دراسة الكتاب المقدس



سفر التثنية
سفر توصيات موسى الوداعية لبني إسرائيل
- 38 -


(تابع)
تفاصيل العهد وشروطه
(12: 1 - 26: 19)
ثانياً: أحكام متعلقة بالأمور المدنية وعلاقتها بالعبادة
(16: 18-20: 22)


(تابع)
الأصحاح السادس عشر

الحقوق المدنية للكهنة واللاويين (18: 1-8):
اللاويون الذين سبق لموسى أن أشار إلى وضعهم الخاص بين سائر الأسباط عدة مرات في سفر التثنية بالذات، وأيضاً في الأسفار السابقة؛ هو الآن، في هذا الأصحاح، يُمثِّل الموضوع الأول الذي يؤكِّد فيه على بعض الأحكام بأكثر تفصيل. فأول إشارة لهذا السبط، في سفر التثنية، هو قول موسى للشعب مُذكِّراً إيَّاهم بما أوصى به الرب من قبل بخصوص اللاويين، قائلاً: «في ذلك الوقت أفرز الرب سبط لاوي ليحملوا تابوت عهد الرب، ولكي يقفوا أمام الرب ليخدموه ويُباركوا باسمه إلى هذا اليوم. لأجل ذلك لم يكن للاوي قِسْمٌ ولا نصيب مع إخوته. الرب هو نصيبه كما كلَّمه الرب إلهك» (تث 10: 9،8).

وهنا يتجلَّى مقدار المجد والكرامة التي حازها سبط لاوي عندما أفرزه الرب وخصَّصه لخدمته، فقد صار الرب هو قِسْمه ونصيبه. وهذا هو أسمى وأعظم من كل نصيب وميراث أرضي مهما عظُم؛ بل هو يُغني عن أيِّ نصيب. وهكذا كل مَن يتخصَّص لخدمة الرب وعبادته، ويُخْلِص في بذله ومحبته للرب الإله. وفي هذا يقول القديس إيرينيئوس:

[لأن كل الأبرار يحوزون على رتبة كهنوتية (بنوعٍ ما) (انظر 1بط 2: 9،5). وكل رُسل الرب هم كهنة (انظر مت 16: 19؛ 18: 18؛ يو 20: 23)، الذين لم يكونوا يرثون هنا أراضٍ أو بيوتاً («ها نحن قد تركنا كل شيء وتبعناك» - مر 10: 28)، لأنهم تخصَّصوا لخدمة الرب والمذبح كل حين. الذين يقول عنهم موسى أيضاً في سفر التثنية: «الذي قال عن أبيه وأُمه: لم أرَهما، وبإخوته لم يعترف، وأولاده لم يعرف؛ بل حفظوا كلامك وصانوا عهدك» (تث 33: 9).

ولكن مَن هم هؤلاء الذين تركوا الأب والأُم، وقالوا: وداعاً لكل أقربائهم، وذلك من أجل كلمة الله وعهده؛ سوى تلاميذ الرب؟ الذين عنهم يقول موسى أيضاً: «لم يكن لهم قِسْمٌ ولا نصيبٌ مع إخوتهم، الرب هو نصيبهم» (انظر تث 10: 9)، وأيضاً: «لا يكون للكهنة اللاويين، كل سبط لاوي، قِسمٌ ولا نصيبٌ مع إسرائيل، يأكلون وقائد الرب ونصيبه» (تث 18: 2،1). فهذا هو طعامهم (نصيب الرب من الذبائح)...

أما تلاميذ الرب الذين كانوا كهنة للرب، الذين كان من حقِّهم أن يأكلوا من سنابل القمح عندما جاعوا، قال الرب عنهم: «لأن الفاعل مستحق طعامه» (مت 10: 10)، «فالكهنة في السبت في الهيكل يُدنِّسون الهيكل وهم أبرياء» (مت 12: 5). فهُم، إذن، أبرياء، لأنهم عندما يكونون في الهيكل فإنهم لا ينشغلون في أيِّ أعمال عالمية، بل في خدمة الرب، مُتمِّمين الناموس ولا يتجاوزونه...](1).

هكذا اللاويون، فقد كانوا رمزاً لرسُل الرب وخدَّامه وكهنته، الذين قال عنهم بولس الرسول مُدلِّلاً على صِدق هذا المعنى: «ألستم تعلمون أن الذين يعملون في الأشياء المقدسة، من الهيكل يأكلون؟ الذين يُلازمون المذبح، يُشاركون المذبح. هكذا أيضاً أمر الرب أن الذين ينادون بالإنجيل من الإنجيل يعيشون» (1كو 9: 14،13). كما قال أيضاً في نفس هذا المعنى: «إن كُنَّا قد زرعنا لكم الروحيات، أفعظيمٌ إن حصدنا منكم الجسديَّات؟» (1كو 9: 11).

