|
|
|
تكملة سيرة المعلِّم إبراهيم الجوهري:
+ قام المعلِّم إبراهيم الجوهري بإنشاء كنيسة صغرى على اسم الشهيد مرقوريوس (المُلقَّب بـ ”أبي سيفين“) لعدم تغيير مـواعيد الصلاة بكنيسـة العذراء الكبرى بحارة زويلة، حتى يتمكَّن موظَّفو الحكومة من حضور القدَّاس الإلهي مُبكِّراً يوم الأحد ليلحقوا بمواعيد العمل بدواوين الحكومة.
+ كما قام بتجهيز المواد التي يُصنع منها زيت الميرون المقدَّس مـن حسابه الخاص، وأرسلها بصُحبة أخيه المعلِّم جرجس للأب البطريرك بالقلاية البطريركية.
+ وفي سنة 1499ش/ 1783م، بنى المعلِّم إبراهيم السُّور البحري لدير القديس أنبا أنطونيوس، بعد أن اهتم ببناء هذا السور من الجهة القبلية والجهة الغربية من قبل عام 1498ش، والذي يُعرَف إلى الآن باسم: ”سور الجوهري“.
+ كما قـام أيضاً بتجديد كنيسة العذراء ”المُغيثة“ بحارة الروم في سنة 1508ش/ 1792م. كما شيَّد كنيسة الشهيد ”أبو سيفين“ بدير الأنبا بولا بالجبل الشرقي. كما شيَّد في دير البراموس كنيسة ”أبا أبيب وأبالي“ (ولكنها هُدِمَت سنة 1881م لتوسيع كنيسة مار يوحنا). كما عمَّر قصر ديـر السيدة البرامـوس وقصر السيدة بالسريان. وأضاف إلى دير السريان ”خارجة“ كبيرة من الجهة القبلية وبنى حولها سوراً، حتى بلغت مساحتها 2400 متر.
+ وباختصار، بنى كنائس عديدة، وعمَّر البراري، وبنى أديرة، واهتم بالرهبان الساكنين فيها، وفرَّق القرابين والشموع والزيوت والستور والكُتب الطقسية الخاصة بالصلوات في الكنيسة، ووزَّعها على كل الكنائس في مصر. بالإضافة إلى قيامـه بتوزيـع الصدقات على الفقراء والمساكين في كـل مكان مُهتماً بـإطعامهم وكسائهم، وكذلك الأرامل واليتامَى الذين ليس لهم مَن يهتم بهم، وخصَّص لهم شهرياً ما يقوم بكفاية طعامهم وحياتهم، وكل هذا حسب ما شهد له به الأسقف الأنبا يوساب ابن الأَبح في مرثية البابا يؤانس الثامن عشر البطريرك (الـ 107).
+ وظل المعلِّم إبراهيم الجوهري هكذا على هذا المنوال إلى أن انتقل إلى عالم الخلود في يوم الاثنين 25 بشنس 1511ش/ 31 مايو 1795م. فحَزِنَ عليه الجميع، كما أَسف على وفاته أمير البلاد إبراهيم بك، لأنه يُعزُّه ويثق فيه كثيراً، وسار في جنازته إكراماً له وتقديراً منه لعلوِّ وسموِّ أخلاقه، كما رثاه الأب البطريرك. وقد دُفِنَ في المقبرة الخاصة به التي شيَّدها لنفسه بجوار كنيسة مار جرجس بمصر القديمة. وقد أَوْقَفَ على هذه المقبرة وقفاً يُصرَف ريْعُه على قنديل لا يُطفأ ونور لا يخبو.
+ وقد اهتمَّت جمعية ”نهضة الكنائس“ بتجديد مقبرة المعلِّم إبراهيم الجوهري بدَرْب ”التقا“ بمصر القديمة.
آثار المعلِّم إبراهيم الجوهري:
+ في دير القديس أنبا مقار الكبير ببرية شيهيت: بنى المعلم إبراهيم الجوهري في سنة 1489ش/ 1773م كنيسة على اسم الشهداء الـ 49 شيوخ شيهيت أمام كنيسة القديس أنبا مقار الكبير، كانت مُلاصقة للسور الغربي للدير (حتى أوئل السبعينيات كان هذا السور قائماً، ثم انهار فجأة). وتوجد المقبرة التي فيها الأجساد داخل الكنيسة في الجهة القبلية الغربية من الكنيسة على ارتفاع 23 سنتيمتراً من الأرض.
