الأمر الذي دفعه إلى أن يُقْدِم على الزواج منها، بالرغم من أنه متزوِّج من الإمبراطورة ثيئودورة (527-548م)، والتي كانت ما تزال على قيد الحياة، والتي نما إلى مسامعها ما كان ينوي عليه زوجها الإمبراطور جوستنيان. فتمكَّنت الغيرة منها، وبدأ الخلاف يدبُّ بينهما في القصر، في الوقت الذي عَزَفَت وانصرفت أنسطاسيا الوديعة عن كل مناصب القصر ومباهجه الزائلة، لأنها كانت قد نذرت نفسها لحياة البتولية، وأحبَّت أن تعيش حياة العفة والطهارة.

ويقول البابا أثناسيوس الرسولي في مدح البتولية:

[أيتها البتولية يا هيكل الله، مَسْكن الملك العظيم، خيمة العَليِّ، يا متشبِّهة بالفردوس. أنتِ مستحقَّة أن تنالي الخيرات من الله. أيتها البتولية يا وريثة غير الفاني، فيكِ يستريح خالق البشر](5).

حاولت أنسطاسيا أن تبحث عن طريقة مُثلى تستطيع بها أن تُكرِّس كل وقتها وحياتها لخدمة الرب، فلجأتْ إلى مُرشدها الروحي القديس أنبا ساويرس بطريرك أنطاكية (513-538م)، حيث كانت بينهما رسائل روحية متبادَلة، كان يوجِّه فيها أنسطاسيا لِمَا فيه خلاص نفسها. وأخيراً، وبعد صلاة عميقة وقوية وتفكير عميق ومشورة الأب الروحي، حسمت أنسطاسيا أمرها واتَّخذت قرارها بالهرب من القصر، واضعة نُصْب عينيها مدينة الإسكندرية، حيث أسَّست هناك دير الميل التاسع غرب مدينة الإسكندرية(6) (الذي سُمِّيَ فيما بعد بدير الزجاج، وأصبح ديراً للرهبان)، وكان هذا الدير من أحب الأديرة إلى قلب القديس البطريرك ساويرس الأنطاكي، والذي دُفِنَ فيه بعد نياحته.

الهرب إلى برية شيهيت:

وحدث بعد هذه الأمور أن توفيت الإمبراطورة ثيئودورة عام 548م، وعلى الرغم من مرور كل هذه السنين إلاَّ أنَّ قلب الملك كان لا يزال متعلِّقاً بأنسطاسيا، وشَعَرَ أنها من الممكن أن توافق على الزواج منه بعد وفاة الإمبراطورة، حيث لا يوجد عائق أو سبب يمنعها الآن. فأصدر أوامره بالبحث عنها في كل ربوع الإمبراطورية، شرقاً وغرباً، وبالأخص في مناطق الأديرة.

وإزاء ذلك لم تجد الراهبة القديسة أمامها سوى أن تتزيَّا بزيِّ الرهبان، وأن تُطلق على نفسها اسم ”انسطاسيوس الخادم“، متجهة نحو برية شيهيت، قاصدة دير القديس أنبا مقار. وهناك سجدت عند أجساد التسعة والأربعين شهيداً، ثم تقابلت مع إيغومانس البرية أنبا دانيال وقصَّت عليه أمرها(7). وحينئذ قرَّر الشيخ المدبِّر أن يُسكِنها في إحدى المغائر البعيدة عن الدير، ورَسَمَ لها قانوناً روحياً يُناسب حياة الوحدة في المغائر والجبال، ثم عيَّن لها تلميذاً مُطيعاً يُرسله مرةً كل أسبوع دون أن يسأل الأب أنسطاسي (الراهبة أنسطاسيا) عن شيء سوى أن يأخذ شقفة موضوعة على باب قلاية الأب مكتوبٌ عليها احتياجاته، ثم يضع جرَّة الماء أمام القلاية في صمتٍ، وينصرف.

استمر التلميذ في خدمة الأب أنسطاسي (القديسة أنسطاسيا) لمدة 28 سنة دون تذمُّر أو حُب فضول. وكان أنبا دانيال يزورها مرة كل يوم أحد ليُناولها من الأسرار المقدسة، ولم يكن أحدٌ يَعْلَم بحقيقة أَمْر أنسطاسيا سوى أنبا دانيال وحده فقط.

نياحتها:

وفي يومٍ ما أحضر التلميذ قطعة الخزف، وكان مكتوبٌ عليها: ”أحضِر الأدوات وتعالَ هنا إليَّ“، ولم يكن التلميذ يعلم شيئاً كعادته. وعندما قرأ أنبا دانيال ما كتبَتْه على قطعة الخزف، عَلِمَ أنَّ القديسة أنسطاسيا على وشك أن تنتهي أيام غربتها على الأرض، وقال لتلميذه: ”الويل للبرية الداخلية، لأن عموداً عظيماً سيسقط فيها، هَلُمَّ يا ابني، احمل الأدوات وسِرْ بنا على عَجَلٍ لنلحق بالقديس الشيخ لئلا نُعدَم صلواته، لأنه ماضٍ إلى الرب“.

