|
|
|
النهاية: انتهاء العالم
ليس، كما ادَّعى فلاسفة اليونان قديماً، أنَّ ”التاريخ يُعيد نفسه“، وتبعهم بعض فلاسفة العصر الحديث. فالمسيحية لا ترى تاريخ العالم كأحداث متتالية متكررة إلى ما لا نهاية. بل ترى التاريخ أنه استعلانٌ لأحداث متوالية تؤدِّي إلى نهاية محتومة، لا إلى سلسلة أحداث متكررة أبدية لا نهاية لها.
”انتهاء هذا الدهر“:
قال رب المجد عن نفسه: «لأن ما هو من جهتي له انقضاء» (لو 22: 37). اللحظة النهائية لهذا الدهر هي بمثابة نقطة نهاية التاريخ حيث تتلاقَى فيها كل أحداث هذا الدهر، لكي تبدأ نقطة بداية من جديد، لتكون بداية الدهر الآتي الجديد.
+ فحسب تعليم الإنجيل، بعد الدينونة ستكون نهاية هذا العالم. فالحالة الحاضرة لابد أن تنتهي ولكن ليس ليبيد العالم نفسه، بل ليخلق من العتيق العالم الجديد: «لأني هأنذا خالقٌ سموات جديدة وأرضاً جديدة. فلا تُذكَر الأولى ولا تخطُر على بالٍ» (إش 65: 17). ورأى الرائي في سفر رؤيا يوحنا اللاهوتي: «... سماء جديدة وأرضاً جديدة، لأن السماء الأولى والأرض الأولى قد مضتا» (رؤ 21: 1). والمقصود بالسماء الغلاف المُحيط بالكون، وليست في هذه الآية هي ما يُطلق عليها موضع كرسي الله، لأن الله ليس كائناً في مكانٍ محدود بل هو في كل مكان.
+ إن الخليقة المنظورة كلها، بما فيها ما أسماه يوحنا الرسول: «العالم كله قد وُضِعَ في الشرير» (1يو 5: 19)، أي بما فيها من تاريخ الخطية، هذه الخليقة تُسرعُ نحو الأزمة والمحنة النهائية، حيث سينحلُّ العالم ثم بعد ذلك يتجدَّد. وما دمنا نؤمن بأنَّ لهذه الخليقة بداية في وجودها، فلابد أن نتوقع أن لها نهاية، كما يقول القديس غريغوريوس النيصي(1). وعند هذه النهاية سيُستَعْلَن «الله الكلُّ في الكلِّ» (1كو 15: 28).
+ أما رجاؤنا فهو أنَّ «الخليقة نفسها أيضاً ستُعتق من عبودية الفساد إلى حرية مجد أولاد الله» (رو 8: 21). وكل الأشياء المتنافرات سوف تتصالح في المسيح (كو 1: 20).
+ هذا التصالُح يُعبَّر عنه بأنَّ الله وعد بأن يُعيد بناء أو تجميع كل الأشياء معاً (وبالترجمة الحرفية الواردة في رسالة أفسس عن المسيح: ”يصير المسيح من جديد رأساً لكل شيء“ - أف 1: 10).
+ وأما وعد المسيح فهو قائم: «السماء والأرض تزولان ولكن كلامي لا يزول» (مت 24: 25). وسبق أن ذَكَرَ سِفْر المزامير عن زوال السماء والأرض: «هي تبيد وأنت تبقى، وكلها كثوب تَبْلَى، كرداء تُغيِّرها فتتغيَّر. وأنت هو وسنوك لن تفنَى» (مز 102: 27،26).
ويُردِّد هذه النبوَّة إشعياء النبي: «ويفنَى كل جُند السموات، وتلتف السموات كدَرْج (مثل ملف)، وكلُّ جُندها (أي نجوم السماء) ينتثر كانتثار الورق من الكرمة، والسُّقاط (أوراق التين) من التينة (شجرة التين)» (إش 34: 4؛ وقد ورد هذا الوصف على فم المسيح في إنجيل مت 24: 29).
+ وهكذا تصير السماء وكأنها قشرة البيضة التي تنفلق لكي تخرج منها الخليقة الجديدة، كالفرخ الصغير الجديد الذي يخرج من البيضة.
المصير المُتجدِّد للكون:
إنَّ قصد الله من وراء سر الفداء، ليس فقط أن يمتدَّ بالخليقة في التاريخ، بل بأن يفتديها ويُعطيها الكمال في جوهرها. وقد بدأ هذا العمل فعلاً في المسيح ولن يُنقض بل سيكمل، من خلال موته وقيامته وصعوده إلى السموات، وعمله الدائم بالروح القدس لتجهيز الخليقة ليوم التجديد.