+ في دير القديس أنبا بيشوي بوادي النطرون: وُجِدَ مكتوباً بكنيسة رئيس الملائكة ميخائيل بالحصن القديم وبأعلى هيكلها، وُجد تاريخ سنة 1498ش/ 1782م، والكلمات التالية: ”والمهتم بها المعلِّم إبراهيم الجوهري“. وقد عثر المتنيِّح القمص أرمانيوس حبشي شتا البرماوي (أحد الرهبان العلماء في أوائل القرن العشرين) على خطاب من المعلم إبراهيم الجوهري إلى الأنبا بطرس مطران جرجا مكتوباً فيه: ”إنه (المعلم إبراهيم الجوهري) وصله خطاب المطران بخصوص دير القديس أنبا بيشوي، وأنه أرسل إلى الدير المصالح المطلوبة، وأن الراهب عبد الملاك قد عرَّفه أنه لم يكفِهِم خمسة آلاف متر حجر، وأنهم ما زالوا يُريدون ثمانية آلاف، وأنَّ المطران أَمَرَ بأن يُرسِلوا إليهم ما يطلبون، وأنه يُنبِّه عليهم أن لا يُفرِّطوا في أي شيء، وأن يبعثوا إليه بكامل الأخبار“. ثم يقول المعلم إبراهيم الجوهري في خطابه: ”وأخونا (جرجس الجوهري) وولدنا (يوسف) يُقبِّلان أيديكم“. والخطاب مؤرَّخ بتاريخ 1495ش/ 1779م، وتوقيعه: ”الحقير إبراهيم الجوهري“.
وفي أسفل الخطاب حاشية مضمونها: ”وهذا بيان المصالح الواصلة إليكم: قنطاران فسيخ، قنطاران زبيب أسود، عدد 20 خيشاً، قنطار جبن، قنطار أرز، قنطار زيت سيريج، قنطار زيت مبارك، قنطار عسل، رُبع قنطار بُن“.
+ هذه سيرة أحد كبار أراخنة الكنيسة في هذا العصر، وكان المعلم إبراهيم الجوهري يجمع ما بين عمله في مكتب والي البلاد كأنه ”رئيس وزراء“ بلغتنا الحالية وبين خدمته واهتمامه بشئون الكنيسة. إنَّ خدمة أعضاء شعب الكنيسة جزء لا يتجزَّأ من جهاز الخدمة في الكنيسة.
عمل الميرون المقدَّس:
قام البابا يؤانس الثامن عشر في سنة 1502ش/ 1786م بعمل الميرون المقدَّس في كنيسة السيدة العذراء بحارة الروم، وكان المهتم بذلك المعلم إبراهيم الجوهري وأخوه المعلم جرجس الجوهري(1).
أبرز شخصية في ذاك العصر:
الأنبا يوساب أسقف جرجا وأخميم:
وهو المعروف بلقب ”ابن الأَبحِّ“. ومن نعمة الله أنَّ التاريخ حفظ لنا معلومات عنه. فقد وُلد في بلدة ”النخيلة“ جنوبي أبي تيج، وأَطلق عليه أبواه اسم ”يوسف“. ولما بلغ حوالي السابعة، التحق بكُتَّاب البلدة كما كانت عادة الأقباط على مدى الأجيال. والكُتَّاب القبطي كان دائماً مُلحقاً بالكنيسة أو الدير. وكان التلاميذ فيه يتعلَّمون المزامير والتسبحة وغيرها من الصلوات، كما كانوا يتعلَّمون القراءة والكتابة والحساب، وأولاً اللغة القبطية. وبهذه الوسيلة كانوا ينشأون عارفين بكِلاَ التعاليم الروحية والمعارف المدنية. وكـان التلاميذ، وهم يحفظون هـذه التعاليم الروحية، كانوا يُردِّدونها ويُرتِّلون بها خارج الكُتَّاب، مِمَّا كان يجعلهم أيضاً ينشأون عارفين بتعاليم الكنيسة وطقوسها، إلى جانب معرفتهم بالعلوم المدنية ما يؤهِّلهم في كبرهم إلى بلوغ أعلى درجات خدمة وطنهم بالمعرفة.
+ وتشبَّعت نفس ”يوسف“ بهذه التعاليم الروحية وملأته رغبة في أن يعيش عيشة النسك والتبتُّل. فلما بلغ الخامسة والعشرين من عمره، حقَّق رغبته، فترك أهله وبلده وقصد إلى ”بوش“ (شمالي بني سويف) حيث يقع مقر ديرَي الأنبا أنطونيوس والأنبا بولا، وكان يُقيم فيه رئيس الدير. وحين وقف يوسف أمامه، أَطْلَعه على رغبة قلبه. ففرح به رئيس الدير، ووضعه تحت رعاية شيوخ الدير الساكنين في مقر الدير في بـوش، ليُعلِّموه ويُسلِّموا لـه مبادئ وأصول الرهبنة، ثم يُقررون فيما بعد إنْ كان يصلح للحياة الديرية أم لا. وبعد أن لاحظه شيوخ البرية، عرفوا صدق عزيمته ومدى تطلُّعه نحو الروحيات. لذلك زكُّوه لرئيسهم. وعند ذلك أرسله إلى دير القديس أنبا أنطونيوس في الجبل الشرقي، حيث كان تحت التعليم والملاحظة مرة أخرى.
