للأب متى المسكين


يونان والمسيح

رأى الرب يسوع في يونان مثلاً مصغَّراً ليُبرهن به على موته وبقائه في الأرض - أي في القبر - ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ، وبرغم هذا الموت في حدوده النهائية التي بعدها لا يصبح للجسد أية فرصة للحياة حيث ينتن ويضرب فيه العفن؛ تصبح القيامة التي قامها الرب من الموت في اليوم الثالث ليست استمراراً لحياة سابقة، بل حياة جديدة بجسدٍ جديد ليس فيه بعد عناصر الموت، إذ يكون قد غلب الموت وأنهى على سلطانه في الجسد العتيق.
1 - ويونان بن أَمِتَّاي - كما يقول الكتاب - رجل عبراني من سبط زبولون، عاش ما بين سنة 850-820 ق.م، من مدينة جتّ حافر في تخوم زبولون. وهو الذي تنبَّأ أيام يربعام الثاني ملك إسرائيل، وأَمَصْيا وعزريا مَلِكَي يهوذا. وهو محسوب من طبقة الأنبياء، مع ناحوم وعوبديا، الذين نادوا بدينونة الشعوب كأُمم. على أن قرعة سُكنى زبولون في أرض كنعان، كانت بحسب نبوَّة يعقوب إسرائيل قبل موته: «زبولون عند ساحل البحر يسكنُ، وهو عند ساحل السفن وجانبه عند صيدون» (تك 13:49). وهذا ما حدث بالفعل على يد يشوع بعد هذه النبوَّة حينما أَسكَن سبط زبولون هناك. والمعنى أن يونان كان يسكن بجوار البحر.

2 - أمـا نينوى فهي مدينـة يصفها الكتاب أنها مدينة عظيمة، وهي عاصمة أشـور - (العراق الآن) - وبلاد أشور هي التي أسَّسها أشور من أحفاد كوش بن حام بن نوح. وكانت مدينة جميلة، محيطها - كما يقول الكتاب - مسيرة ثلاثة أيام. وهذا معناه أنَّ مساحتها 90 ميلاً مربعاً، وقد عمَّرت 1500 (ألفاً وخمسمائة) سنة. والذي بناها هو الملك تَغْلَث فَلاسِر الأول ابن شَلْمَنْأَسَر الأول، وهو أول مَنْ ذكره الكتاب من ملوك الأشوريين. وضعفت المدينة جداً، ولكن جدَّدها تَغْلَث فَلاسِر الثالث. وهذا الملك هو الذي أذلَّ يهوآحاز ملك يهوذا، وفقْح وهوشع مَلِكَي إسرائيل، ورصين ملك دمشق، وحيرام ملك صور، ومرودخ بلادان؛ وهاجم إسرائيل وسَبَى السبطين ونصف الذين كانوا عَبْرَ الأردن، وأَسكنهم أرضه وقد فَنَوا هناك وزال اسمهم إلى الأبد. ثم هاجم شلمنأسر الخامس إسرائيل وأذلَّ هوشع ملك إسرائيل وأودعه السجن، وسَبَى إسرائيل وأسكنهم في مدنه (2مل 1:17-5) سنة 721 ق.م.

وانتقام الرب من أشور يصفه صَفَنْيا حيث سقطت. فبعدما استخدم الله أشور لتأديب إسرائيل كعصا تأديب، إلاَّ أنه عاد وكسر هذه العصا: «لأنه لا تستقر عصا الأشرار على نصيب الصِّدِّيقين» (مز 3:125)، «ويل لأشور قضيب غضبي، والعصا في يدهم هي سخطي. على أُمة منافقة أُرسله، وعلى شعب سخطي أُوصيه ليغتنم غنيمة وينهب نهباً، ويجعلهم مدوسين كطين الأزقَّة...» (إش 5:10-11).

أما كون الله يُرسل يونان كنبي إنذار ليُنبئ نينوى (وهي مدينة أُممية لا تعرف شمالها من يمينها) بخرابها إذا لم تَتُبْ، فكان هذا صورة واقعية للأمم في تدبير الله الذي أرسل ابنه ليدعو أُمم العالم التي لا تعرف شمالها من يمينها لكي يتوبوا وتُمحى خطاياهم. والمَثَل محبوك غاية الحَبْك لأنه كما تابت نينوى بمناداة يونان باسم الله، هكذا دخلت الأمم في عصر توبتها بالمناداة باسم الرب يسوع المسيح. ولكن لم يكن مجاناً أن قبلت نينوى توبتها، إذ دفع يونان ثمن هذه المناداة من حياته ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ قضاها في قفص الموت في باطن حوت، يقول القديس جيروم عنه إنَّ حلقومه واسع جداً كحلقوم الموت، وهو من فصيلة تُسمَّى ”زافا“ من أكبر أنواع الحيتان المعروفة، أرسله الرب خصيصاً لكي يُشبه الهاوية.