+ عمل التكميل هذا الذي سيتم للعالم والكون لن يتم بأيِّ عمل بشري، ولا بأيِّ خطط سياسية من البشر، ولا بثورات يقوم بها البشر، ولا بما يُسمُّونه نظرية التطوُّر، بل حتماً سيتم بعمل إلهي بحت. ولكن ليس معنى هذا أنَّ ملكوت الله يستغني عن صانعي السلام، أو عن المُنادين بالعدالة والحرية وطهارة السلوك في التاريخ. ولكن بالحري يعني أنه مهما كانت مجهودات البشر هذه غير كاملة وغير وافية لتحقيق السلام والعدل والطهارة على الأرض، إلاَّ أنها ستكتمل بالسلام والعدل اللذين سيُكمِّلهما الله بعد نهاية التاريخ.
+ ولئن كان المُبارَكون سوف ينعمون بالله إلى الأبد، بينما غير الأبرار سوف يبتعدون إلى الأبد من أمام الحضرة الإلهية؛ فلابد أن نتوقَّع ونتصوَّر نوع الحياة التي سوف تكون في ذلك الدهر الآتي. فهذا العالم الذي عمَّ فساده سوف ينتهي، وسوف يتجدَّد إلى عالم آخر غير فاسد.
+ أما عملية تجديد الإنسان والبشرية فسوف تتم حينما «يردُّ الله كل شيء» (مت 17: 11) إلى حالته الأولى قبل سقوط البشرية قديماً في حُكْم الموت. ويصف القديس بولس الرسول هذا التجديد في رسالته إلى مسيحيِّي روما (في الأصحاحات من 4-9)، كما تصفه عظات الرسل وبشارتهم في سفر أعمال الرسل أنَّ المسيح «ينبغي أنَّ السماء تَقْبَلُه إلى أزمنة ردِّ كل شيء» (أع 3: 17-21). تشرح القديسة ماكرينا(2) (أُخت القدِّيسَيْن باسيليوس وغريغوريوس النيصي في القرن الرابع) قيامة أجساد البشر بأنها ليست سوى ”إعادة بنيان طبيعتنا لتكون في هيئتها الأصلية“.
انتهاء هذا الدهر هو بدء الدهر الجديد:
يزعم البعض أنه كما أنَّ الأرض لم تُدمَّر في مادتها بالطوفان، هكذا فلن تُدمَّر الأرض في مادتها في نهاية العالم. لكن القديس بولس يُحدِّد «هيئة هذا العالم تزول» (1كو 7: 31) لتكون بداية لتطهير ووضع كل شيء في نصابه: «فإننا نعلم أنَّ كل الخليقة تئنُّ وتتمخض معاً إلى الآن... بل نحن الذين لنا باكورة الروح، نحن أنفسنا أيضاً نئنُّ في أنفسنا متوقِّعين التبنِّي فداء أجسادنا» (رو 8: 19-22).
ولكن هناك نصوص أخرى تفصح عن دمار كامل في مادة هذا الكون، وليس مجرد تجديد في جوهره وصفاته. ومن بين هذه النصوص ما يُشير إلى أنه سوف ”يتبدَّد كدخان“، ”ينحل“، ”يذوب أو ينصهر“، ”يحترق“، ”يعبُر“، ”لا يكون بعد“. وهذه النصوص بالرغم من أنها تبدو مُطلقة وشديدة الوصف، إلاَّ أنها من ناحية أخرى تُعبِّر عن حقيقة أساسية: أنَّ هذا العالم في ذاته ليس أبدياً، بل هو عطية فائقة القدر من الله، وأنَّ الله قدَّمه للإنسان ليكون أميناً عليه وفيه لمجد الله. ونسيان الإنسان لهذه الحقيقة سيكون تشويهاً للتعليم المسيحي عن الخليقة في علاقتها مع الإنسان وفي علاقة الإنسان بها.
+ ويُوضِّح القديس أُغسطينوس أسقف هيبو في القرن الرابع / الخامس هذا التوازن الصحيح قائلاً في تفسيره لآية كورنثوس الأولى 7: 31: ”هيئة هذا العالم سوف تزول، أما كيانه فلا“(3).
+ والذين يُركِّزون على انتهاء العالم بدون التركيز على البداية الجديدة له يُشوِّهون نص آية رسالة كورنثوس 7: 31 المُشار إليها. وكذلك الذين يفرحون للبداية الجديدة للعالم الجديد دون الانتباه لنهاية العالم الحاضر يُفسِدون معنى النص أيضاً. إنها انتهاء وبداية في وقت واحد حسب قول سفر الرؤيا: «ها أنا أصنع كل شيء جديداً» (رؤ 21: 5).