فهذا هو نفس ما يتكلَّم عنه موسى النبي بخصوص اللاويين قائلاً:

+ «لا يكون للكهنة اللاويين، كل سبط لاوي، قِسْمٌ ولا نصيب مع إسرائيل (في ميراث أرض الموعد). يأكلون وقائد الرب ونصيبه. فلا يكون له نصيبٌ في وسط إخوته، الرب هو نصيبه كما قال له.

وهذا يكون حقُّ الكهنة من الشعب من الذين يذبحون الذبائح بقراً كانت أو غنماً. يُعْطُون الكاهن السَّاعد والفكَّيْن والكِرش. وتُعطيه أول حنطتك وخمرك وزيتك وأول جزاز غنمك. لأن الرب إلهك قد اختاره من جميع أسباطك لكي يقف ليخدم باسم الرب هو وبنوه كل الأيام» (18: 1-5).

هنا يتكلَّم موسى عن حقوق الكهنة واللاويين لدى الشعب. ومعنى قوله: «لا يكون للكهنة اللاويين، كل سبط لاوي»، أي لا يكون للكهنة الذين هم من سبط لاوي، ولا للسبط كله، نصيب مع أسباط إسرائيل في ميراث أرض الموعد، ولا يشتركون مع باقي الشعب في الحرب، لأن عملهم قاصر على خدمة الرب. ولذلك يأكلون ”وقائد الرب ونصيبه“، أي أنهم يأكلون من الذبائح التي تقدَّم للرب وتوقد منها أجزاء على مذبح الرب. وذلك لأن ”الذين يعملون في الأشياء المقدسة، من الهيكل يأكلون. الذين يُلازمون المذبح، يُشاركون المذبح“، كما قال بولس الرسول.

وقد سبق الرب أن حدَّد حقوق الكهنة من الذبائح في (عد 18: 8-20)، وهنا يُذكِّرهم موسى ببعض هذه الحقوق: ”الساعد والفكَّين والكِرش“. والساعد هو الساق الأمامية اليُمنى من الذبيحة، والفكَّان هما جزء من الرأس، والكِرش يعني الأمعاء. وكان للكاهن، علاوة على نصيبه من لحم الذبائح، باكورة محصول الحنطة والكروم والخمر والزيت، وكذلك باكورة ما يُجزُّ من صوف الغنم.

ثم يعود موسى ويُكرِّر لهم سبب إلزامهم بتقديم هذه التقدمات لكهنة الرب، قائلاً: «لأن الرب قد اختاره من جميع أسباطك لكي يقف ليخدم باسم الرب هو وبنوه كل الأيام».

حقُّ اللاوي اللاجئ إلى بيت الرب:

+ «وإذا جاء لاويٌّ من أحد أبوابك من جميع إسرائيل حيث هو متغرِّب، وجاء بكل رغبة نفسه إلى المكان الذي يختاره الرب، وخدم باسم الرب إلهك مثل جميع إخوته اللاويين الواقفين هناك أمام الرب، يأكلون أقساماً متساوية عدا ما يبيعه عن آبائه» (18: 6-8).

يتعرَّض هنا موسى النبي لوضعٍ خاص استلزم عمل تشريعٍ استثنائي لأي لاوي متغرِّب في أيِّ مدينة من المدن المخصَّصة لهم في جميع إسرائيل، حسب ما جاء في سفر العدد (35: 1-8)، إذا حدث أن أراد هذا اللاوي أن يترك مدينته ويذهب إلى الموضع المقدس الذي اختاره الرب، لكي يتفرغ لخدمة بيت الرب «بكل رغبة نفسه»، «مثل جميع إخوته اللاويين الواقفين هناك أمام الرب»؛ فيجب أن تُتاح له هذه الفرصة مثل باقي إخوته اللاويين القائمين بالخدمة، وذلك بحسب الترتيب المعيَّن لكل عشيرة من عشائرهم الثلاث، سواء أكان من القهاتيين أو الجرشونيين أو المراريين.

كما يلزم أن يُعطَى الجميعُ أنصبةً متساويةً لمعيشتهم. لأن هذا هو حقُّهم عن خدمتهم، فيما عدا ما يتحصَّلون عليه من مواردهم الخاصة التي ورثوها عن آبائهم. فالرب لا يمنع أحداً من خدمته طالما كان ذلك في حدود اختصاصه، وبكل رغبة نفسه وإخلاص قلبه، على أن تُكْفَل له احتياجات معيشته.

تحذيرهم من العرافة والسِّحْر وما أشبه من الممارسات الوثنية (18: 9-14):

+ «متى دخلتَ الأرضَ التي يُعطيك الربُّ إلهك، لا تتعلَّم أن تفعل مثل رِجْس أولئك الأُمم. لا يوجد فيك مَن يُجيز ابنه أو ابنته في النار، ولا مَن يَعْرُفُ عِرَافة، ولا عائفٌ، ولا متفائلٌ، ولا ساحرٌ. ولا مَن يَرْقَى رُقْيَة، ولا مَن يسأل جانّاً أو تابعة، ولا مَن يستشير الموتى. لأن كل مَن يفعل ذلك مكروه عند الرب. وبسبب هذه الأرجاس الربُّ إلهك طارِدُهم من أمامك. تكون كاملاً لدى الرب إلهك. إن هؤلاء الأمم الذين تخْلُفهم يسمعون للعائفين والعرَّافين. وأما أنت فلم يسمح لك الربُّ إلهك هكذا» (18: 9-14).

هنا يُحذَّرهم موسى، متى دخلوا أرض الموعد، من التمثُّل بسكان الأرض الذين سيطردهم الرب من أمامهم، بسبب ممارساتهم الوثنية من سِحْر وشعوذة، التي كانوا يظنُّون أنه بواسطتها يسترضون آلهتهم (انظر لا 18: 10؛ 20: 2-5).

فبعد أن كلَّمهم موسى عن الكهنة واللاويين خدَّام الرب، وواجب رعاية حقوقهم؛ يعود الآن فيُحذِّرهم من الالتجاء إلى خدَّام الأوثان أو مَن يتبعهم من شعوب الأرض، مِمَّن يُمارسون أنواع العبادات الوثنية مثل: إجازة أبنائهم أو بناتهم في النار في أوقات الأزمات استرضاءً لآلهتهم (انظر لا 18: 26-30)، أو العِرافة، أو العيافة، أو التفاؤل، أو السِّحْر، أو الرُّقية، أو سؤال الجان أو التابعة، أو استشارة الموتى (انظر لا 19: 31،26؛ 20: 27؛ إش 8: 19؛ 1صم 28: 7).

فقد أراد الرب أن يُحصِّن شعبه من الالتجاء إلى هذه الأعمال الشيطانية من أجل معرفة الغيب أو التنبُّؤ بالمستقبل. فهذا كله خداع من الشيطان حتى يلجأوا إليه عِوَض الالتجاء إلى الله من خلال خدَّامه الأمناء.

ويُورد موسى النبي هنا تسعة تعبيرات عن هذه الممارسات الشيطانية، التي اندثر الكثير منها، ومن الصعب التمييز بينها في هذه الأيام. ويُقصَد بالعِرافة ادِّعاء معرفة الغيب بمساعدة الشيطان، كمثل الجارية التي كان بها روح عِرافة التي اتَّبعت بولس الرسول، وهي تصرخ قائلة: «هؤلاء الناس هم عبيد الله العلي، الذين يُنادون لكم بطريق الخلاص... فضجر بولس والتفت إلى الروح وقال له: أنا آمرك، باسم يسوع المسيح، أن تخرج منها. فخرج في تلك الساعة» (أع 16: 16-18).

ويندرج تحتها أيضاً محاولة معرفة البخت والحظ عن طريق الفنجان والكف والنجوم وما إلى ذلك. وكل هذا هو خداعٌ من العدو.

أما العائف فهو الذي يتشاءم أو يتفاءل من سماع صوت أو رؤية طير، أو سماع صوت غراب ينعق، أو بومة تزعق. وكذلك المتفائل الذي ينتظر الخير عند رؤية شيء أو شخص مُعيَّن.

أما السِّحْر فهو اعتماد الإنسان على الشيطان في تنفيذ مآربه، باستخدام أدوية وأعشاب وأنواع بخور وكلمات مُعيَّنة يعتقد قائلوها أن لها مفعولاً سحريّاً بتدخُّل الشيطان والأرواح الشريرة، ولِبس التعاويذ والأحجبة.

