دعوة لتجديد العهد مع الله

للذين فقدوا حرارة الروح الأولى

- 13 -

طعام الأقوياء

(تكملة لِمَا سبق)


«قدِّموا في إيمانكم فضيلة،
وفي الفضيلة معرفة،
وفي المعرفة تعفُّفاً،
وفي التعفُّف صبراً...»
(2بط 1: 5-8)

رأينا في المقال السابق (عدد يناير 2011، ص17) أنه لابد للمعرفة من حارسٍ لكي يحفظها من الانحراف. ووجدنا أن الحارس هو التعفُّف وضبط النفس. ولا شكَّ أن فضيلة التعفُّف وضبط النفس تحتاج هي أيضاً إلى فضيلة أخرى حارسة لها وهي الصبر، لذلك أضاف بطرس الرسول قائلاً: «... وفي التعفُّف صبراً». وقد أوضح الرب يسوع في تفسيره لمَثَل الزارع، الفرق بين ما سقط على الطريق، وما سقط على الصخر، وما سقط بين الشوك، وما سقط على الأرض الجيدة. فالكل سمعوا الكلمة، ولكن الذين أثمرت فيهم، هم «الذين يسمعون الكلمة فيحفظونها في قلب جيد صالح ويُثمرون بالصبر» (لو 8: 15). أي أن سماع الكلمة يحتاج مِنَّا إلى قبولها بالإيمان، والعمل بها بمعرفة، وحفظها بتعفُّف، أي «في قلب جيد صالح» لكي تُثمر فينا بالصبر.
والقديس بولس الرسول يقول في رسالته إلى العبرانيين: «ولكن تذكَّروا الأيام السالفة التي فيها بعدما أُنِرتم (أي آمنتم واعتمدتم واستنارت أعين قلوبكم بمعرفة الله)، صبرتم على مجاهدة آلام كثيرة... لأنكم تحتاجون إلى الصبر، حتى إذا صنعتم مشيئة الله، تنالون الموعد» (عب 10: 36،32). ويُعلِّق على ذلك الأب متى المسكين قائلاً:

[بولس الرسول هنا يتكلَّم من خبراته ليستحثَّ بَنِي جلدته أن يستفيقوا من نوم الغفلة، وقد أصبحوا بين فكَّي الأسد، ليذكروا كيف خرجوا سابقاً خروجاً جليلاً مجيداً محتملين أقصى ما يحتمل الإنسان ثمناً لخلاصه. وواضح أن الاضطهادات التي دخلوا فيها تكثَّفت بعد معموديتهم مباشرة: «بعدما أُنِرتُم». وكلمة ”أُنِرتم“ تُرجمت في اللغة السريانية: ”بعدما تعمَّدتم“... والآن يُذكِّرهم بولس الرسول كيف احتملوا بصبرٍ هذه الحرب المريرة، فما بَقِيَ لهم إلاَّ القليل لينالوا الإكليل...

وتكميلاً لقوله السابق: «لا تطرحوا ثقتكم التي لها مجازاة عظيمة» (عب 10: 35). فالثقة هي شجاعة الإيمان والتمسُّك به، هي التي بها يبلغون المجازاة العظيمة. ومع هذه الثقة يتبقَّى شيء واحد هام للغاية هو الصبر، لأن الثقة، أي شجاعة الإيمان والتمسُّك به، لن تدوم إزاء المحن والتجارب إلاَّ إذا رافقها وساندها الصبر. فالصبر بحدِّ ذاته هو عمل تام كقول يعقوب الرسول: «عالمين أن امتحان إيمانكم يُنشئ صبراً، وأما الصبر فليكن له عملٌ تام، لكي تكونوا تامين وكاملين غير ناقصين في شيء» (يع 1: 4،3)](1).

وفي هذا يقول أيضاً القديس يوحنا ذهبي الفم:

[إذن، فأنتم لا تحتاجون إلاَّ إلى شيء واحد فقط، أن تنتظروا حياة الدهر الآتي، وليس أن تجاهدوا أيضاً. أنتم الآن قائمون في انتظار الفوز بالإكليل، لأنكم صبرتم على كل المتاعب والقيود والمحن ونهب أموالكم، فماذا تبقًَّى؟ الثبات (في الإيمان) لكي تُتَوَّجوا. ولهذا اصبروا واحتملوا منتظرين زمان مَنْح الإكليل! يا للتعزية العظيمة](2).

وكلمة الصبر باللغة اليونانية (hupomone) ?pomon». وهي مكوَّنة من مقطعين: ?po وتعني ”تحت“، وmen? أي ”يبقى أو يُقيم أو يسكن“. والمقطعان معاً يُفيدان معنى البقاء تحت أي ظرف، أي الاحتمال أو الصبر والجَلَد، أو الثبات والصمود. وهي قد تفيد المفهوم السلبي أو الإيجابي.