ولما ذهبا، وجداها مريضة بحُمَّى شديدة، فقال لها أنبا دانيال (على اعتبار أنها راهب): ”مغبوطٌ أنتَ لأنك اهتممتَ بهذه الساعة ورفضتَ المملكة الأرضية“. فقالت له: ”مغبوطٌ أنت يا إبراهيم الجديد صاحب ضيافة المسيح، لأنه كم من ثمرات اقتبلها ربنا من يديك“. ثم طلب منها الشيخ أن تُبارِك تلميذه، فصلَّت هكذا قائلة: ”يا إلهي الذي وفَّقتَ هذه الساعة لتصرفني من هذا الجسد، الذي يعرف المسافات وكم تعب معي من أجل اسمك، أَعْطِه روح آبائه، روح إيليا مع أليشع“.

كما أوصت أنبا دانيال أن يُرسلها إلى القبر كما هي، وطلبت أن تتناول من الأسرار المقدسة. ولما تناولت، أشرق وجهها، ثم رشمت نفسها بعلامة الصليب، وهي تقول: ”يا ربي في يديك أستودع روحي“.

وللوقت انتشرت رائحة ذكية عطرة، فبكى أنبا دانيال وتلميذه، وحفرا قبراً أمام المغارة، وقال أنبا دانيال لتلميذه: ”أَلبسه هذه الأكفان فوق ملابسه“.

(ليُلاحظ القارى كيف كان الشيخ القديس أنبا دانيال كتوماً لسرِّها حتى بعد نياحتها، ولم يكن معه أحد سوى تلميذه).

وعندما قام التلميذ بإلباسها الكفن فوق ملابسها التي كانت من الليف، أبصر ثديي القديسة مثل ورق الشجر الجاف من شدة النسك. وبعد أن دفنها القديس دانيال وتلميذه وصلَّيا، قال الشيخ لتلميذه: ”فلنحِلَّ صومنا، ونعمل محبةً وإحساناً من أجلها“. ثم حَمَلا ضفيرة خوص كانت قد ضفرتها، وانصرفا إلى قلايتهما.

وأثناء سيرهما قال التلميذ للشيخ أنبا دانيال: ”علمتُ أنَّ هذا العابد كان امرأة، لأني لمَّا كفَّنته رأيتُ ثدييه ثديي امرأة وكأنهما ورقتان ذابلتان“. فقال له أنبا دانيال: ”يا بُنيَّ قد علمتُ أنها امرأة من قبل“. وروَى له تاريخ حياتها وأعلمه أنها تنكَّرت وتزيَّت بزيِّ الرجال وخدمت الرب في البرية ثماني وعشرين سنة، ولم يَعْلَم أحدٌ بأمرها.

كما أوصى أنبا دانيال تلميذه قائلاً: ”أُعلمك، يا ولدي الحبيب، أنَّ هذه المرأة قد سبقت مراتب قديسين كثيرين وأبطال مُجاهدين. فقد وصلت إلى الدرجة الرفيعة العالية، لأنها من أعرق أُسر الأشراف، وجاهدت ضد العدو الشيطان، وقمعت جسدها، وأفنت أيامها في خدمة الله، ورفضت العالم وشهواته. أما نحن فقد كُنَّا (قبل الرهبنة) بالكاد نشبع من الخبز، ولمَّا جئنا إلى الرهبنة صارت لنا راحة، ولم نستطع أن نقتني فضيلة واحدة مما اقتنته هذه القديسة التي سمَّت نفسها: "أنسطاسيوس الخادم"“.

تذكار الكنيسة ليوم نياحتها:

تُعيِّد الكنيسة القبطية لتذكار نياحة القديسة أنسطاسيا في يوم 26 طوبة/ 3 فبراير. أمـا عن سنة نياحتها، فإذا كان مجيئها إلى برية شيهيت بعد وفاة الإمبراطورة ثيئودورة عام 548م، وقد مكثت في البرية لمدة 28 سنة، فتكون سنة نياحتها حوالي عام 576م. أما الكنيسة اليونانية فتُعيِّد لتذكار نياحتها في 10 مارس.

بركة صلواتها تكون معنا، آمين.


(1) أقوال الآباء عن: دير الشهيد أبي سيفين للراهبات، ”العذراء مريم وتاريخ أجيال العذارى“، الطبعة الأولى، 2002م.
(2) Synax. R. Basset, 21 Toubeh, p. 587.
(3) يوسف حبيب، ”الراهبات وأديرتهن“، 1968م، ص 24.
(4) يوسف حبيب، ”القديسة أنسطاسيا“، 1968م، ص 9.
(5) ”العذراء مريم وتاريخ أجيال العذارى“، مرجع سابق، ص 223.
(6) الأديرة في تلك المنطقة كانت تأخذ أرقاماً مثل دير الميل التاسع. أما عن انتشار رهبنة العذارى بها، فذلك لأنها قريبة نوعاً ما من الإسكندرية، خوفاً عليهن من طبيعة الصحراء الوعرة، وأية هجمات أخرى. ويُذكَر أن في هذه المنطقة تأسَّس ما يقرب من 600 دير للرهبان والراهبات.
(7) القمص متى المسكين، ”الرهبنة القبطية في عصر القديس أنبا مقار“، مطبعة دير أنبا مقار، الطبعة الثانية: 1984م، ص 413.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis