دراسة الكتاب المقدس
|
|
|
تفاصيل العهد وشروطه (12: 1 - 26: 19)
التأكيد على ما سبق من توصيات لتُلائم الأوضاع الجديدة في أرض الموعد:
+ «إذا وسَّع الرب إلهك تخومك كما كلَّمك، وقلتَ آكُلُ لحماً، لأن نفسك تشتهي أن تأكل لحماً. فمِنْ كل ما تشتهي تأكل لحماً. إذا كان المكان الذي يختاره الرب إلهك ليضع اسمه فيه بعيداً عنك، فاذبح من بقرك وغنمك التي أعطاك الرب كما أوصيتك وكُل في أبوابك من كل ما اشتهت نفسك. كما يؤكل الظبي والأُيَّل هكذا تأكله. النجس والطاهر يأكلانه سواءً، لكن احترز أن لا تأكل الدم، لأن الدم هو النفس، فلا تأكل النفس مع اللحم. لا تأكله، على الأرض تسفكه كالماء. لا تأكله لكي يكون لك ولأولادك من بعدك خيرٌ إذا عملت الحق في عيني الرب. وأما أقداسك التي لك ونذورك فتحملها وتذهب إلى المكان الذي يختاره الرب. فتعمل محرقاتك، اللحم والدم على مذبح الرب إلهك. وأما ذبائحك فيُسفك دمها على مذبح الرب إلهك واللحم تأكله. احفظ واسمع جميع هذه الكلمات التي أنا أُوصيك بها لكي يكون لك ولأولادك من بعدك خير إلى الأبد إذا عملتَ الصالح والحق في عيني الرب إلهك» (12: 20-28).
في الفقرات السابقة من نفس هذا الأصحاح (12: 13-19) نلاحظ أن الرب قد سمح للشعب عند سكناهم في أرض الموعد، أن يذبحوا ويأكلوا في أماكن سكناهم من كل ما تشتهي نفوسهم. ونجده هنا يُؤكد نفس هذا الأمر ويتوسع فيه ويُوضِّح أسبابه. فإنه كنتيجةٍ لاتساع تخومهم وامتداد مساحتها، فإن غالبية الشعب الإسرائيلي سيقطنون في أماكن بعيدة عن المكان الذي يختاره الرب ليضع اسمه فيه.
لذلك كرَّر موسى قوله لهم، إنه مسموح لهم في هذه الحالة أن يذبحوا ويأكلوا في أماكن سكناهم من كل ما يشتهون.
وأضاف هنا أنه مسموح لهم أن يأكلوا من الغنم والبقر أيضاً، بالإضافة إلى الظبي والأيل. إلاَّ أنه حذَّرهم مرة أخرى من أَكل الدم للأسباب التي ذكرناها سابقاً: «لأن الدم هو النفس، فلا يأكل النفس مع اللحم».
ويُبيِّن العلاَّمة كليمندس الإسكندري قدسيَّة الدم، ويُعلِّل سبب قول الرب في العهد القديم: إن ”الدم هو النفس“، فيزيد على ذلك بقوله: ”إن الدم هو الكلمة“، إذا كان ذلك الدم هو دم الإنسان، فيقول:
[أما أنَّ الدم هو الكلمة، فيشهد على ذلك دم هابيل البار في توسُّله لدى الله (مت 23: 35؛ عب 12: 24)، لأن الدم لم يكن ممكناً أن ينطق ويُعطي صوتاً، لو لم يكن قد حُسِبَ كالكلمة. لأن الإنسان البار في (العهد) القديم، هو رمز لذاك البار في (العهد) الجديد؛ والدم الذي تشفَّع في القديم، كان يُشير إلى ذاك الذي يتشفع بدمه في (العهد) الجديد. والدم الذي هو الكلمة يصرخ إلى الله، حيث إنه كان يُشير إلى الكلمة الذي كان مُزمعاً أن يتألم...