? أما المفهوم السلبي فيعني:

أ - احتمال الضيقات: مثل ما جاء في رسالة يعقوب الرسول:

«عالمين أن امتحان إيمانكم يُنشئ صبراً» (يع 1: 3). وقد جاءت أيضاً بنفس هذا المعنى في قول الرب يسوع لتلاميذه: «وتكونون مُبغضين من الجميع من أجل اسمي. ولكن شعرة من رؤوسكم لا تهلك. بصبركم اقتنوا أنفسكم» (لو 21: 17-19)، أي أننا بصبرنا واحتمالنا للضيقات والاضطهادات نقتني لأنفسنا الخلاص والنجاة والحياة الأبدية. ويُقابلها في إنجيل القديس متى الرسول: «ولكثرة الإثم تبرد محبة الكثيرين. ولكن الذي يصبر إلى المنتهي فهذا يخلص» (مت 24: 13،12). و”إلى المنتهى“ هنا تعني: ”إلى آخر نسمة في الحياة“. وقد عبَّر عنها سفر الرؤيا بقوله: «كُن أميناً إلى الموت فسأُعطيك إكليل الحياة» (رؤ 2: 10). وقد أكَّد القديس يعقوب الرسول هذا المعنى بقوله: «طوبى للرجل الذي يحتمل التجربة، لأنه إذا تزكَّى ينال إكليل الحياة الذي وعـد بـه الله للذين يحبونه» (يع 1: 12).

ب - الصبر على التجارب: والمقصود بالتجارب هنا، تجارب الخدمة التي عانى منها رُسل المسيح، والتي يُعاني منها حتى الآن خدَّامه الأُمناء. وفي ذلك يقول بولس الرسول:

+ «في كل شيء نُظهر أنفسنا كخُدَّام الله، في صبر كثير، في شدائد، في ضرورات، في ضيقات. في ضربات، في سجون، في اضطرابات، في أتعاب، في أسهار، في أصوام. في طهارة، في علم، في أناة، في لُطف، في الروح القدس، في محبة بلا رياء. في كلام الحق، في قوة الله بسلاح البر لليمين ولليسار. بمجدٍ وهوان، بصيتٍ رديء وصيت حَسَن. كمُضلِّين ونحن صادقون. كمجهولين ونحن معروفون. كمائتين وها نحن نحيا. كمؤدَّبين ونحن غير مقتولين. كحزانى ونحن دائماً فرحون. كفقراء ونحن نُغني كثيرين. كأن لا شيء لنا ونحن نملك كل شيء» (2كو6: 4-10).

كما يُخاطب بولس الرسول تلميذه تيموثاوس قائلاً:

+ «وأما أنت فقد تبعتَ تعليمي وسيرتي وقصدي وإيماني وأنـاتي ومحـبتي وصـبري واضطهاداتي وآلامي... أيَّة اضطهادات احتملتُ، ومن الجميع أنقذني الرب. وجميع الذين يريدون أن يعيشوا بالتقوى في المسيح يسوع يُضطهدون» (2تي 3: 10-12).

فهي ضريبة ينبغي أن يدفعها كل الذين يُريدون أن يعيشوا بالتقوى في المسيح يسوع. وعليهم أن يُظهروا بصبرهم صِدْق إيمانهم، واستقامة تعليمهم، وطهارة سيرتهم، وسلامة قصدهم، وحرارة محبتهم، وقوة احتمالهم لكل ما يأتي عليهم من اضطهاد وآلام وأحزان.

ج - احتمال تأديبات الله: وفي هذا يقول أيضاً القديس بولس الرسول:

+ «إن كنتم تحتملون التأديب يُعاملكم الله كالبنين. فأيُّ ابن لا يؤدِّبه أبوه؟ ولكن إن كنتم بلا تأديب، قد صار الجميع شركاء فيه، فأنتم نغول لا بنون» (عب 12: 8،7).

د – قبول الظلم: وفي هذا يقول أيضاً القديس بطرس الرسول:

+ «لأن هذا فضلٌ (أو نعمة) إن كان أحد من أجل ضميرٍ صالح نحو الله يحتمل أحزاناً متألِّماً بالظلم. لأنه أيُّ مجدٍ هو إن كنتم تُلطمون مخطئين فتصبرون؟ بل إن كنتم تتألمون عاملين الخير فتصبرون، فهذا فضل عند الله» (1بط 2: 20،19).

ثم يعود فيُضيف قائلاً:

+ «إن عُيِّرتُم باسم المسيح، فطوبى لكم لأن روح المجد والله يحلُّ عليكم. أما من جهتهم فيُجدَّف عليه، وأما من جهتكم فيُمجَّد. فلا يتألم أحدكم كقاتل أو سارق أو فاعل شر أو متداخِل في أمور غيره. ولكن إن كان كمسيحي، فلا يخجل، بل يُمجِّد الله من هذا القبيل. لأنه الوقت لابتداء القضاء من بيت الله» (1بط 4: 14-17).

? كما تأتي أيضاً كلمة ”الصبر“ بمفهوم إيجابي؛ بمعنى: المثابرة، وانتظار الثمار بصبر، والمحاضرة في الجهاد، والسعي نحو الكمال المسيحي:

أ - في المثابرة:

+ «الذي سيُجازي كل واحد حسب أعماله. أما الذين بصبرٍ في العمل الصالح يطلبون المجد والكرامة والبقاء، فبالحياة الأبدية» (رو 2: 7،6).

ب – انتظار الثمار بصبر:

+ «وأما ثمر الروح، فهو محبة، فرح، سلام، طول أناة، لطف، صلاح، إيمان وداعة تعفُّف» (غل 5: 22).

+ «والذي في الأرض الجيدة هم الذين يسمعون الكلمة فيحفظونها في قلب جيد صالح، ويُثمرون بالصبر» (لو 8: 15).

+ «ولكن إن كُنَّا نرجو ما لسنا ننظره، فإننا نتوقَّعه بالصبر» (رو 8: 25).

+ «لأن كل ما سبق فكُتب، كُتب لأجل تعليمنا، حتى بالصبر والتعزية بما في الكتب يكون لنا رجاء» (رو 15: 4).

ج – المحاضرة بالصبر في الجهاد الموضوع أمامنا:

+ «وليس ذلك فقط، بل نفتخر أيضاً في الضيقات عالمين أن الضيق يُنشئ صبراً، والصبر تزكية، والتزكية رجاء. والرجاء لا يُخزي» (رو 5: 3-5).

+ «لأنكم تحتاجون إلى الصبر حتى إذا صنعتم مشيئة الله، تنالون الموعـد» (عب 10: 36).

+ «لذلك نحن أيضاً إذ لنا سحابة من الشهود مقدار هذه محيطة بنا، لنطرح كل ثقل والخطية المُحيطة بنا بسهولة، ولنُحاضر بالصبر في الجهاد الموضوع أمامنا، ناظرين إلى رئيس الإيمان ومُكمِّله يسوع، الذي من أجل السرور الموضوع أمامه احتمل الصليب مستهيناً بالخزي، فجلس في يمين عرش الله» (عب 12: 2،1).

د - السعي نحو الكمال المسيحي:

+ «وأما الصبر فليكن له عمل تام، لكي تكونوا تامين وكاملين غير ناقصين في شيء» (يع 1: 4).

+ «متقوِّين بكل قوة بحسب قدرة مجده لكل صبر وطول أناة بفرح» (كو 1: 11).

+ «والرب يهدي قلوبكم إلى محبة الله وإلى صبر المسيح (أي التشبُّه بالمسيح في احتماله وصبره)» (2تس 3: 5).

+ «ليس أني قد نلتُ أو صرتُ كاملاً، ولكني أسعى لعلِّي أدرك الذي لأجله أدركني المسيح. أيها الإخوة، أنا لستُ أحسب نفسي أني قد أدركتُ. ولكني أفعل شيئاً واحداً، إذ أنا أنسى ما هو وراء وأمتدُّ إلى ما هو قدَّام. أسعى نحو الغرض، لأجل جعالة دعوة الله العُليا في المسيح يسوع» (في 3: 12-14).

+ «إن كُنَّـا نصبر فسنملك أيضاً معه» (2تي 2: 12).

+ «كُن أميناً إلى الموت، فسأُعطيك إكليل الحياة» (رؤ 2: 10).

+ «أنا عارف أعمالك ومحبتك وخدمتك وإيمانك وصبرك، وأنَّ أعمالك الأخيرة أكثر من الأولى» (رؤ 2: 19).

+ «لأنك حفظت كلمة صبري، أنا أيضاً أحفظك من ساعة التجربة العتيدة أن تأتي على العالم كله لتُجرِّب الساكنين على الأرض» (رؤ 3: 10).

+ «هنـا صـبر القديسـين وإيمانـهم» (رؤ 13: 10).

+ «هنا صبر القديسين الذين يحفظون وصايا الله وإيمان يسوع» (رؤ 14: 12).