وكذلك الذي يَرقَى رُقية، فهي تعني حرفياً مَن يَعقد عُقَداً، أي يربط إنساناً بعُقَدٍ سحرية لضرره. وهذه كلها من أعمال الشيطان، التي تُصلِّي الكنيسة كل حين من أجل إبطالها وعدم سريانها على أولادها، وذلك في صلاة الشكر قائلة: ”كل حسد، وكل تجربة، وكل فعل الشيطان، ومؤامرة الناس الأشرار، وقيام الأعداء الخفيين والظاهرين؛ انزعها عنَّا، وعن سائر شعبك، وعن موضعك المقدَّس هذا“. وأولاد الله المؤمنون، والملتصقون به، لن تَقْوَى عليهم كل أعمال إبليس.

أما سؤال الجان أو التابعة أو استشارة الموتى، فهذه كلها محاولات من الإنسان لمعرفة الغيب والتنبُّؤ بالمستقبل بالاتصال بالأرواح وتحضيرها. وهي خداع من الشيطان، وقد حرَّمها الرب، لأنه يريد من المؤمنين أن يتَّكلوا عليه وحده، لأنه هو وحده القادر أن يسدَّ كل إعوازنا.

كما أن الالتجاء إلى مثل هذه الأعمال، هو في الحقيقة جحود لقوة الرب وسلطانه، وهو مَكْرَهة للرب. كما أنه بسبب هذه الممارسات الوثنية طرد الرب الكنعانيين من أرض الموعد.

كما جاء أيضاً قول الرب على لسان إشعياء النبي قائلاً: «وإذا قالوا لكم: اطلبوا إلى أصحاب التوابع والعرَّافين المُشقشقين والهامسين. أَلا يسأل شعبٌ إلهه؟ أيسأل الموتى لأجل الأحياء؟ إلى الشريعة وإلى الشهادة. إنْ لم يقولوا مثل هذا القول، فليس لهم فَجْرٌ» (إش 8: 20،19). فلا شكَّ أن في كلمة الله الكفاية، فهي النبع الصافي الذي يستقي منه شعب الله في كل زمان ومكان.

وقد ظهر في عهد الرسل سحرة أضلُّوا الشعب، مثل: ”سيمون الساحر“، الذي ظل يُدهِش شعب السامرة بسحره: «وكان الجميع يتبعونه من الصغير إلى الكبير، قائلين: هذا هو قوة الله العظيمة. وكانوا يتبعونه لكونهم قد اندهشوا زماناً طويلاً بسحره. ولكن لما صدَّقوا فيلُبُّس (المُبشِّر)، وهو يُبشِّر بالأمور المختصة بملكوت الله، وباسم يسوع المسيح، اعتمدوا رجالاً ونساءً. وسيمون أيضاً نفسه آمَنَ. ولما اعتمد كان يُلازِم فيلُبُّس. وإذ رأى آياتٍ وقواتٍ عظيمة تُجْرَى، اندهش» (أع 8: 9-13).

ولكن لما طلب سيمون الساحر أن يقتني موهبة الله بدراهم، انتهره بطرس الرسول قائلاً: «لتكن فضتك معك للهلاك، لأنك ظننتَ أن تقتني موهبة الله بدراهم. ليس لك نصيبٌ ولا قُرعة في هـذا الأمر، لأن قلبك ليس مستقيماً أمام الله. فتُب مـن شرِّك هذا، واطلب إلى الله عسى أن يغفر لك فِكْر قلبك، لأني أراك في مرارة المُر ورباط الظلم» (أع 8: 20-23).

وكذلك، في جزيرة قبرص، التقى بولس وبرنابا بساحرٍ آخر اسمه: ”بار يشوع“، ويُدعى أيضاً ”عليم“، وكان يهودياً. وقد حاول أن يُفسِد والي الجزيرة ويردَّه عن إيمانه بالمسيح، فقال له بولس الرسول: «... أيها الممتلئ كل غش وكل خُبث، يا ابن إبليس، يا عدو كلِّ برٍّ، أَلا تزال تُفسِد سُبُل الله المستقيمة. فالآن، هوذا يدُ الرب عليك، فتكون أعمى لا تُبصر الشمس إلى حين. ففي الحال، سقط عليه ضبابٌ وظُلمةٌ، فجعل يدور مُلتمساً مَن يقوده بيده» (أع 13: 6-11).

وهكذا يتضح مقدار كراهية الرب لكل ممارسات السِّحْر والشعوذة.

(1) St. Irenaeus, A. H.; ANF, Vol. I, Book IV, Chap. VIII. (يتبع)