وأيضاً: «ثم رأيتُ سماءً جديدة وأرضاً جديدة، لأنَّ السماء الأولى والأرض الأولى مَضَتَا، والبحر لا يوجد في ما بعد. وأنا يوحنا رأيتُ المدينة المقدَّسة أُورشليم الجديدة نازلةً من السماء من عند الله مُهيَّأة كعروس مُزيَّنة لرجلها. وسمعتُ صوتاً عظيماً من السماء قائلاً: ”هوذا مسكن الله مع الناس، وهو سيسكن معهم، وهم يكونون له شعباً، والله نفسه يكون معهم إلهاً لهم. وسيمسح الله كلَّ دمعة من عيونهم، والموت لا يكون في ما بعد، ولا يكون حُزن ولا صُراخ ولا وجع في ما بعد، لأن الأمور الأولى قد مضت“» (رؤ 21: 1-4)
بهاء مجد الله:
إن كان في هذا الدهر «ليس تحت الشمس جديد» (جامعة 1: 9)، ففي الدهر الآتي فإنَّ كل ما سيكون في حالة المجد الإلهي ليس هو ”تحت السماء“ بمعناها القديم.
فبهاء جمال الأجساد السماوية نابع أساساً من النور الإلهي ما عبَّر عنه النبي إشعياء: «ويكون نور القمر كنور الشمس، ونور الشمس يكون سبعة أضعاف كنور سبعة أيام» (إش 30: 26). أي أنَّ كل العناصر سوف تكتسي بلمعان غريب، ليس كالمعتاد ولكن بحسب خلقتها الجديدة.
نفاية العالم تحترق:
تُعبِّر أسفار الكتاب المقدس عن هلاك العالم باستخدام كلمة ”النار“: «تزول السموات بضجيج، وتنحلُّ العناصر محترقة، وتحترق الأرض والمصنوعات التي فيها» (2بط 3: 11).
ويتبع القديس بطرس هذا التصوير بالوصية: «فبما أنَّ هذه كلها تنحلُّ، أيَّ أُناس يجب أن تكونـوا أنتم في سيرة مقدسة وتقوى؟ مُنتظريــن وطالبين سرعة مجيء يوم الرب» (2بط 3: 12).
و”النار“ و”الاحتراق“ كانا يُستخدمان لتصوير لا إبادة المخلوقات، بل تطهيرها لتكون خليقة جديدة، كما يحرق الفلاح والصانع نفايات الحقل أو المصنع.
ليس إبادة، بل تطهير وتجديد
هيئة هذا العالم:
وكما أتى الهلاك الأول للعالم بسبب الطوفان، هكذا التطهير الأخير للعالم سيكون بالنار، حسب وصف النبي إشعياء في العهد القديم: «لأنه هوذا الرب يأتي، ومركباته كزوبعة ليَرُدَّ بحمُوِّ غضبه، وزَجْرَه بلهيب نار» (إش 66: 15). وأن يُقال إنَّ العالم قد أُبيد بالطوفان قديماً يعني، لا أنَّ كل الحياة على الأرض قد أُبيدت، بل إن بداية جديدة قد أشرقت، وهذا ما عبَّر عنه سفر الرؤيا ”أرضاً جديدة“: «أنَّ السموات كانت منذ القديم، والأرض بكلمة الله قائمةً من الماء وبالماء، اللواتي بهنَّ العالم الكائن حينئذٍ فاض عليه الماءُ فهلك. وأما السموات والأرض الكائنة الآن، فهي مخزونة بتلك الكلمة عينها، محفوظةٌ للنار إلى يوم الدِّين وهلاك الناس الفُجَّار» (2بط 3: 7،6). فالذي هلك هو الإثم الذي شاع بين أُناس ذلك الزمان، وليس الخليقة في حدِّ ذاتها.
+ أما استخدام ”النار“ في كلمات القديس بطرس الرسول، فلأنها رمز لقوة التطهير والتقديس التي في قداسة الله وعدله.
إن نار قداسة الله ضد الخطية هي التي ”لا تُطفأ“ (مر 9: 16). فالنار هي رمز لتطهير وتجديد العالم، وليست للإبادة والإفناء، كما يقول القديس إيرينيئوس(4) (أسقف ليون - القرن الثالث). فالاحتراق هو فقط للتجديد والتطهير، وليس للإفناء.
+ إنَّ الأنبياء والرسل كانوا يوصوننا بإنذار شديد مستخدمين المجاز اللفظي لمادة النار، دون أن يُبالغوا في التعبير، مقابل شدة تكاسلنا وإهمالنا في الثبات في الحياة الصالحة.
(يتبع)
(1) On the Making of Man XXIII; NPNF, 2nd Ser., Vol. IV, p. 413.
(2) On the Soul and the Resurrection; NPNF, 2nd Ser., Vol. VI, p. 467.
(3) Christian Church Fathers, p. 350.
(4) Against Heretics V.36.1; ANF, Vol. I, p. 566.