من هذا كله يتضح كذلك أن العنصر الأساسي في جسد الإنسان هو الدم... فمن جميع الوجوه، وفي جميع الأحوال، إذن، فقد جيء بنا إلى الوحدة مع المسيح في علاقتنا به من خلال الدم الذي بواسطته قد افتُدينا؛ وإلى الشركة معه كنتيجة للتغذية التي تسري من الكلمة (ومن خلال جسده ودمه في سر التناول)؛ وإلى الخلود من خلال قيادته لنا (بالروح القدس الساكن فينا)](1).
عودة إلى الأقداس:
وبعد أن أكَّد موسى على الشعب تحريم أَكل الدم مطلقاً للأسباب التي أوضحناها، عاد للحديث عن الأقداس: «وأما أقداسك التي لك ونذورك فتحملها وتذهب إلى المكان الذي يختاره الرب. فتعمل محرقاتك، اللحم والدم على مذبح الرب إلهك. وأما ذبائحك فيُسفك دمها على مذبح الرب إلهك واللحم تأكله» (12: 27،26).
واضح أن هــذه التوصيات قــد تكررت، وقــد سبق ذكــرها في نفس الأصحاح (في الأعـداد 18،17،13،11،7،6)، وإنما بأساليب مختلفة. ولكنه هنا يؤكِّد على الفرق بين ما يؤكل للمتعة والتلذُّذ في البيت والأسرة والمجتمع، وبين ما يُقدَّس للرب من العشور والنذور والذبائح والمحرقات التي يلزم أن تقدَّم في المكان الذي اختاره الرب وحده دون غيره.
وهو يُفرِّق هنا أيضاً بين نوعين من الذبائح: المحرقات التي تُقدَّم كلها على مذبح الرب، فيُوقد اللحم جميعه ويُرش الدم حول المذبح كما هو موضَّح في (لا 1)؛ وذبائح السلامة التي كان يُرش دمها على المذبح ويُوقد شحمها وأجزاؤها الداخلية فوق المذبح، ويأخذ الكهنة نصيبهم المخصَّص لهم ويأكل أصحاب الذبيحة باقي لحمها، كما هو مذكور في (لا 3).
ثم يختم موسى هذه الفقرة بتوصيتهم مُجدَّداً أن يحفظوا هذه الكلمات لكي يعملوا بها حتى يكون لهم ولأولادهم من بعدهم خير إلى الأبد. وهو لا يكل ولا يمل عن توصيتهم بحفظ وصايا الرب، فهو كراعٍ صالح يقود خرافه إلى مراعٍ خضر، ويحرص على حياتهم وسعادتهم وخلاصهم؛ لذلك فهو يريد أن يغرس في قلوبهم محبة الله ومخافته والتمسك بوصاياه، كما جاء في المزامير:
+ «فرائض الرب مستقيمة تُفرِّح القلب. وصية الرب مُضيئة تُنير العينين عن بُعد. خشية الرب زكية دائمة إلى الأبد. أحكام الرب أحكام حقٍّ وعادلة معاً. شهوة قلبه مختارة أفضل من الذهب والحجر الكثير الثمن، وأحلى من العسل والشهد، أيضاً عبدك يحفظها وفي حفظها ثواب عظيم» (مز 19: 8-11 السبعينية).
لا تتشبَّه بعبدة الأوثان:
مرة أخرى يُحذِّرهم موسى من أن ينقادوا وراء آلهة الأُمم الذين سيُبيدهم الرب من أمامهم. فيقول لهم:
+ «متى قرض الرب إلهك من أمامك الأُمم الذين أنت ذاهب إليهم لترثهم وورثتهم وسكنت أرضهم. فاحترز من أن تُصاد وراءهم من بعد ما بادوا من أمامك ومن أن تسأل عن آلهتهم قائلاً: كيف عَبَدَ هؤلاء الأُمم آلهتهم فأنا أيضاً أفعل هكذا. لا تعمل هكذا للرب إلهك لأنهم قد عملوا لآلهتهم كل رجس لدى الرب مِمَّا يكرهه، إذ أحرقوا حتى بنيهم وبناتهم بالنار لآلهتهم» (12: 29-31).