وقد فرح الآباء هناك به لِمَا رأوه فيه من القناعة والاتضاع والاستعداد للتعلُّم والحياة بمقتضى قوانين الرهبنة. وفي الوقت المُحدَّد، صلُّوا عليه الصلوات المختصة بتكريسه راهباً، واحتفظوا باسمه الأصلي ”يوسف“.
+ وهكذا امتلأت روح ”يوسف“ بالنعمة الإلهية، فعكف على البحث وتفتيش الكُتب والمخطوطات. وصار بمداومته على الاطلاع والتمعُّن فيما يقرأ، ضليعاً في التعاليم الكنسية وسِيَر الآباء أعمدة الإيمان وأقوالهم، فأصبح كالواحة المنعشة وسط العصر المُجدب الذي عاش فيه.
+ وحين رأى الشيوخ تعمُّقه في دراسته لآباء الكنيسة، رشَّحوه للكهنوت، فرُسِمَ قساً فإيغومانساً. وزاده فيض الروح القدس نعمةً ووداعةً، فجعل من نفسه خادماً لإخوته ساعياً إلى كسب محبتهم وتوجيهاتهم له.
+ ولأن البابا يؤانس الثامن عشر كان من رهبان دير الأنبا أنطونيوس، ظل طيلة حياته يشعر بجاذبية الحياة الرهبانية وبحنين إلى مَن كانوا إخوته في الرهبنة، فاعتاد أن يسأل عنهم ليعرف أحوالهم. وحين عَلِمَ أنَّ من بين الرهبان المرسومين كهنة واحداً اسمه ”يوسف“، انشرح صدره لأنه كان يحمل نفس الاسم، فازداد قلبه فرحاً لِمَا سمعه عن القمص يوسف من دوام البحث والتعلُّم من كتابات آباء الكنيسة، وتعمُّقه في الروحيات، وتفانيه في خدمة إخوته. فرغب أن يراه، وأرسل في طلبه.
+ ولما تقابل الاثنان، أَخَذ البابا يتحدث معه حديث الأب مع الابن بالروح في مختلف الموضوعات، حيث تبيَّن له من هذا الحديث المُتشعِّب عقليته النيِّرة وحُسْن تبصُّره. لذلك عقد النيَّة على رسامته أسقفاً. ولكنه كَتَمَ نيَّته، واستبقاه في الدار البابوية.
+ ثم عَهَدَ إليه ببعض الأمور الإدارية، وارتاح لحُسْن تصرُّفه فيها. وعندما تشاور مع أساقفته وأبلغهم بكل ما دار بينه وبين الراهب يوسف وبحُسْن تصريفه للأمور، اقترح أمامهم رسامته أسقفاً لإيبارشية أخميم وجرجا. فوافق الكل بالإجماع. وامتلأت نفس البابا يؤانس الثامن عشر ارتياحاً لهذا الإجماع، فقام برسامته أسقفاً سنة 1499ش/ 1783م باسم ”أنبا يوساب“ (وهو الترجمة القبطية لاسم ”يوسف“).
+ ولقد أبدى البابا يؤانس كل هذه العناية في اختيار الأنبا يوساب، لأنه كان قد رَسم قبل ذلك بست سنوات أسقفاً آخر اسمه الأنبا أنطونيوس، ولكن لم تمرَّ فترة قليلة من الزمن إلاَّ وانحاز هذا الأسقف إلى الكاثوليك نتيجة دعايتهم وإغراءاتهم. فأتى انضمامـه إلى الكاثوليك سبباً في بلبلة الأفكار مِمَّا جعل الأقباط يثورون عليه ويرفضون إقامته في وسطهم، وحتى المسلمون امتلأوا حنقاً عليه. وقد دفع هذا الغضب الشعبي بالوالي في المنطقة التي كان فيها هذا الأسقف إلى التشكُّك والريبة. ثم استدعاه وسأله عمَّا جعله يتنكَّر لكنيسته الوطنية، فوجد إجاباته غير مُقنعة، فأَلقى به في السجن. على أنَّ الوالي العام أصدر أمراً بالإفراج عنه.
وقد أُشيع أنَّ قنصل فرنسا هو الذي تشفَّع فيه إلى أن نجح في استصدار أمر العفو. فلما خرج هذا الأسقف من السجن لم يستطع الإقامة بين مواطنيه لِمَا رآه منهم من تباعُد ومُجانبة، فغادر مصر وذهب إلى روما، حيث قضى بقية حياته دون أن يركن إليه بأية خدمة رعوية.
وبـإزاء هـذه المأساة الموجعة، رأى البابا يؤانس وجوب التدقيق في اختيار الأساقفة، إذ وجد أن إغراءات رجـال الفاتيكان قـد بلغت درجة مـن النفاذ إلى حدِّ استمالة رجل قضى شطراً مـن حياته داخل دير مـن أديرة الأقباط الذيـن غمرت روحانيتهم الأرجاء.
(يتبع)
(1) كتاب 101 طقس، ص 23 ”أ“، 34.