والعجيب أنَّ يونان بعد أن تقبَّل رسالة الكرازة بهلاك نينوى إذا لم تكمل توبتها في المسوح والرماد والصوم حتى التصاق البطون في الأرض، حاول الهرب؛ فكان هروبه لحياته من وجه الرب - لمرارة الرسالة - معناه الحكم بالإعدام على نينوى، فلم يسمح له الله. وكأنَّ محاولة هروب يونان قريبة الشَّبَه من جثسيماني التي أراد فيها الرب كإنسان أن يُجيز الآب عنه هذه الكأس لشدة مرارتها، فلم يسمح. وكان أن تمَّت إرادة الآب وقَبِلها الابن راضياً. وكما كلَّفت جثسيماني الركوع والدموع والحزن الشديد حتى الموت، كلَّفت يونان محاولة هروبه أن يُلقَى أخيراً في البحر كمسخوطٍ عليه من قِبَل الله، ورَضِيَ يونان بذلك؛ بل هو الذي طلب أن يلقوه في البحر ليهدأ زئير الموت الذي نَوَى أن يبتلعهم.

كانت رحلة يونان إلى أرض ترشيش، التي هي كيليكية في آسيا الصغرى، التي نَوَى الاختباء فيها على بُعْد 250 ميلاً. والعجب أنه لَمَّا قذفه الحوت على شاطئها، أعاد الله أمره ثانية إذ كان له بالمرصاد. فالربُّ يصنع أمراً كان مقضياً به على الأرض، ولا رادَّ لقضائه، مهما تفنن الإنسان في هروبه. وكان على يونان أن يسير على رجليه حتى يصل إلى نينوى وهي مسافة الـ 250 ميلاً بعينها.

ونادَى يونان، وتابت نينوى. ولكن اهتم الكتاب بأن يصف بدقة شروط التوبة، لأن هذا هو بيت القصيد من صوم نينوى ومن موضعه قبل الأربعين المقدسة بأسبوعين.

يقول الكتاب:

+ «فآمن أهل نينوى بالله، ونادوا بصوم، ولبسوا مُسُوحاً من كبيرهم إلى صغيرهم. وبلغ الأمر ملك نينوى، فقام عن كرسيه، وخلع رداءه عنه، وتغطَّى بمسح، وجلس على الرماد. ونُودِي وقيل في نينوى عن أمر الملك وعظمائه قائلاً: لا تَذُق الناس ولا البهائم ولا البقر ولا الغنم شيئاً، لا تَرْعَ ولا تشرب ماءً. وليتغطَّ بمسوح الناس والبهائم، ويصرخوا إلى الله بشدة، ويرجعوا كل واحد عن طريقه الرديئة وعن الظلم الذي في أيديهم؛ لعل الله يعود ويندم ويرجع عن حُمُو غضبه فلا نهلك» (يونان 5:3-9).

والآن، أيها الإخوة، أُصارحكم القول إني في حياتي لم أرَ ولم أسمع عن منهج توبة صادقة وأمينة وشُجاعة، شَجاعة مَنْ كأنه يواجه شخص الموت لكي يصرعه ويرميه أرضاً ويدوسه بقدميه؛ شجاعة هي بعينها شجاعة الارتفاع على صليب الموت ليُحدر الموت إلى التراب ويدوسه بقدميه. ما أعجب هذا الملك، ملك نينوى، الذي أتاه الله هذه النعمة وهذه الشجاعة والجرأة التي تحدَّى بها إنذار الموت.

عجبي على حكمة هذا الملك النبي، كيف أَمَرَ أنَّ الأطفال الرُّضَّع يُرفَع عنهم الثدي ليصل صراخهم ربَّ السماء، وتُمنَع حتى البهائم عن الأكل والشرب ليكون صراخها أعلى من صراخ الإنسان ليدخل أُذنيِّ ربِّ الرحمة. وكيف ساوَى نفسه بعبيده بنـزوله عن عرش مُلكه بلبس المسوح من شعر الماعز الخشن والارتماء على الأرض، حتى يراه عبيده فيتسابقوا بالتمثُّل به في لِبْس المسوح والانبطاح في الرماد والصراخ إلى الله، وصارت توبتهم بأمر ملكي: عن الظلم والغش والسرقة وإتيان الشر والإثم. مَنْ سمع مثل هذا؟ مَنْ رأى ملكاً يقود شعبه في الصراخ إلى الله وطلب التوبة بلبس المسوح والتمرُّغ في الرماد؟