تُمثِّل هذه الكلمات، ليس فقط تحذيراً لبني إسرائيل من أن يتشبَّهوا بالأُمم الذين طردهم الرب من أمامهم في عبادتهم للأوثان، ولكنها تُبيِّن أيضاً عدالة الله في حُكْمه بطردهم وإبادتهم بسبب أعمالهم الشنيعة التي كانوا يعملونها في عباداتهم مثل تقديم بنيهم وبناتهم محرقة لآلهتهم. فقد كانوا يشوونهم بالنار وهم أحياء إرضاءً للآلهة، مثلما كان يفعل العمُّونيون لمولوك إلههم والفلسطينيون لداجون.
فقد كانت هذه الأفعال مكروهة ومرذولة جداً في عيني الرب، وكانت سبب غضبه عليهم وإبادته لهم. وهذا التحذير هو في الواقع إنذار لبني إسرائيل حتى لا يتشبَّهوا بهم لئلا يكون مصيرهم الطرد من أرض الموعد مثل مصير تلك الأُمم، لأنه ليس عند الله محاباة.
وقد سبق أن حذَّر الله إسرائيل من ذلك في سفر اللاويين قائلاً لهم:
+ «لا تُعطِ من زرعك (أي من نسلك) للإجازة (أي إجازة أولادهم في النار) لمولك (الآلهة الوثنية) لئلا تُدنِّس اسم إلهك، أنا الرب. ولا تُضاجع ذكراً مضاجعة امرأة، إنه رجس. ولا تجعل مع بهيمة مضجعك فتتنجَّس بها، ولا تقف امرأة أمام بهيمة لنزائها، إنها فاحشة. بكل هذه لا تتنجَّسوا لأنه بكل هذه قد تنجَّس الشعوب الذين أنا طاردهم من أمامكم، فتنجَّست الأرض. فأجتزي ذنبها منها فتقذف الأرض سُكانها... لأن جميع هذه الرجاسات قد عملها أهل الأرض الذين قبلكم فتنجَّست الأرض. فلا تقذفكم الأرض بتنجيسكم إيَّاها كما قذفت الشعوب التي قبلكم» (لا 18: 21-28؛ انظر أيضاً لا 20: 2-5).
ومما يؤسف له أن ملوك إسرائيل قد أخطأوا إلى الرب إلههم وسلكوا حسب فرائض الأُمم الذين طردهم الرب من أمامهم، وعبدوا الأصنام، «وعبَّروا بنيهم وبناتهم في النار، وعرفوا عرافةً، وتفاءلوا وباعوا أنفسهم لعمل الشر في عيني الرب لإغاظته، فغضب الرب جداً على إسرائيل ونحَّاهم من أمامه ولم يبقَ إلاَّ سبط يهوذا وحده. ويهوذا أيضاً لم يحفظوا وصايا الرب إلههم بل سلكوا في فرائض إسرائيل التي عملوها. فرذل الرب كل نسل إسرائيل وأذلَّهم ودفعهم ليد ناهبين حتى طرحهم من أمامه» (2مل 17: 17-20؛ انظر أيضاً 2مل 21: 6-12؛ 2أي 28: 3-5).
وأخيراً عاد موسى وأكَّد عليهم أن يحرصوا على حفظ كل الكلام الذي أوصاهم به ليعملوه قائلاً:
+ «كلُّ الكلام الذي أُوصيكم به احرصوا لتعملوه. لا تَزِدْ عليه ولا تُنَقِّص منه» (12: 32).
فلا يحقُّ لهم أن يزيدوا على كلام الله شيئاً من تعاليم الأُمم وعباداتهم، ولا يحقُّ لهم أن يُنقصوا من كلام الرب شيئاً، لأن الرب قال:
+ «الحق أقول لكم: إلى أن تزول السماء والأرض، لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل» (مت 5: 18).
(يتبع)