وهكذا يتضح من هذه الآيات ضرورة الصبر في الجهاد الموضوع أمامنا، والتمسُّك بيقين الرجاء إلى النهاية: «لأنه بعد قليل جداً سيأتي الآتي ولا يُبطئ» (عب 10: 37)، «ولنُلاحظ بعضنا بعضاً للتحريض على المحبة والأعمال الحسنة... لأن الذي وعد هو أمين» (عب 10: 23،24). لأن الرب قال: «مَن يغلب فسأُعطيه أن يأكل من شجرة الحياة التي في وسط فردوس الله» (رؤ 2: 7).

كما وعد أيضاً كل مَن يصبر ويغلب ويكون أميناً إلى المنتهى، بكل هذه الوعود الصادقة - التي ذكرها يوحنا الرائي - لملائكة الكنائس السبع في سفر الرؤيا:

+ «مَـن يَغلِب فسأُعطيه أن يأكل مـن شجرة الحياة التي في وسط فردوس الله» (رؤ 2: 7).

+ «مَـن يغلب فـلا يؤذيه الموت الثاني» (رؤ 2: 11).

+ «مَن يغلب فسأُعطيه أن يأكل من المَنِّ المُخْفَى، وأُعطيه حَصَاةً بيضاء، وعلى الحصاة اسمٌ جديدٌ مكتوبٌ، لا يعرفه أحدٌ غير الذي يأخذ» (رؤ2: 17).

+ «مَن يغلب ويحفظ أعمالي إلى النهاية فسأُعطيه سلطاناً على الأُمم، فيرعاهم بقضيب من حديد... وأُعطيه كوكب الصبح» (رؤ 2: 26-28).

+ «مَن يغلب فذلك سيلبس ثياباً بِيضاً، ولن أمحو اسمه من سِفْر الحياة، وسأعترف باسمه أمام أبي وأمام ملائكته» (رؤ 3: 5).

+ «مَن يغلب فسأجعله عموداً في هيكل إلهي، ولا يعود يخرج إلى خارج، وأكتب عليه اسم إلهي، واسم مدينة إلهي أورشليم الجديدة النازلة من السماء من عند إلهي، واسمي الجديد» (رؤ 3: 12).

+ «مَن يغلب فسأُعطيه أن يجلس معي في عرشي، كما غلبتُ أنا أيضاً وجلستُ مع أبي في عرشه» (رؤ 3: 21).

لذلك يحثُّنا جميع القديسين على الصبر بكلماتٍ قوية ومُشجِّعة. فيقول القديس مقاريوس الكبير:

[الشياطين إذا رأوا إنساناً قد شُتِمَ أو أُهين أو خسر شيئاً، ولم يَغْتَمَّ، بل احتمل بصبرٍ وتجلُّد؛ فإنها ترتاع منه، لأنها تعتقد وتَعْلَم بأنه قد سلك في طريق الله] (بستان الرهبان: فقرة 51).

[فالآن، أيها الأحبَّاء، جاهدوا واصبروا إلى الموت كالقدِّيسين لتصيروا مسكناً لله... اصبروا للتجارب التي تأتي عليكم من العدو واثبتوا في قتاله ومقاومته، فإنَّ الله يُعينكم ويهبكم أكاليل النصرة. فقد كُتِبَ: ”طوبى للرجل الذي يصبر للبلايا ويصبح مُجرَّباً، فإنه ينال إكليل الحياة“... فقد سمعتم قول الرب لأحبائه...: «الذي يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص». وقد قدَّم لنا نفسه مثالاً كيف نصبر إلى المنتهى... وقَبِلَ الآلام وصَبِرَ حتى الصليب والموت، ثم قام بالمجد، وصعد إلى السماء، وجلس عن يمين الله].

(نفس المرجع: فقرة 54)

[إن الذي يُلازم الصلاة يقتني أفضل الأعمال، إذ هو محتاجٌ إلى جهادٍ أكثر من سائر الأعمال. لذلك ينبغي له الحرص الدائم والصبر والتعب دائماً، لأن الشرير يُناصبه العداء، ويجلب عليه نعاساً وكسلاً وثقل جسد وانحلالاً وضجراً وأفكاراً مختلفة] (شرحه: فقرة 56).

[إن طول الروح هو الصبر، والصبر هو الغلبة، والغلبة هي الحياة، والحياة هي الملكوت، والملكوت هو الله تبارك اسمه].

(شرحه: فقرة 200)

(1) الأب متى المسكين، كتاب: ”الرسالة إلى العبرانيين - شرح ودراسة“، ص 622-628.

(2) القديس يوحنا ذهبي الفم، ”تفسير الرسالة إلى العبرانيين“.

(يتبع)