لم تكن خشيتهم من موت، لأنهم بعملهم هذا فاقوا ألم الموت، ولكن كانت خشيتهم من الله الذي في يده الموت والحياة. نظر الله من السماء فرأى المدينة العظيمة نينوى منبطحة على الأرض يقود تذلُّلَهم ملكُهم الذي كان السابق في ذُلِّه ومُسحه وتمرُّغه في التراب، والصراخ يزلزل الأرض، وقد بلغ السماءَ صراخُ ملكٍ وشعب وأطفال رُضَّع وبهائم. الكل بنفس واحدة يطلب الرحمة. يقول الكتاب: «فلما رأى الله أعمالهم أنهم رجعوا عن طريقهم الرديئة، ندم الله على الشر الذي تكلَّم أن يصنعه بهم فلم يصنعه!» (يونان 10:3)

ووَضْعُ صوم يونان الذي حتَّمته الكنيسة لكي يكون قبل الأربعين المقدسة، هو إلهام بالروح تُشير إليه كلمة الإنذار التي أعطاها الله لنينوى أنَّ بعد أربعين يوماً تنقلب نينوى.

ويقيناً أنَّ الأربعين المقدسة التي صامها المسيح، صامها عن العالم، حتى يرفع عنه حُكْم انقلاب كان قد صدر من الآب بخصوص العالم ونحن لم نَدْرِ.

أيها الأحبَّاء، إنَّ قصة صيام يونان، ومِن إحكام وضعه قبل الأربعين المقدسة؛ نُدرك بوضوح قيمة الصوم سواء لدى الله الذي يُجازِي، أو الإنسان الذي يتوب. فليست توبة بلا صوم إنْ كان حقّاً بخوف الله وبصراخ صادق من القلب، فإنه قادر أن يفتح باب الرحمة لتتدفَّق إحسانات الله بدل عقاب التأديب. فهو الإنقاذ الوحيد من حرج موقف الخاطئ حينما يسمع بأُذني قلبه أنَّ صبر الله قد فرغ وتعدَّت الخطايا حدود اللياقة، خاصة إنْ كان الإنسان قد تزيَّا بزيِّ الأتقياء، فلم يصدر عنه إلاَّ الخطايا والعيوب تحت اسم التقوى الكاذبة وصورة أعمالها وأقوالها التي يُصدِّقها الناس ويمدحونها، بشبه نينوى العظيمة.

ولكن، وقبل أن يتحرَّج موقف الإنسان من الله ويصبح إمَّا صوماً للتوبة وإلاَّ فالرفض والهلاك؛ فإنَّ الصوم مُعينٌ للتقوى، لأنه يُلهب قلب العابد ليُشدِّد من وقفة الصلاة وذرف الدموع وقَرْع الصدر ولذَّة السجود؛ أمور كلها عناصر منفتحة على سيرة القديسين، ومحسوبة من أعمالهم التي غلبوا بها العالم وعَبَروا فرحين منتصرين، وتركوا لنا مسيرتهم مُعطَّرة بأعمال النسك جميعاً وعلى رأسها الصوم. فالصوم بمثابة مَنْ يقتطع لحمه ودمه ويُقدِّم ذبيحة تستحسنها ”ملائكة الصوم“ التي جاءت فَرِحة تخدم المسيح بعد أن أكمل صوم الأربعين، وتركه الشيطان خازياً.

وقد حَسِبَ المسيح أن صوم الجسد توطئة لازمة لقهر الشيطان، إذ بعدما أكمل صومه جاع، وكأنَّ الجسد بجوعه أعطى فرصة للشيطان أن يتقدَّم بعد أن كان ممنوعاً من الاقتراب طيلة الأربعين؛ إذ كان الصوم حَدّاً من نار يُرعب الشيطان. فكان جوع الجسد، وكأنَّ طلب الطعام كان منفذاً في حدِّ النار نفذ منه العدو ليُمارِس حقده وتحديه، فما أصاب. لذلك أوصى المسيح أن «”صوموا“ (وصلُّوا) لكي لا تدخلوا في تجربة».

عجيب حقّاً، يا إخوة، أن يترك لنا المسيح مثال صومه لنسير على إثر خطواته لننال قوةً وانتصاراً. وهل يمكن أن نسير خلفه حاملين الصليب إلاَّ بعد أن نجوز خبرة صومه وجهاده وننال قوة ونصرة من حياته؟ إنِّ صوم المسيح جزءٌ لا يتجزَّأ من صعوده على صليب موته وفدائه. فإن كانت القيامة سبقها موته، فموته سبقه صيامه.

ثم أَليس صوم المسيح يُخزي القائلين بأنَّ الصوم عمل سلبي، فما صام المسيح لكي يضبط الجسد، وما صام ليتغلَّب على شهوات أو انحرافات؛ ولكنه صام بتدبير الآب، لأنه لم يذهب إلى البرية ليصوم بمشيئته، ولكن يقول الكتاب بوضوح وصراحة: «ثم أُصعِدَ يسوع إلى البرية من الروح...» (مت 1:4)، لا هروباً من تجربة إبليس، بل لكي يواجه تجربة إبليس. فكان صومه سلاحاً إيجابياً جبَّاراً كقاعدة انطلق منها ليواجه تجارب إبليس.

بهذا الوضع قدَّم المسيح لنا الصوم كقاعدة إيجابية نواجه بها تجارب إبليس ونتحدَّاه: «أمَّا هذا الجنس فلا يخرج إلاَّ بالصلاة والصوم» (مت 21:17)، لأن المسيح يعلم أنه بالصوم يرتقي العقل الواعي فوق الجسد ومشاغباته، فيكون العقل مستعدّاً أن يحتمل أشد الضربات وأسوأ الحوادث المفاجئة التي يسوقها العدو لانهزامنا، ولكن يقف الإنسان صاحياً كأسد لا يهتز. فالصوم انحياز كلِّي للوعي الروحي، بل هو انحياز لقُوى الروح ومشورة السماء. وبدونه يستحيل أن يقول إنسان إني قد صُلِبتُ مع المسيح. فالذي يقبل أن يُصلَب يكون قد سبق وقدَّم الجسد على مذبح الصوم.

و”أنا“ الإنسان يستحيل أن تَقْبَل أن تُصلَب مع المسيح إلاَّ بعد أن تتحرَّر الأنا من عبودية الجسد، وهذا لا يتم إلاَّ بالصوم. لأن الذي يقول: ”أنا صُلِبتُ مع المسيح“، فهذا يعني أنه قد مات بالجسد العتيق، والجسد العتيق لا يمكن أن يذوق الموت إلاَّ بالصوم.

لذلك يُحسَب الصوم في أقوى حالاته أنه شريك القيامة، أو هو قوة الذين يعيشونها.

ثم ما السرُّ المُخْفَى وراء الصوم الشديد وضياع قوة الجسد؟ هذا نعرفه بصورة خاصة جداً من ملاك إيليا الذي استحضر له كعكة وكوز ماء ليأكل بعد أن سار يوماً كاملاً بلا أكل ولاشرب إلى أن جاء وجلس تحت الرتمة. فلما أكل الكعكة وشرب من الكوز نام من الإنهاك، فمسَّه الملاك وأيقظه واستحضر له كعكة ثانية وكوز ماء وقال له: قُمْ وكُلْ لأن المسافة كثيرة عليك. فقام وأكل وشرب، وسار بقوة تلك الأكلة. ولكن على وجه الأصح أراد الكتاب أن يقول إنَّ بقوة هذا الصوم سار إيليا أربعين نهاراً وأربعين ليلة حتى بلغ جبل حوريب (1مل 4:19-9).

وهكذا نأتي أيضاً إلى سرِّ قوة صوم الأربعين يوماً والأربعين ليلة، وما وراء هذا الصوم الأربعيني من قمة منجزات الإنسان: الصوم وهباته وبركاته؛ إذ بالنهاية رأى إيليا الربَّ وتكلَّم أمامه وأخذ توبيخاً وأخذ رسالة.

وكأنما أُعطِيَ الصوم للإنسان ليرى به وجه الله ويسمعه.

ولولا أن انحمق شعب إسرائيل وطلب خبزاً في البرية وماءً لَسَارَ الأربعين سنة بأكلة الفصح حتى دخل أرض الميعاد. فالذي سار أربعين يوماً وأربعين ليلة بأكلة وشربة ماء لا يصعب عليه وهو تحت يد الله أن يسير بها الأربعين سنة. ويتم بها قول الأمثال: «بركة الرب هي تُغْني ولا يزيد معها تعباً!» (أم 22:10)

وفي الحقيقة، يا إخوة، لو فحصنا بالروح سر قيام الإسقيط حتى اليوم ودوامه، وما وراء ما خلَّفه لنا شيوخه الأماجد من كنوز تركوها لنا ميراثاً نعتزُّ به؛ لوجدنا الصوم هو الكنـز الأكبر، تركوه لنا مختبئاً في برية، فبِعْنا العالم واشترينا البرية لنفوز بالكنـز!

(عام 2000م)

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis